{ قل } يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة منبئا عن الاستقامة والعدالة مبنيا عليهما: { كل } من المحق والمبطل، والضال والمهدي { يعمل } ويعتدي { على شاكلته } وطريقته التي تشاكل وتشابه حاله ووقته إياها؛ إذ كل ميسر موقن من عندنا لما خلق له، سواء كان من رشد أو غي، أو ضلالة أو هداية، ولا علم لكم يا بني آدم على حقيقة الأمر والحال { فربكم أعلم } بعلمه الحضوري { بمن هو أهدى } وأقوم { سبيلا } [الإسراء: 84] وأوضح منهجا وأسد طريقا، فيوفقه على جهته ووجهته.
ثم قال سبحانه تأييدا لحبيبه صلى الله عليه وسلم وتعليما: { ويسألونك } يا أكمل الرسل؛ فوق النصارى واليهود وجميع أهل الزيغ والضلال { عن الروح } المتعلق بالأجساد المحيي لها ومحركها بالإدارة والاختيار، وإذا انفصل وافترق عنها مات، ولم يتحرك وانقطع الشعور والإدراك عنها؛ أي: يسألونك عن لميه وكيفية تعلقه وارتباطه بالأجسام، وكيفية انفصاله عنها { قل الروح } نفسه، وكيفية تعلقه بالأجسام وكيفية انفصاله عنها كلها صادرة ناشئة { من أمر ربي } أي: مما حصل بأمره الدال على تكوين المكونات، وهو قول: " كن " الدال على سرعة نفوذ قضائه.
وأما كمية المقضي وكيفية حصوله وانفصالهن فأمر استأثر الله به في غيبه، ولم يطلع أحدا عليه لذلك قا ل: { ومآ أوتيتم } يا بني آدم { من العلم } المتعلق بالورح { إلا قليلا } [الإسراء: 85] وهو أنيته وتحققه دون لميته وحقيقته؛ لأن اطلاع الإنسان على الأشياء إنما هو بقدر قابليته واستعداده، وليس في وسعه وطاقته أن يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصولها وتكونها، فكيف حقيقة الروح، وكيفية تعلقها في البدن.
غاية ما في الباب أن المكاشفين من أرباب الأذواق ينكشفون في البدن، ويتفطنون منها أن ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأتها ونمائها إنما هي تلك السراية، هذا نهاية ما يمكن التكلم والتفوه عنه، وأما الاطلاع على كنهها، فأمر لا يسعه مقدرة البشر.
ثم قال سبحانه: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } أي: والله إن شئنا وأردنا إذاهب القرآن المرشد لقاطبة الأنام، لحككناه من المصاحف ومحوناه من الصدور والخواطر { ثم } بعد إذهابنا ومحونا { لا تجد لك به علينا وكيلا } [الإسراء: 86] أي: لا تجد ظهيرا معينا لك يطالبنا بمجيئه.
[17.87-96]
{ إلا رحمة } ناشئة { من ربك } يا أكمل الرسل نازلة إليك إن سألت منه سبحانه رده يرده تلطفا وعطفا { إن فضله } سبحانه { كان عليك كبيرا } [الإسراء: 87] مثل اصطفائك من بين البرية، وإرسالك إلى كافة الناس، وتأييدك ونصرك في عموم الأوقات، وغير ذلك.
ثم لما قال بعض المعاندين من الكفار الطاعنين في القرآن لو شئنا لقلنا مثل هذا القرآن الذي جئت به يا محمد، ونسبته إلى الله افتراء، نزل: { قل } لهم يا أكمل الرسل في جوابهم مقسما مؤكدا: والله { لئن اجتمعت الإنس والجن } واتفقوا معارضين { على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } الجامع لأحوال النشأتين، الواقع في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة لما حصل لهم الإيتان بمثله وهم فرادى، بل { لا يأتون بمثله } في الجامعية والبلاغية، واتساق اللفظ والمعنى، ومتانة النظم والفحوى { ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } [الإسراء: 88] أي: ولو كا نوا متظاهرين متعاضدين في إتيانه، لم يتأت أيضا منهم الإتيان، لكونه خارجا عن طوق البشر.
{ و } الله { لقد صرفنا } وكررنا { للناس في } حق { هذا القرآن } المعجز لفظا ومعنى { من كل مثل } موضح لهم إعجازه، وخروجه عن معرض معارضة البشر، وارتفاع شأنه عن القدح والطعن فيه { فأبى أكثر الناس } وامتنعوا عن قبوله، ولم يتفطنوا لإعجازه، ولم يزيدوا في حقه مع ظهور الدلائل والشواهد المكررة { إلا كفورا } [الإسراء: 89] جحودا وإنكارا بدل القبول واليقين بحقيته.
{ و } مع ظهور هذا المعجز المشتمل لما في العالم غيبا وشهادة، إجمالا وتفصيلا { قالوا } تعننتا اقتراحا: { لن نؤمن لك } ونصدق بكتابك { حتى تفجر } وتشقق { لنا من الأرض } أي: أرض مكة { ينبوعا } [الإسراء: 90] أي: عينا جارية نشرب منه ونزرع ونغرس على وجه العموم.
Shafi da ba'a sani ba