348

وبعدما وصلت أيها السالك الناسك إليها لم يبق لك درجة الاستكمال والاسترشاد، بل صرت كاملا رشيدا وإن الهمت وأذنت من عنده سبحانه صرت مرشدا مكملا لأهل النقصان، شفيعا لهم عند الله بإذنه؛ لتنقذهم من لوازم الإمكان المفضي إلى دركات النيران، وتوصلهم إلى فضاء الجنان بتوفيق الله إياك وإياهم.

{ و } بعد وصولك لسيعك وجهدك وأنواع تهجدك، وإقامتك في خلال الليالي بتوفيق الله، وتيسيره على ما وصلت من المقامات العلية والمراتب السنية { قل } مناجيا إلى ربك ملتجئا نحوه طالب التمكن والتقرر في المقام الذي وصلت إليه بتوفيقه وتأييده: { رب } يا من رباني بأنواع اللطف والكرم { أدخلني } بفضلك وجودك { مدخل صدق } ومنزل قرار، وهو مقر التوحيد المسقط لأنواع الإضافات والكثرات، وخلدني فيه لا تذبذب وتلوين { وأخرجني } عن مقتضيات أنانيتي وهويتي إلى فضاء الفناء الموصل إلى شرف البقاء واللقاء { مخرج صدق } بلا تلعثم ونزلزل { واجعل لي } حين معارضة أنانيتي معي واستيلاء أمارتي علي { من لدنك سلطانا } أي: برهانا قاطعا وكشفا صريحا وشهودا تاما؛ ليكون { نصيرا } [الإسراء: 80] لمن ينصرني على أعدائي، ويخلصني من أيديهم حين هجومهم علي.

{ وقلا } بعدما تحققت وتمكنت في مقر الكشف والشهود: { جآء الحق } الصريح الثابت، ولاح الشمس الذات { وزهق } أي: تلاشي واضمحل { الباطل } أي: العكوس والأظلال الهالكة الباقية على عدماتها الأصلية { إن } العدم { الباطل } الزائل الزاهق الظاهر على صورة الحق { كان زهوق } [الإسراء: 81] في نفسه، مضمحلا في ذاته، باقيا علكى عدمه، وإن أوهم وخيل أنها موجودات متأصلات في الوجود، إلا أنها ما شم في رائحة منه سوى أن أشعة التجليات الوجودية الإلهية لاحت عليها، فيتراءى ما يتراءى، فظن المحجوب بأنها موجود،

من لم يجعل الله له نورا فما له من نور

[النور: 40].

ومتى تحققت وتمكنت بمقامك المحمود وفزت، فزت من الحوض المورود { وننزل } عليك تعظيما لشأنك وتأييدا لأمرك { من القرآن } المبين الموضح لمراتبك العلية من التوحيد { ما هو شفآء } لمرض القلوب بسموم الإمكان في مضيق الحدثان، ومحبس الملوين من الموفقين بشرف متابعتك { ورحمة } نازلة { للمؤمنين } بكل المصدقين بدينك وكتابك؛ ليسترشدوا ويستكشفوا بما فيه من الرموز والإشارات قدر قابلياتهم واستعداداتهم كي يتفطنوا أو يتنبهوا بما فيه من السرائر المودعة المتعلقة بسلوك مسالك التوحيد { ولا يزيد الظالمين } الخارجين عن مقتضى حدوده وأحكامه استنكارا له واستكبارا { إلا خسارا } [الإسراء: 82] ووبارا لإخسار أعظم منه، وهو إبطالهم الحكمة التي جبلهم الحق لأجلها، ألا وهي المعرفة والتوحيد، وما ينتمي إلأيها من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية المقبولة عند الله.

ثم أخبر سبحانه عن تمايل الإنسان وتلوينه وعدم رسوخه، وتمكنه بحال من الأحوال وعدم فطنته وذكائه بذاته، وكيفية افتقاره واختياره واحتياجه إلى الحق، وعدم تأمله في أمر مبدئه ومعاده، وكيفية ارتباطه بالحق في النشأة الأولى والأخرى فقال: { وإذآ أنعمنا } وأعطينا من كمال فضلنا وجودنا { على الإنسان } المجبولين على الكفران والنسيان ووسعنا له طرق معاشه { أعرض } عنا، وانصرف عن شكرنا وعن الالتجاء والارتجاء بنا عنادا واستكبارا { و } صار من إفراط عتوه إلى حيث { نأى } وتباعد { بجانبه } أي: طوى كشحه ولوى عطفه عنا، كأنه مستغن في ذاته، مستقل في أمره، بحيث لا يخطر بباله احتياجه إلينا، ولهذا تجبر واستعلى، وبالغ في الجدال والمراء إلى أن قال:

أنا ربكم الأعلى

[النازعات: 24].

{ وإذا مسه الشر } وأزعجه البلاء، وهجم عليه الشدة والعناء، وترادفت عليه الوقائع والمصيبات { كان } من قلبة تصبره وضعف يقينه وتدبره { يئوسا } [الإسراء: 83] عن روح الله، شديد القنوط عن سعة لطفه ورحمته، والطرفان؛ أي: إفراط الاستغناء والاستكبار، وتفريط اليأس والقنوط، كلامهما مذمومان محظوران عقلا وشرعا.

Shafi da ba'a sani ba