وقد جمع - أعلى المولى مقامه - مصنفات أدبية ومجموعات بهية، منها: «بدائع الغرف في الصناعات والحرف» لم ينسج فاضل على منواله، ولا ازدانت صحف الصناعة بسفر على مثاله، أوضح فيه الصناعات الشامية، على الحروف الهجائية، فغدا ك «القاموس المحيط» لمفرداتها والضالة المنشودة المتوشحة بلآلئ تحريراتها، بيد أنه وصل إلى منته حرف السين، وحالت المنون دون إتمامه على نهجه المبين 1. ومن تآليفه البهية تنقيح «الحوادث اليومية الواقعة في دمشق المحمية» التي جمعها الشيخ أحمد البديري الشهير بالحلاق. ومن تصانيفه الفائقة كتاب «الثغر الباسم في ترجمة والده سيدي الجد العلامة الشيخ قاسم» ومنها: «سفينة الفرج فيما هب ودب ودرج» على نمط «الكشكول» 2 صاغها من سبائك الفوائد وطرزها بنفائس الفرائد، وكان رحمه الله جميل الشكل، حسن البزة، بديع الصوت، له معرفة جيدة بالأنغام، حفظ نحو نصف القرآن الكريم، جيد الأداء. وقد نسخ بخطه البديع كثيرا من الكتب النفيسة، وكانت تدعوه الوزراء بالمكاتبات للمحافل الرسمية فلا يحضرها تعففا عن الدخول والمزاحمة فيما لا يجديه. ولم يطمح نفسه لطلب الوظائف والرحلة إليها، وحماه المولى من ذلك. وكان ينكر على من أدخل نفسه من أهل العلم في تلك الأبواب. ولم يرحل إلا إلى المساجد الثلاث 3 فقط، رضي عن المولى باليسير من الرزق وخلف أباه الماجد في الفضل والشهرة والذكر الحسن بين الناس، وتودد الفضلاء إلى زيارته، واقتنى كتبا نفيسة، وكان لا يرى للعيش لذة ولا للحياة قيمة إلا في سبيل مطالعة الكتب، فلا يمل منها ليلا ولا نهارا، وربما قطع معظم الليل في ذلك، حتى كانت أدوات كتابته وما يطالعه جنب فراشه. وكان لا يجارى في المحاورات العلمية لقوة استحضاره أطراف المسائل، ومن جاراه في مسألة لا يثبت معه ويحار من سرعة أجوبته ومناقشته وكثيرا ما كان يعترض أثناء مطالعته بعض المباحث المدونة في الحواشي والشروح، ويقرر وجه المناقشة فيها ذكاء وفهما ثاقبا.
وبالجملة فمزاياه الجليلة وشيمه الجميلة أجل من أن يحصيها قلمي، ويمليها على طرس فمي. ولم يزل على طريقته الحسنة وفضائلها المستحسنة إلى أن فجعنا بجوهره الخطير، ويا له من مصاب كبير، استهوى المدامع، ودق الأضالع، وذلك صباح يوم الجمعة ثالث عشر شوال سنة سبع عشرة وثلاثمائة وألف فجأة. وكان يومئذ أدى صلاة الفجر إماما بجامع السنانية ثم قدم إلى داره. وجئت على أثره من جامع العنابة وجلست معه نتجاذب أطراف الأحاديث حتى هيء لنا شراب الشاي فتناولناه معا على صفاء وسرور، ولم أزل أسقيه حتى قال لي: اكتفيت، وجلس بعد شربه حصة ثم قام فتبعه ابني ضياء الدين وله عامان ونيف، فقلت له وهو واقف: ما أولع ابني بك يا سيدي، فالتفت إليه ولاطفه ثم خرج إلى صحن الدار، فتبعته ابنتي، ثم دخل إلى محل آخر واستند إلى حائطه وفاضت نفسه الكريمة، فلم نشعر ونحن في محلنا إلا وابنتي مسرعة فزعة دخلت إلينا قائلة جدي لا أدري ما أصابه.
Shafi 52