يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف؛ إلا بعض شواذ؛ كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العبّاسيّ ونور الدّين الشّهيد. فإنَّ هؤلاء الخلفاء الرّاشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النّازل بلغتهم، وعملوا به واتَّخذوه إمامًا، فأنشؤوا حكومة قضَتْ بالتّساوي حتَّى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمّة في نعيم الحياة وشظفها، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية اشتراكية لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أبٍ واحد وفي حضانة أمٍّ واحدة، لكُلٍّ منهم وظيفة شخصية، ووظيفة عائلية، ووظيفة قومية. على أنَّ هذا الطّراز السّامي من الرّياسة هو الطِّراز النّبوي المُحمَّدي الذي لم يخلفه فيه حقًّا غير أبي بكر وعمر، ثمَّ أخذ بالتّناقص، وصارت الأمّة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إلى الآن، وسيدوم بكاؤها إلى يوم الدِّين إذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسيّ شوريّ؛ ذلك الطّراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب؛ تلك الأمم التي، لربّما يصحُّ أنْ نقول، قد استفادت من الإسلام أكثر ممّا استفاده المسلمون.
وهذا القرآن الكريم مشحونٌ بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتّساوي حتّى في القصص منه؛ ومن جملتها قول بلقيس ملكة سبأ من عرب تُبَّع تخاطبُ أشراف قومها: ﴿يا أيُّها الملأُ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمرًا حتى تَشهَدون * قالوا نحن أولوا قوةٍ وأُولوا بأسٍ شديدٍ والأمر إليكِ فانظري ماذا تأمرين * قالت إنَّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذِلةً وكذلك يفعلون﴾.
فهذه القصة تُعلِّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ؛ أي أشراف الرَّعية،
1 / 34