وكان إبراهيم فتح الله يميل على أذن جاره هامسا في حقد: ابنه! هذه هي الحكاية، عبد الرحيم باشا عيسى .. فهمت؟! .. اسفخص!
27
كان السيد أحمد عبد الجواد جالسا على كرسي كبير في المشربية ينظر إلى الطريق حينا، وحينا في جريدة الأهرام المبسوطة على حجره، وكانت ثقوب المشربية تعكس على جلبابه الفضفاض وطاقيته نقطا من الضياء. وقد ترك باب حجرته مفتوحا ليتمكن من سماع الراديو القائم في الصالة. غير أنه بدا ناحلا ضامرا، كما لاحت في عينيه نظرة ثقيلة تنم عن استسلام حزين. وكان كأنما يكتشف الطريق - من مجلسه بالمشربية - لأول مرة في حياته، فلم يسبق له أن رآه من هذه الزاوية في أيام حياته الماضية؛ إذ إنه لم يمكث في البيت إلا ساعات النوم على وجه التقريب، أما اليوم فلم تعد له من تسلية - بعد الراديو - إلا هذه الجلسة في المشربية، ينظر من ثقوبها شمالا وجنوبا. وإنه لطريق حي، مسل لطيف، وله إلى هذا طابعه الذي يميزه عن طريق النحاسين الذي ألف رؤيته من دكانه - السابق - زهاء نصف قرن من الزمان، وهذه دكاكين حسنين الحلاق ودرويش الفوال والفولي اللبان وبيومي الشربتلي وأبو سريع صاحب المقلى، تقوم في الطريق كالقسمات في الوجه حتى عرف بها وعرفت به، أي عشرة وأي جوار. ترى ما أعمار هؤلاء الناس؟ حسنين الحلاق مدمج الخلق، من نوع قل أن يبدو عليه أثر الزمن، لم يكد يتغير منه شيء إلا شعره، ولكنه جاوز الخمسين بلا ريب، من لطف الله بهؤلاء الناس أنه يحفظ عليهم صحتهم! ودرويش؟ أصلع، هكذا كان دائما، ولكنه في الستين، ما أقوى جسمه! كذلك كنت أنا في الستين، ولكنني أمسيت في السابعة والستين فيا له من عمر!
وأعدت تفصيل ثيابي لتناسب ما تبقى من جسدي، وإذا نظرت إلى هذه الصورة المعلقة في حجرتي أنكرت نفسي. الفولي أصغر من درويش؛ ذلك الأعمش المسكين، ولولا غلامه ما عرف كيف يهتدي إلى سبيله. أبو سريع رجل عجوز، عجوز؟! ولكنه ما زال يعمل، لم يفارق واحد منهم دكانه، ألا أن فراق الدكان لشديد! ثم لا يبقى لك إلا هذا المجلس، والقبوع في البيت ليل نهار، لو أستطيع أن أخرج ساعة واحدة كل يوم! ولكن علي أن أنتظر يوم الجمعة، ثم لا بد من العصا، ولا بد من كمال ليصحبني، الحمد لله رب العالمين. بيومي أصغرهم وأسعدهم حظا، من أم مريم بدأ، أما أنا فعندها انتهيت، وهو اليوم مالك أحدث عمارة في الحي، هكذا كان مصير بيت السيد رضوان، أنشأ هذا المشرب المضاء بالكهرباء، حظ رجل يبدأ بخداع امرأة، سبحان العاطي وجلت حكمته! كل شيء يتجدد، الطريق ممهد بالأسفلت، وأضيء بالمصابيح، أتذكر ليالي عودتك آخر الليل في الظلام الدامس؟ لكن أين مني هاتيك الليالي؟ وفي كل دكان كهرباء وراديو، كل شيء جديد، إلا أنا، عجوز في السابعة والستين، لا يستطيع مغادرة داره إلا يوما واحدا في الأسبوع وهو يلهث. القلب! كله من القلب، القلب الذي طالما عشق وطالما ضحك وطالما انبسط وغنى، يقضي اليوم بالقعود ولا راد لقضائه. قال الطبيب: «خذ الدواء والزم البيت واتبع نظامي الغذائي»، حسن، ولكن هل يعيد ذلك إلي قوتي .. أعني بعض قوتي؟ فأجاب الطبيب: «حسبنا أن نمنع المضاعفات، ولكن الجهد أو الحركة شيء خطير» .. (ثم ضاحكا): لماذا تريد أن تسترد قوتك؟ أجل لماذا؟ إنه لشيء محزن مضحك معا، ومع ذلك قال: «أريد أن أذهب وأجيء» فقال الطبيب: «لكل حال مسراتها؛ جلسة هادئة، اقرأ الصحف واسمع الراديو وانعم بأسرتك، ويوم الجمعة زر الحسين راكبا، حسبك هذا!» الأمر لصاحب الأمر، متولي عبد الصمد لا يزال يتخبط في الطرقات! ويقول وانعم بأسرتك! لم تعد أمينة تمكث في البيت، انقلبت الآية، أنا في المشربية وأمينة تجول في القاهرة من مسجد إلى مسجد، كمال يجالسني خطفا كالضيف، عائشة؟ آه يا عائشة، أمن الأحياء أنت أم من الأموات؟ ثم يريدون من قلبي أن يبرأ ويستريح! - سيدي ..
والتفت إلى الوراء صوب الصوت، فرأى أم حنفي حاملة صينية صغيرة عليها قارورة الدواء وفنجان قهوة فارغ وكوب ماء مملوء لنصفه. - الدواء يا سيدي ..
رائحة المطبخ تتطاير من ثوبها الأسود، هذه المرأة التي صارت مع الزمن واحدة من أسرتنا. وتناول الكوب وملأ الفنجان حتى نصفه، وفض سداد القارورة ونقط منها أربع نقط في الفنجان، وقلص وجهه قبل أن يتقلص من طعم الدواء، ثم تجرعه. - بالشفا يا سيدي. - متشكر، أين عائشة؟ - في حجرتها، الله يصبر قلبها. - ناديها يا أم حنفي.
في حجرتها، أو على السطح، ثم ماذا؟ وكان الراديو ما زال يذيع أغانيه ساخرا من حزن البيت الصامت. ولم يكن السيد اضطر إلى ملازمة البيت إلا منذ شهرين، وكان قد مضى على وفاة نعيمة عام وأربعة أشهر، فاستأذن الرجل في سماع الراديو لحاجته الملحة إلى التسلية، فقالت له عائشة «طبعا يا بابا، ربنا يكفيك شر قعدة البيت.» وسمع حفيف ثوب فالتفت فرآها قادمة في ثوب أسود، متشحة بخمار أسود رغم حرارة الجو، تشوب بشرتها البيضاء زرقة غريبة، عنوان التعاسة يا ابنتي. قال برقة: هاتي الكرسي واجلسي معي قليلا ..
ولكنها لم تتزحزح عن موقفها قائلة: مرتاحة هكذا يا بابا.
علمته الأيام الأخيرة ألا يحاول أن يعدل بها عن رأي. - ماذا كنت تفعلين؟
فقالت دون أن ينم وجهها عن أي معنى: لا شيء أفعله يا بابا. - لماذا لا تخرجين مع نينتك لتزوري الأضرحة المباركة، أليس هذا أفضل من بقائك وحدك؟ - ولماذا أزور الأضرحة؟
Shafi da ba'a sani ba