143

فابتسمت دون أن تنبس: «زيديني من سماع صوتك فإنه النغمة الوحيدة من الماضي التي لم يغيرها الزمن.» - ماذا تنوين بعد الليسانس؟ معهد التربية؟

فقالت باهتمام لأول مرة: لا حاجة بي إلى ذلك؛ لأن الوزارة محتاجة إلى مدرسات ومدرسين بسبب ظروف الحرب والتوسع الجديد في التعليم ..

طمع في نغمة واحدة فوهب لحنا كاملا! - إذن ستعملين مدرسة! - نعم، لم لا؟ - إنها مهنة شاقة، سليني عنها.

حضرتك مدرس فيما سمعت؟ - نعم، أوه، نسيت أن أقدم نفسي، كمال أحمد عبد الجواد! - تشرفنا.

فقال باسما: لكنك لم تشرفيني بعد؟ - بدور عبد الحميد شداد! - تشرفنا يا افندم ..

ثم مستدركا كمن فوجئ بشيء فريد: عبد الحميد شداد! ومن العباسية؟ حضرتك أخت حسين شداد؟

فلمعت عيناها في اهتمام وقالت: نعم.

فضحك كمال كأنما يضحك عجبا من غرابة المصادفات وقال: يا سلام! كان أعز أصدقائي، وقضينا معا أياما سعيدة جدا، رباه أأنت أخته الصغيرة التي كانت تلعب في الحديقة؟

فحدجته بنظرة استطلاع. هيهات أن تتذكره! «في ذلك العهد كنت مغرمة بي كما كنت مغرما بأختك.» - لا أذكر شيئا طبعا .. - طبعا، هذا تاريخ يرجع إلى عام 1923 وما بعده حتى عام 1929، تاريخ سفر حسين إلى أوروبا، ماذا يفعل الآن؟ - في فرنسا في القسم الجنوبي الذي انتقلت إليه الحكومة الفرنسية عقب الاحتلال الألماني .. - وكيف حاله؟ من زمن طويل انقطعت عني أخباره ورسائله .. - بخير ..

نطقت بها في لهجة نمت عن رغبة عن الخوض في الموضوع أكثر من ذلك. وتساءل كمال والترام يمر بمكان القصر القديم. ترى ألم يخطئ بمكاشفتها بصداقته القديمة لأخيها؟ أليس في ذلك حد من حريته فيما هو بسبيله؟ ولما جاءت المحطة التالية لقسم الوايلي حيته وغادرت الترام، فلبث في مكانه كأنما نسي نفسه. كان طوال الطريق يتفحصها كلما سنحت فرصة لعله يهتدي إلى السر الذي سحره قديما، ولكنه لم يجده وإن شعر مرارا بأنه منه قريب. وكانت تبدو لطيفة وديعة، وكانت تبدو قريبة المنال. وهو الآن يشعر كأنما يعاني خيبة أمل غامضة وحزنا غير بين الأسباب. لو أراد الزواج من هذه الفتاة ما اعترضه عائق جدي. أجل إنها تبدو مستجيبة ملبية، رغم فارق السن المحسوس أو بسبب فارق السن؟! ثم إن التجارب قد علمته أن شكله لن يعوقه عن الزواج إذا أراده. وهو إذا تزوجها انتقل بقدرة قادر إلى عضوية أسرة عايدة، ولكن ما كنه هذا الخيال السخيف؟ وما عايدة الآن بالنسبة إليه؟ الحق أنه لا يريد عايدة، ولكنه لا يكف عن التطلع إلى معرفة سرها، لعله يقتنع في الأقل بأن أزهى عصور العمر - لم يضع هباء. ووجد رغبة - طالما ألحت عليه على فترات من العمر - في مراجعة كراسة الذكريات وعلبة الملبس التي أهديت إليه ليلة الزفاف. ثم جاش صدره بالحنين حتى تساءل: ترى أيمكن أن يقع الإنسان في الحب وهو يحسن فهمه ويلم بعناصر تركيبه البيولوجية والاجتماعية والنفسية؟ ولكن هل يقي الكيميائي علمه بالسموم من أن يموت بها كضحاياها الآخرين؟! أو فلماذا يجيش صدره هذا الجيشان؟ رغم ما مني به من خيبة الأمل، رغم الفارق الكبير بين الماضي والحاضر، رغم أنه لا يدري إن كان من أهل الماضي أم من أهل الحاضر، رغم هذا كله فصدره جياش وقلبه يخفق ..

Shafi da ba'a sani ba