173

74

وأخيرا؛ فقد استشهد بعض المفسرين بآراء العالم اليهودي الكبير «أينشتين»، الذي كان من أكبر المعجبين باسپينوزا، وأوردوا هذه الآراء في سياق يوحي لأول وهلة بأن أينشتين كان يرى في اسپينوزا ممثلا للتراث اليهودي، وأستطيع أن أؤكد إنني لم أجد فيما اطلعت عليه مما كتبه أينشتين عن اسپينوزا كلمة واحدة توحي، ولو من بعيد، بأنه كان يربط بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي على التخصيص. فإعجابه به لم يكن يرجع إلى أية اعتبارات ضيقة كهذه، وإنما كان يمجد فيه، قبل كل شيء، العالم والإنسان. ولقد تحدث أينشتين عن اهتمام اسپينوزا بالبحث عن العلل الحقيقية لكل ما يحدث في الطبيعة الجامدة وفي الإنسان، وعلق على ذلك الاهتمام قائلا: «لقد وجد في دراسة هذه العلاقة العلية دواء للخوف، والحقد، والمرارة، ووجد فيها الدواء الوحيد الذي يليق بمن كان إنسانا روحيا بحق. وأثبت تبريره لهذا الاعتقاد، لا عن طريق تلك الصيغ الواضحة الدقيقة التي عبر بها عن أفكاره فحسب، بل أيضا عن طريق تشكليه لحياته في صورة مثلى.»

75

هذا هو ما قاله أينشتين في مقدمة لكتاب وضعه باحث يهودي واضح التعصب. ولست أعتقد أنه كان من قبيل المصادفة وحدها أن يتحدث في هذه المقدمة عن العلم بوصفه دواء «للخوف والحقد والمرارة»، وأن يصف هذا الدواء بأنه وحده «الذي يليق بمن كان إنسانا روحيا بحق». بل إن المرء ليستطيع أن يستشف من وراء ذلك مقارنة خفية بين طريقة اسپينوزا في التخلص من الخوف والحقد والمرارة - وهي مشاعر كان لها قطعا تأثيرها في حياته بسبب تعصب الأوساط اليهودية وغير اليهودية المعاصرة له - وبين الطريقة التي يتبعها غيره من اليهود عندما يمرون بهذه المشاعر ذاتها. فاسپينوزا يتغلب على الخوف والحقد بالعلم، الذي يفتح له أبواب الكون على مصراعيه، والذي تكون نتيجته حبا للطبيعة الشاملة عبر عنه رمزيا بفكرة «الحب العقلي لله»، فما أجدر بقية اليهود بأن يلجئوا إلى هذه الطريقة ذاتها، بدلا من أن يبالغوا في الخوف، ويزيدوا الحقد والمرارة اشتعالا! هذا - في اعتقادي - هو ما كان أينشتين يرمي إليه بهذه الكلمات البالغة الدلالة، ولكنه، على أية حال، كان أوسع أفقا من أن يسير في طريق أولئك الذين حاولوا أن يربطوا، قسرا، بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي على التخصيص. •••

وعلينا أخيرا، قبل أن نختم هذا الفصل، أن نختبر بعض النصوص التي تتناول رأي اسپينوزا المباشر في اليهودية، ولنسارع فنكرر ما قلناه من أن معظم الشراح اليهود الذين يسعون إلى الربط بين تفكير اسپينوزا والتراث اليهودي يتجاهلون واقعة طرده من الطائفة اليهودية وانفصاله عنها طوال حياته الناضجة (أي منذ سن الرابعة والعشرين حتى وفاته)، أو يقللون من أهمية هذه الواقعة، مع أنها - مهما كانت قيمة طقوسها - دليل قاطع على عصيانه الروحي للطائفة التي نشأ فيها. وكونه لم يحاول في أي وقت أن يتراجع عن موقفه، أو يسترضي السلطات الدينية اليهودية، دليل حاسم على ترحيبه هو ذاته بهذا الطرد، وعلى أنه بذل كل ما استطاع من جهد لإزالة آخر المؤثرات اليهودية في تفكيره.

ومع ذلك فإن أمثال هؤلاء الشراح المتعصبين يستشهدون بنصوص قليلة جدا، لا تعدو في الواقع أن تكون نصا أو اثنين، يشتمون فيها نوعا من العطف على اليهود. وتتردد هذه النصوص القليلة ذاتها لدى عشرات من كتابهم على نحو يبعث على السخرية حقا. وهم يسرفون في تأويل هذه النصوص إلى حد تشويهها تماما، وإخراجها نهائيا من سياقها. ولنتأمل هذه النصوص القليلة لنرى إلى أي حد يمكن أن تفهم على أنها تتضمن بالفعل عطفا على الأمة اليهودية: (1)

ففي الرسالة رقم 33، تحدث «أولدنبرج» إلى اسپينوزا عن إشاعة كانت رائجة في ذلك الحين، مؤداها أن الإسرائيليين المشتتين منذ أكثر من ألفي عام سيعودون إلى وطنهم. وطلب أولدنبرج رأي اسپينوزا في هذه المسألة، كما أراد أن يعرف رأي يهود أمستردام في هذا النبأ «الذي لو صح، لكان فيه إيذان بهزة ضخمة في العالم بأسره.» وكان أولدنبرج يشير في هذه الرسالة إلى حركة قومية ظهرت بين اليهود بعد ظهور شخص بينهم يدعى «شبتاي زفي

Sabbatai Zevi »، ادعى أنه سيتوج ملكا على القدس بعد سنتين، وآمن به كثير من اليهود، ولكن الذي حدث خلال هاتين السنتين هو أنه قبض عليه في القسطنطينية، وخابت آمال أتباعه اليهود عندما علموا أنه أشهر إسلامه بعد ذلك.

76

ومن المؤسف أن رد اسپينوزا على هذه الرسالة - وهو رد كان كفيلا بأن يلقي مزيدا من الضوء على رأيه الحقيقي في مسألة تكوين دولة يهودية - هذا الرد إما مفقود أو لم يرسل على الإطلاق، وظلت المراسلات بينه وبين أولدنبرج منقطعة بعد ذلك فترة طويلة. ومع ذلك فإن «كايزر» يتطوع - من تلقاء ذاته - بتقديم رد يتلاءم مع أماني اليهودية المتعصبة؛ إذ يقول إن هذا الرد ربما كان موجودا في فقرة من كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» يقول فيها اسپينوزا: «بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه لو لم تكن مبادئ عقيدتهم (أي اليهود) قد أضعفت عقولهم، ولو سنحت الفرصة وسط التغيرات التي تتعرض لها أحوال البشر بسهولة؛ فقد ينشئون مملكتهم من جديد. وقد يختارهم الله مرة ثانية.» ويهلل «كايزر» لهذا النص، الذي يتكرر الاستشهاد به في عشرات من مؤلفات الشراح اليهود المتعصبين، ويقول: لقد ظل باروخ اسپينوزا جزءا من الأمة التي نبذه معلموها المتحمسون قبل ذلك بعشر سنوات.»

Shafi da ba'a sani ba