وكان الناس في نبال يحبذونها في قلوبهم ويلعنونها بألسنتهم، بيد أن ذلك لم يخف على الفاتح؛ فكرههم واحتقرهم وعاملهم معاملة السيد للعبيد.
ولكن الشيوخ الذين يمتصون كالعلق دم الشعب ظلوا يتملقون الفاتح ويتزلفون له، أما هو فلأنه أبغضهم جميعا - ولا يستقيم مع البغض عمل - نسي تقاليد أمته المجيدة، وأمسى لا يحسن إدارة شئون بلاد هيروس ومدينة نبال، فتفشت بدوائر الحكومة كل أنواع الظلم والفساد.
استمرت هذه الحال بضع سنين حسبها الناس بضعة قرون وهم يئنون ويشكون ويقولون مع شيوخهم: «بقضاء وقدر.» ثم يسترحمون الله.
4
ضرب البؤس في نبال أطنابه، وأرسل الغل في كل ناحية ضواريه، فأمسى الفاتح بين الاثنين حائرا في أمره هلعا متضعضعا، وقد خطر له أن يغير خطته وسلوكه الإداري، بل سلوكه الشخصي أيضا، عله بالحب والحكمة والعدل يظفر بطاعة أهل هيروس وبرضاء أهل نبال، فيوفر في الأقل ما ينفقه على جنوده السود، وينجو من الغل الذي يغلي في صدور الناس.
ولكن الناس وقد سبق الغل إلى قلوبهم فتوطنها - احتلها - أمسوا لا يثقون بهذا الفاتح ولا يحسنون الظن به، ولا يصدقون ما يقول، بل كانت لهم الجرأة أن يقولوا له: «إننا لا نصدقك ولا نؤمن بك.»
ومع ذلك فقد أسس الفاتح في مدينة نبال حكومة دستورية مستقلة تعززها المجالس النيابية والوزارات، وتحميها الجندرمة والسيارات، ولها فوق ذلك رايتان ولحنان وطنيان، فقال الناس: «هي مكيدة؛ فهو يريد أن يزيد فقرنا فقرا فندخل رءوسنا في ربقته صاغرين.»
وأقام في بلاد هيروس حاكما وطنيا واحدا، فوحد الأحياء، وعين الوزراء من الأدباء والشعراء، وأسس المعاهد العلمية والصناعية، ثم قطع الأشجار ليوسع الطرق للدفاع عن الوطن، وضحى بجنوده الغرباء في هذا السبيل، فقال الناس: غربي خبيث، لطيف الحديث، يذبح إخواننا دفاعا عنا، ويقدم لنا كأسا من الحنظل تطفو على وجهها حبب شبيهة بحبب الشمبانيا، غربي خبيث.
رفت سمعة هذا الغربي الفاتح كالغراب في بلاد هيروس وفي مدينة نبال، فانتشرت منها أنواع السموم، فقحلت حقول الجميل والمعروف، وأظلمت مساكن حسن الظن، وعندما عم البلاء واستولى اليأس والغم حتى على قلوب الشيوخ، قام أحد الحكماء منهم مواسيا معزيا فقال: «هو مثل كل الفاتحين، ونحن مثل كل المستضعفين الذين يقيمون في طريق الفاتحين. إن بلاءنا بقضاء وقدر.»
5
Shafi da ba'a sani ba