ولم يخطئ آزاذيه في تقديره؛ فقد استقل خالد وجيشه سفن أمغيشيا ودفعوها شمالا إلى ناحية الحيرة، وإنهم لكذلك إذ جنحت السفن وارتطمت بقاع النهر وريع المسلمون لجنوحها وارتطامها، وأخذ الغضب من خالد مأخذه وسأل عن علة ما حدث، فأجابه الملاحون بأن أهل فارس سدوا القناطر وحولوا الماء فلم يبق منه بالنهر ما يحمل سفنهم، فخرج في كتيبة من فرسانه فلقي ابن آزاذيه على فم العقيق، ففاجأه ورجاله وهم في مأمنهم، وأعاد الماء يجري في النهر وأقام مع فرسانه يحرسه، وعادت السفن إلى المسير وحملت إليه جيشه فسار به إلى الخورنق أنزله ليعد لفتح الحيرة عدته.
ووضع خالد يده على قصري الخورنق والنجف، وكانا مصيف أمراء الحيرة، في حين عسكر جيشه أمام أسوار المدينة، أما آزاذيه ففر هاربا من غير قتال، متأثرا بما أصاب ابنه، وبموت أردشير، ولم يثن فراره أهل الحيرة عن التحصن بقلاع المدينة الأربعة وبأسوارها، وعن اتخاذ العدة للدفاع عنها ما وجدوا إلى الدفاع سبيلا.
لكن عدتهم لم تكن لتجديهم فتيلا، فقد أثار الخورنق وأثارت الحيرة خيال الجند المسلمين وبعثت إلى نفوسهم ذكرى النعمان الأكبر ابن المنذر، وذكرى سنمار وما أصابه لبناء هذا القصر المنيف وما قيل من الشعر فيه، فزادهم ذلك قوة على قوتهم وعزما على عزمهم، والقائد النابغة، ابن الوليد، سيف الله وسيف دينه الحق، ما غناء عدة وإن عظمت أمام عبقريته وبأس لقائه؟! لقد أبى أهل الحيرة أن يسلموا وألحوا في إبائهم، فعهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوهم بالدعوة إلى التسليم، فإن أجابوا إليه قبلوا منهم، وإن أصروا على الإباء أجلوهم يوما ثم قاتلوهم وقتلوهم، ودعا أمراء المسلمين زعماء الحيرة إلى إحدى ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو المنابذة، واختار الزعماء المنابذة، ففض الجند عليهم قصورهم وأكثروا القتل فيهم، وكان بأديار الحيرة عدد عظيم من القسيسين والرهبان مالوا حين رأوا المذبحة تصيبهم وتصيب غيرهم أن نادوا: «يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم!» ورأى أهل القصور المقاومة عبثا فنادوا: «يا معشر العرب! قد قبلنا واحدة من ثلاث، فكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا.»
وخلا خالد بأهل كل قصر دون الآخر، وقال لهم: «ويحكم! أأنتم عرب، فما تنقمون من العرب؟ أو عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟» وكان جوابهم: «بل عرب عاربة وأخرى متعربة.» قال خالد: «لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا؟» وأجابوا: «ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا العربية.» قال خالد: «فاختاروا واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، إن نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة.» وأجابوا: «بل نعطيك الجزية.»
وعجب خالد منهم لإلحاحهم في نصرانيتهم، وقال لهم: «تبا لكم! ويحكم؛ إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي.» ولم يغير هذا الكلام من إصرار القوم على دينهم ولعلهم إنما فعلوا متأثرة نفوسهم باعتبار الكرامة الإنسانية التي تحول بين المرء والرجوع عن عقيدة يؤمن بها؛ لأنه غلب على أمره وأكره على تبديل دينه؛ متأثرة كذلك بأن المسلمين لا يزالون في أول عهدهم بالعراق، وليس يدري أحد أيطمئن لهم الأمر فيه أم تجليهم الحوادث عنه.
وصالح خالد القوم على الجزية تسعين ومئة ألف درهم، وكتب بينه وبين نقبائهم عدي وعمرو بن عبد السميح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال كتابا عاهدهم فيه برضا أهل الحيرة وأمرهم على هذه الجزية، تقبل في كل سنة على أن يمنعهم، فإن لم يمنعهم فلا جزية عليهم، أما إن غدروا بفعل أو قول فذمته منهم بريئة.
وأهدى القوم إلى خالد هدايا بعث بها وبنبأ الفتح والمعاهدة إلى أبي بكر، فأجاز المعاهدة وقبل الهدايا، لكنه احتسبها من الجزية وكتب بذلك إلى خالد.
7
ويروي المؤرخون عند ذكرهم نبأ الصلح قصة طريفة وإن ران الريب على حوادثها، ذلك أن خالدا أبى أن يكتب مع القوم عهدا إلا أن تسلم كرامة بنت عبد المسيح أخت عمرو إلى شويل.
8
Shafi da ba'a sani ba