ودعا خالد بالأسرى يستعرضهم لتبر يمينه أن يجري نهرهم بدمائهم، ووكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر بعد أن صد الماء عنه، وأقام الموكلون يضربون يوما وليلة والنهر لا يجري دما، وقال قوم من أصحاب خالد يخاطبونه: «لو أنك قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، إن الدماء لا تزيد على ترقرق، فأرسل عليها الماء تبر يمينك.» وأمر خالد فأعيد الماء إلى النهر فجرى دما عبطا ومن يومئذ سمي هذا النهر «نهر الدم»، روى الطبري أنه كانت على النهر أرحاء طحنت في ثلاثة أيام قوت ثمانية عشر ألفا من الجند والماء من تحتها يتدفق أحمر قانيا.
لم يكف خالدا أن يجري النهر دما، بل قصد إلى بلد قريب من أليس يسمى أمغيشيا أو منيشيا كان مصرا كالحيرة، وكان يقع عند ملتقى الفرات بنهير باديقلي، وكان أهله قد اشتركوا في الحرب بضاحية أليس فأمر جنده فهدموه وجعلوا عاليه سافله، وأصابوا كل ما كان فيه وعدوه مغنما فكان نصيب الفارس منه ألفا وخمسمائة سوى ما منحه خالد من أحسنوا البلاء في أليس.
وبعث خالد بالأنباء وبخمس الفيء والسبي إلى أبي بكر مع رجل يدعى جندلا من بني عجل، فلما قص عليه ما حدث وأخبره بفتح أليس وبعدد الفيء وبعدة السبي وبأهل البلاء من الناس وبفعال ابن الوليد، لم يملك أبو بكر نفسه أن صاح: «عقمت النساء أن يلدن مثل خالد!» وأمر لجندل بجارية من أليس ولدت من بعد له، وأمر فأذيعت أنباء النصر في المدينة وفي غير المدينة من بلاد العرب، واطمأن إلى نصر الله وجنوده في العراق، وإلى أن سيف الله لا غالب له.
6
يقف بعض المؤرخين عندما قصصنا من حوادث أليس وأمغيشيا يبدون الأسف أن تقع من قائد عبقري كخالد فعال ذلك مبلغها من الوحشية، ويودون لو أن ما روي عنها غير صحيح، وإن رجحوا صحته لتضافر رواة المسلمين على ذكره ولست أقف عند ترجيح ما روي أو عدم ترجيحه، لكني لا أملك نفسي دون الابتسام حين أرى هذه الفعال تنعت بأنها وحشية، ولست أبتسم إنكارا لهذا النعت أو استنكارا له، وإنما أبتسم لأنني أرى أن كل حرب وحشية، والحرب مع ذلك مسوغة في نظر الأمم المتحضرة، فإذا كان الالتجاء إلى الحرب مع وحشيتها تسوغه قضية نعتقدها عادلة، فتصوير ما يترتب على الحرب الوحشية في أصلها وصميمها بأنه وحشي يدعو إلى الابتسام وإلى أكثر من الابتسام.
والحق أن الحضارة الإنسانية لما تصل إلى المدينة السامية التي تنزهها عن الوحشية وتسمو بها عليها، فهذه الوحشية لا تزال تعد من مقومات الحضارة، ولا يزال الاستعداد للحرب يعد جوهريا في حياة الأمم، بل جوهريا لحفظ كيانها حتى تكسب المناعة من أسباب الانحلال، فما يلجأ إليه قائد من القواد في أثناء الحرب، مما يزيد في وحشيتها بعض الزيادة أو ينقص منها بعض النقص، ليس أمرا ذا بال في حياة هذه الإنسانية، وقد اعتاد الناس في مختلف العصور أن يعدوا النصر عذرا عن كل ما سبقه، وقد حالف النصر خالدا في كل مواقعه، فليكن له من انتصاره العذر، إن لم يكن من التماس العذر بد.
وحسبك لتطمئن إلى هذا العذر أن تعلم أن انتصار خالد وفعاله قد حطمت الروح المعنوية في قلوب الفرس ومن والاهم من العرب، فانكمشوا ولم يفكر أحد منهم في الثأر بعد أليس، كما أرادوا من قبل أن يثأروا للمذار وللحفير، بل لقد بلغت هزائم الفرس من نفس كسرى أردشير فلم يطق أن يقاوم المرض الذي أصابه واستبقى بهمن إلى جواره فمات غما وكمدا، وكيف للفرس أو لأوليائهم من العرب أن يفكروا في الثأر وقد رأوا قائدهم وكأنه إله الحرب استحال رجلا! أليس خيرا لهم، وذلك ما تراه أعينهم، أن يلقوا سلاحهم وأن يسلموا لحكم القدر؟!
وذلك ما فعلوا، تشاغل الفرس بموت مليكهم، وتشتت العرب في البادية وفي جزيرة بين النهرين، وانقطع كل نبأ عن التهيؤ للحرب أو لإجلاء المسلمين عن البلاد، لكن خالدا كان أحصف من أن يلهيه سكوتهم أو يبطره الظفر فلا يرى ما يطوي الغد في ضميره، وقبائل العرب هي التي حرضت الفرس على القتال في أليس، وهذه القبائل إن سكنت يوما فلتغدر في غده، فإن لم يقض خالد على كل أمل لهم في الثورة أو في الغدر، وإن لم يؤمن كل طريق يؤدي إلى شبه الجزيرة، فلا يلومن إن أصابه المكروه إلا نفسه، والحساب لكل صغيرة وكبيرة لم يفته في يوم من الأيام، لهذا حسب للموقف حسابه وأحكم تدبيره، وأيسر هذا الحساب أن يحتل الحيرة عاصمة العرب، وأن يضع يده على منازلهم غرب الفرات إلى حدود شبه الجزيرة.
وكان حاكم الحيرة مرزبانا فارسيا يدعى آزاذيه، وكانت عاصمة العراق العربي قد تقلص سلطانها في ذلك العهد بعد أن كان قبل خمس وعشرين سنة منه قوي الجانب مسموع الكلمة، ذلك أن اللخميين الذين أنشأوا الملك في الحيرة منذ القرن الثاني للمسيح وقاموا به قرونا متوالية، اختلفوا مع الطائيين اختلافا أنشب الحرب بينهم، وانتهز كسرى فرصة خلافهم فنصر الطائيين على النعمان بن المنذر ثم قبض عليه فحبسه وقتله، وأقام إياس بن قبيصة الطائي حاكما للحيرة وما يقع في سلطانها، وبعد سنوات من ولايته هزم بنو بكر بن وائل جيشا من الفرس يؤيده أنصار إياس بذي قار هزيمة أطاحت إياسا عن عرشه وطوعت لكسرى أن يقيم مرزبانا من لدنه حاكما للحيرة، بذلك زال نفوذها وانحل سلطانها، لكن مكانتها في نفوس العرب جعلتهم مع ذلك يرمقونها بعضهم وينالونها برعايتهم، ولهذا خشي خالد حين رأى حقدهم عليه أن يتضافر بنو بكر بن وائل مع الطائيين وسائر العرب المقيمين بالحيرة وفيما حولها لمقاومته أو قطع الطريق عليه، فعزم مهاجمتها والاستيلاء عليها واتخاذها مقر قيادته ومصدر نشاطه.
ولم يكن أهل الحيرة في شك من مقدمه عليهم وحصاره إياهم بعد أن استفاضت بينهم أخبار أليس وأمغيشيا وانتصاره عندهما وفعاله فيهما، وقدر حاكم الحيرة أنه سيركب إليه النهر متخذا من سفن أمغيشيا مطيئته، لذلك نهض آزاذيه في عسكره إلى خارج الحيرة، وأمر ابنه فسد قناطر الفرات ليحول دون مسيل الماء فيما وراءها، وليعوق بذلك سير السفن إليه.
Shafi da ba'a sani ba