جاءت الرسل بهذه الأنباء وبما هو شر منها لأبي بكر أول ما استخلف، فلما بسطوا أمامه الأمر قال لهم: «لا تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر من انتقاض الأمور.» ولم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي في الأنحاء المختلفة من شبه الجزيرة بانتقاض عام أو بانتقاض خاص، ولم تخف هذه الكتب ما كان من اعتداء المنتقضين على من بقي على إسلامه بين أظهرهم، وكذلك تضرمت الأرض حول أبي بكر نارا؛ فكان لا بد له من معالجة هذه الحال التي لم ير المسلمون مثلها مذ فتحت مكة وأسلمت ثقيف.
وكان هذا الاضطراب الذي أصاب العرب قد انتهى بقوم إلى أن يرتدوا عن الإسلام، في حين بقي آخرون على إسلامهم ثم أبوا أداء الزكاة لأبي بكر، وسواء أكان إباؤهم أداءها راجعا إلى حرص الناس على المال وتحايلهم على التحلل من بذله كتحايلهم على اقتناصه وإمساكه، وذهابهم في هذا وفي ذاك إلى حد التضحية بالحياة في سبيله، أم كان راجعا إلى عدهم إياها إتاوة لم يبق بعد وفاة رسول الله ما يسوغ دفعها لمن اختاره أهل المدينة أميرا عليهم، فإنهم أضربوا عن أدائها وأعلنوا أنهم لن ينزلوا على حكم أبي بكر في أمرها.
كان ذلك شأن القريبين من المدينة من قبائل عبس وذبيان بنوع خاص، فماذا عسى أن يصنع المسلمون معهم؟ ليس من اليسير مقاتلتهم بعد أن أنفذ أبو بكر بعث أسامة فلم يبق بالمدينة جيش يدفع عنها، أيرضون منهم أن يمنعوا الزكاة، وبذلك يستميلونهم إليهم لعلهم يجدون منهم عونا على الذين نكثوا أيمانهم وارتدوا عن إسلامهم؟ أم يحاربونهم فيزيدون بذلك عدد عدوهم، وقد لا يكون لهم في غيبة الجيش بحربهم قبل؟
جمع أبو بكر كبار الصحابة يستشيرهم في قتال الذين منعوا الزكاة، وكان رأي عمر بن الخطاب وطائفة من المسلمين معه ألا يقاتلوا قوما يؤمنون بالله ورسوله، وأن يستعينوا بهم على عدوهم، ولعل أصحاب هذا الرأي كانوا كثرة الحاضرين في حين كان الذين أشاروا بالقتال هم القلة، وأغلب الظن أن المجادلة بين القوم في هذا الأمر البالغ الخطر طالت واحتدمت أيما احتدام، فقد اضطر أبو بكر أن يتدخل بنفسه فيها يؤيد القلة؛ ولقد اشتد في تأييد رأيه في ذلك المقام، يدل على ذلك قوله: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لقاتلتهم على منعه.» ولم يثن هذا المقال عمر عن أن يرى ما في القتال من تعريض المسلمين لخطر تخشى مغبته، فقال في شيء من الحدة: «كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابهم على الله».»
لم يتريث أبو بكر ولم يتردد في إجابة عمر فقال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال: «إلا بحقها».» ويتم الرواة هذا الحديث بأن عمر قال من بعد: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.»
يذكرنا هذا الحديث بما دار بين رسول الله ووفد ثقيف حين أقبلوا من الطائف يعلنون استعدادهم للإسلام ويطلبون إليه أن يعفيهم من الصلاة؛ فقد أبى محمد يومئذ أن يجيبهم إلى ما طلبوا من ذلك وقال: «إنه لا خير في دين لا صلاة فيه.» ولعل أبا بكر قصد إلى مثل ذلك حين قال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.»
بعثت عبس وذبيان ومن انضم إليهم من بني كنانة ومن غطفان وفزارة جموعا منهم أقامت على مقربة من المدينة، ثم إن هذه الجموع انشطرت فرقتين، أقامت إحداهما بالأبرق من الربذة، وسارت الأخرى إلى ذي القصة أقرب محلة من المدينة على طريق نجد، وأرسل رؤساء هذه الجموع وفودا منهم إلى المدينة نزلوا على وجوه الناس وتحملوا بهم على أبي بكر على أن يقيموا الصلاة وألا يؤتوا الزكاة، فكان جواب أبي بكر ما رأيت: «والله لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه.»
Shafi da ba'a sani ba