صلى الله عليه وسلم : «إنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقا لها.»
ولم يدر بخاطر أحد من أمراء الجيش الظافر أن يدفع أسامة لاقتفاء أثر عدوه، ذلك أن السياسة التي جرى عليها رسول الله والتي كانت ماثلة في نفوس المسلمين جميعا، كانت تقف عند تأمين التخوم بين العرب والروم، فلا يحدث الروم أنفسهم بغزو العرب انتقاما لليهود أو غير اليهود ممن كانوا يأتمرون بالمسلمين.
وكان ذلك طبيعيا؛ إذ كان الروم لا يزال اسمهم يزلزل الشعوب بمنعة إمبراطوريتهم ونفوذ سلطانهم؛ لم يغير من ذلك ما كان بينهم وبين العرب من نزاع كانوا فيه أصحاب الكلمة العليا إلى السنوات الأخيرة من حياة النبي، ألم يذهب دحية الكلبي بكتاب رسول الله إلى هرقل، وهرقل في أوج نصره، في السنة السابعة من الهجرة، أي قبل وفاة النبي بسنوات ثلاث، فرأى من قوة الروم وبأسهم ما رأى! ألم يذهب اليهود في هذه السنة السابعة إلى فلسطين بعد هزيمتهم في خيبر وفي فدك وتيماء، وقلوبهم كلها الحفيظة على محمد وعلى من اتبعه، يأتمرون لتأليب الروم عليهم كيما يقاتلوهم ويظفروا بهم كما قاتلوا الفرس وظفروا بها! لا جرم إذن أن يقف المسلمون من سياستهم عند حماية تخومهم من اعتداء الروم، وأن يكر أسامة، بعد أن تم له النصر على أعدائه، راجعا إلى المدينة ليقف إلى جانب أبي بكر والمسلمون معه، دون أن يدور غزو الروم بخاطره أو خواطرهم، ودون أن يتوقع أحد منهم أن هذا الغزو سيبدأ بعد سنتين اثنتين، يبدؤه أبو بكر بحكم الحوادث ثم يتمه خلفاؤه، فيكون فيه القضاء على هذه الإمبراطورية الرومية التي ظلت قرونا مرهوبة الجانب تعنو لكلمتها الجباه، وتتصدع من هول بأسها العروش.
عاد أسامة إذن بالجيش الظافر، وبلغ ظاهر المدينة، فتلقاه أبو بكر، وكان قد خرج في جماعة من كبار المهاجرين والأنصار للقائه وكلهم فرح وتهلل؛ وتلقاه أهل المدينة الذين خفوا في أثر أبي بكر وأصحابه بصيحات السرور والإعجاب والتقدير لبسالته وبسالة جيشه، ودخل أسامة المدينة تحيط به هالة من فخار النصر، فقصد من فوره إلى المسجد حيث صلى شكرا لله على ما أنعم عليه وعلى المسلمين، وكانت عودة الجيش إلى المدينة بعد أربعين، وقيل سبعين، يوما من مغادرته إياها.
يحاول بعض المستشرقين أن يهونوا من أمر هذه الغزوة وأن يصغروا من شأنها، مع ما كان من اعتباط المسلمين بها وإكبارهم للذين تم لهم النصر فيها، يقول المستشرق «فكا» محرر فصل أسامة في دائرة المعارف الإسلامية: «وقد بعث انتصار أسامة البشر في نفوس أهل المدينة بعد أن أحزنتهم حروب الردة، وأصبح لانتصاره من الخطر ما لا يتفق مع قيمته الحقة، بل عد فيما بعد فاتحة للحملة التي وجهت لغزو الشام.» وصحيح أن هذه الغزوة ليست جسيمة بالقياس إلى ما نعرف من غزوات اليوم، وليست جسيمة بالقياس إلى بعض الغزوات التي تمت في ذلك الحين، فقد اكتفى أسامة منها بأن دهم القبائل التي فجأها وأن غنم منها دون أن يلقى جيش الروم، لكن الأمر الذي لا ريب فيه أنها كانت بعيدة الأثر في حياة المسلمين، وفي حياة العرب الذين تمتد بلادهم على حدودهم، قال أعداؤهم من العرب الذين تسامعوا بهذه الغزوة: «لو لم يكن للقوم قوة ما أرسلوا جيوشهم تغير على من بعد عنهم من القبائل القوية.» وانزعج هرقل حين بلغته أنباء هذه الغزوة، فبعث جيشا قويا عسكر بالبلقاء، وتلك الحجة البالغة على أن الروم والعرب جميعا حسبوا حساب المسلمين بعد هذه الغزاة التي جعلت عرب الشمال، فيما خلا دومة الجندل، لا يلحون في التحرش بالمدينة والانتقاض عليها.
على أن الأمر لم يكن كذلك فيما سوى الشمال من أنحاء شبه الجزيرة، رأيت من قبل أن قبائل في سائر أنحائها نزعت إلى العصيان في السنوات الأخيرة من حياة النبي، ورأيت أن جماعة من أهل هذه القبائل ادعوا النبوة، ولولا الفزع الذي كان يتولى هذه القبائل ويتولى المتنبئين فيها بسبب ما كان النبي يأخذهم به من حزم وما كان المسلمون يبدونه من بأس وقوة إيمان، إذن لسرت روح الانتفاض في أنحاء كثيرة، فلما اختار محمد جوار ربه ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، واضطرب المسلمون لفقد نبيهم ولقلتهم وكثرة عدوهم، فلم يكن بد من سياسة حكيمة حازمة ترد الأمر إلى نصابه، وتنصر دين الله في إبان نشأته.
وهذا ما صنع أبو بكر حين جرد أبطال المسلمين لحروب الردة، وللقضاء على الثائرين بدين الله وبخليفة رسوله.
الفصل الخامس
قتال من منعوا الزكاة
بينما كان أسامة في طريقه إلى تخوم الروم، كان النبأ بوفاة النبي يدفع العرب إلى الثورة بسلطان المدينة. زادت ثورة اليمن ضراما على من قتل العنسي . وبدأ مسليمة في بني حنيفة وطليحة في بني أسد يدعوان الناس إلى التصديق بنبوتهما ويلقيان من النجاح ما جعل عيينة بن حصن يقول عن طليحة: «نبي من الحليفين - يعني أسدا وغطفان - أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي.»
Shafi da ba'a sani ba