أول زيارة لتسلم الأرض
عبد القادر لا يعرف من درجات القطار إلا الدرجة الثالثة، وأظن أننا نكون سخفاء لو حاولنا أن نسأله عن الدرجتين الأخريين، ولكنه يجيب على كل حال، ألا تصل الدرجات الثلاث في وقت واحد. في هذه الليلة لم يشأ أن يبيت في اللوكاندة؛ فقد حزم أمره أن يأخذ القطار الأول إلى المنصورة، فما معنى أن ينفق عشرة قروش في اللوكاندة، فلماذا إذن خلقت هذه الأرائك المنشورة في محطة مصر؟ فإن لذعه البرد فالبركة في الجبة يتغطى بها وينام ليلته في المحطة، ويوفر ثمن اللوكاندة وأجرة تذكرة الترام من الحسين إلى المحطة، فوائد كثرة يجنيها من بياته على هذه الأريكة وقد فعل. ومن المنصورة استقل قطارا آخر أنزله في أقرب محطة من التفتيش. وأقرب محطة من التفتيش تبعد عنه ثلاثة كيلو مترات يستطيع أن يمشيها؛ فقد أخذ درسا من صاحب حمار كان يحاول يوما أن يستأجره، كان ذاهبا إلى إحدى تفاتيشه ونزل بأقرب محطة من التفتيش وكانت المسافة بعيدة بعض الشيء خمسة كيلو ووجد فلاحا ومعه حمار فركب الحمار، وحين استقر عليه نظر إلى الفلاح. - كم تأخذ لتوصلني إلى التفتيش؟
وكان الفلاح يعرفه ويعرف سمعته العريضة. - خمسة قروش. - صاغ. - كثيرة. - اسمع سأدفع لك ثلاثة تعريفة.
ويبدو أن الفلاح لم يكن معجبا به ولا بما يسمعه عنه؛ فإذا هو يدفعه دفعة قوية تلقيه عن ظهر الحمار ليصبح طريحا على الأرض ويقول له: والله لا أوصلك حتى لو دفعت خمسين قرشا.
ومنذ ذلك تعلم ألا يستأجر حمارا إلا عند الضرورة القصوى. وقد كان يستطيع في يومه هذا الذي يزور فيه تفتيش الألماني لأول مرة أن يكلمهم بالتليفون؛ فقد كان بالتفتيش تليفون، وكان يستطيع أيضا أن يرسل لهم تلغرافا لينتظروه بالحنطور الذي كان ضمن ما اشتراه في التفتيش، ولكن المكالمة التليفونية أو التلغراف كان لا يمكن أن تكون مجانا، أما المشي فإلى جانب أنه رياضة فهو أيضا لا يكلف شيئا.
كان القائم بشأن التفتيش عمدة الناحية، وكان رجلا وجيها يحب أن يعيش في رغد عيشة كريمة لا بخل فيها؛ فهو محترم في منطقته يحظى بتقدير الفلاحين وأعيان الناحية.
ولم يكن المفتش حاضرا في المرة الأولى التي جاء فيها عبد القادر ليطوف بالأرض، ولكنه طبعا عرف أنباء الزيارة جميعا ولم ينس من قصوا عليه هذه الأنباء أن يصفوا له المشتري الجديد. ولم يكن محتاجا لهذا الوصف فقد كان رجل مجتمع، وكانت أنباء عبد القادر أو معظمها قد وصلته.
كان المفتش جالسا مع الكاتب والخولي وبعض الفلاحين حين أقبل عليهم عبد القادر في ملابسه الرثة. - السلام عليكم.
ودون ريث تفكير قال المفتش: يعطيك ربنا يا عم الشيخ.
ولم تهتز كرامة عبد القادر؛ فهي قد عودت هذه النظرة ولم يعد صاحبها يهتم بمثل هذه التفاهات للناس أن يقولوا وأن يفعلوا ما يشاءون، وله هو أن يتمتع بمتعاته الخاصة كما يشاء. - أنا عبد القادر فهمي.
Shafi da ba'a sani ba