هو وزوجته
ضاقت به زوجته؛ فهو يأبى أن يزيد ما يعطيه لها عن المائة وخمسين جنيها وقد أصبح الأولاد خمسة ثلاثة أولاد وبنتين، والأولاد يتعلمون في الجامعة وهي تريدهم أن يلبسوا أحسن الثياب ما دام أبوهم قادرا، والبنتان اقتربتا من سن الزواج ولن يقدم أحد على الزواج بإحداهما وسمعة أبيهما تملأ الآفاق.
وقد انقطع عبد القادر عن البيت تماما منذ عرضت عليه زوجته هذا الحديث؛ فهو طبعا لن يزيد مرتبها، وهو يعلم أنها قد تهدده بنزع الأرض من تحت يده، فوجد أن خير ما يفعله أن ينقطع تماما عن البيت، ولكن السيدة زوجته لم تسكت؛ فقد أرسلت في طلب أخيها سلام وسرعان ما جاء، كان هو أيضا يكاد يموت من الخجل مما يسمعه عن زوج أخته، وقد كان يتوق أن يذهب إلى أخته ليحادثها في أمره، ولكنه كان يمنع نفسه خشية أن تظن أنه طامع في إدارة أموالها، كما كان يريد أن يربأ بنفسه أن يتدخل من تلقاء نفسه بين الزوجين. فحين أرسلت إليه أخته وافقت الدعوة هوى نفسه. - ماذا نصنع يا أخي؟ - يا أختي إن لم يكن أصيلا فيجب أن نكون نحن أصلاء. - أنت لا تحتاج إلى أن أحدثك عن شيء. - أخباره تملأ الدنيا ويتندر بها الناس في كل مكان. - يا للفضيحة! - في الصعيد، في القاهرة، في المنصورة. - المصيبة ماذا أصنع مع الأولاد؟ - أنا تحت أمرك. - تحت أمري؟! أيكون أبوهم بهذا الثراء ونأخذ منك مالا؟! - ترى ماذا تريدينني أن أفعل؟ - المصيبة الكبرى البنتان؛ لقد أشرفتا على سن الزواج. - اسمعي أنا أستطيع أن أصنع الكثير. - اصنع. - قبل أي شيء نرسل إليه، أتعرفين طريقه؟ - أعرف الذي يعرف طريقه؟ - من؟ - الحاج أحمد هلال من المنصورة. - من هذا؟ - سمسار يلازمه أغلب الوقت، وقد طلبته مرة فجاء ورجوته أن يكلمه. - وبماذا أجاب؟ - عاد الرجل الطيب خجلان لا يعرف ماذا يقول؛ فقد رفض أي حديث في الموضوع. - ولماذا يلازمه؟ - والله لا أدري، ولكن يبدو أنه ينتفع منه؛ فهو سمسار وهو الذي يتولى له بيع المحصولات، كما يعرض عليه شراء بعض الأراضي كلما وجد فرصة، المهم أنه يلازمه أغلب وقته. - هل تستطيعين أن تستدعي الحاج أحمد هلال؟ - إن له محل إقامة على الأقل. - ألا تقولين إنه يلازمه؟ - نعم، ولكنه يبيت كل ليلة في بيته ما لم يكن معه في القاهرة. - أتعرفين أين يبيت زوجك إن كان في القاهرة؟ - في سيدنا الحسين. - في أي لوكاندة؟ - وكيف أعرف؟ - يبدو أنه لا سبيل إلا الحاج أحمد هلال فليس من المعقول أن نطوف بلوكاندات الحسين نسألهم عن عبد القادر. - هل معك نمرة الحاج أحمد هلال؟ - أتيت بها من دفتر المنصورة، وقد طلبته منها في المرة الأولى.
وجاء الحاج أحمد هلال وقال سلامة: أيرضيك ما يصنعه عبد القادر؟ - إنه لا يرضي أحدا. - أنت صديقه؟ - أولا يجب أن تعرف سعادتك أنه لا يحب أن يكون له صديق. - وأنت؟ - أنا أعمل معه. - مجرد عمل. - أنا سمسار، وهو غني يبيع محصولا ويشتري أطيانا. - فلست صديقا. - صديق؟! اسمع. - ماذا؟ - سأروي لك حكايتين. - حكايات؟ - لتعرف إن كان يمكن لمثله أن يكون له صديق. - إنك تلازمه. - وتلك هي المصيبة، في يوم اجتمعنا حوله ثلاثة سماسرة في قهوة حقيرة بالمنصورة ننتظر إقفال البورصة لنزايد على الإقفال ويقدم كل منا العلاوة المناسبة لنشتري قطنه، أتعرف كم قنطارا كان يبيعها في ذلك اليوم. - كثير طبعا. - ألفي قنطار. - عظيم. - تأخر الإقفال. - هيه. - جعنا، الساعة قاربت الثالثة. - لم يفكر طبعا أن يدعوكم للغداء. - انتظر. - إني منتظر. - نحن في قهوة حقيرة الغداء لن يكلفه أكثر من خمسة قروش أربعة أرغفة بقرشين صاغ، وبثلاثة صاغ طعمية كانت كافية، ونحن نعرف أنه بخيل، ولم نكن ننتظر أكثر من ذلك. - معقول. - وكلنا كان خجلا أن يدعو الآخرين على الغداء؛ فهذا لا يجوز في وجود رجل في غناه سيبيع في جلستنا ألفي قنطار. - معقول أيضا. - استأذن منا عبد القادر بك وغاب. - إلى أين ذهب؟ - انتظر، قلت لزملائي إني أفكر في شيء، وأنا واثق منه. قالوا: ماذا؟ قلت: انتظروا. ذهبت إلى المرحاض، أتتصور مرحاضا في قهوة حقيرة، رائحته تملأ المنطقة كلها لا القهوة وحدها، للمرحاض فتحة مستديرة في أعلى الباب لا أعرف لوجودها سببا، وجدت عبد القادر بك يخرج من جيب الصديري لفة بها طعميتان، ومن الجيب الآخر شقة عيش، وأنت تعرف أن نظره ضعيف، فلم يرني وراح يتناول غداءه هذا في المرحاض حتى لا يضطر لدفع القروش الخمسة التي تكفي غداءنا، وتقول صديق؟! - أعوذ بالله. ولماذا تسير معه؟ - ألم أقل لك لماذا؟ - ألم أقل: أعوذ بالله. - اسمع. - حكاية أخرى. - ألعن وأضل سبيلا. - ماذا؟ - ذهبت لأبيت معه في لوكاندة بسيدنا الحسين رجوته أن يغيرها فأبى، وكنت مضطرا أن ألازمه لأن صفقة هامة كانت تنتظرنا في الصباح الباكر من اليوم التالي. وكانت عينه اليمنى مصابة برمد حاد؛ فحين دخلنا اللوكاندة نادى الخادم وقال له: اذهب إلى الصيدلية القريبة واشتر قطرة وقطارة، وبنكلة قطنا. سأله الخادم: بنكلة؟! قال: نعم بنكلة. ذهب الخادم وعاد بالأشياء، ورأيته يعطي الخادم شيئا فعجبت فليس هذا من عادته. قبض الخادم على ما أعطاه وخرج دون أن ينظر فيه، ولم تمر لحظة إلا وفتح الخادم الباب وقال له: «ماذا أعطيتني يا عم الشيخ.» فقال عبد القادر بك «نكلة.» فقال الخادم «إذن فإني لم أخطئ لقد اعتقدت أنني أخطأت، خذ يا عم الشيخ النكلة خسارة تنفعك.» وخرج الخادم ولم أجرؤ أن أسأله عما فعل ولكنه هو قال: «بني آدم لا يملأ عينه إلا التراب، ماذا يريد، أيريد فدانا لأنه اشترى لي بضعة أشياء من الصيدلية؟!» قلت: «الفرق كبير حبتين بين النكلة والفدان يا عبد القادر بك.» قال: «كلكم مجانين تبعثرون من أموالكم في الكلام الفارغ، والله لو أعطيته جنيها ما قنع بني آدم؛ لا يملأ عينه إلا التراب.» قلت: «تعال لنرى عينك أولا.» وقطرت له في عينه المريضة، جففت القطرة بقطعة من القطن، وألقيتها إلى الأرض قال: «ماذا فعلت.» قلت: «رميت القطنة.» قال: «أنت جننت.» قلت: «لماذا؟» قال: «ألن تقطر في العين الثانية.» قلت: «نعم.» قال: «فلماذا رميت القطنة؟» قلت: «حتى لا تصاب العين السليمة من العين المريضة.» فإذا به يقول غاضبا: «يا رجل حرام عليك خسارة القطن. كلكم مجانين.» أتستطيع بربك أن تقدر لي ثمن قطنة مقطوعة من قطنة ثمنها نكلة. وتقول أصدقاء؟! في هذا اليوم قال لي حكمة عجيبة. قال إن أحد المليونيرات في الغرب قال راقب الملاليم أما الجنيهات فسوف تراقب نفسها. وتقول لي صديق؟! يا سعادة البك زوج أختك لا يعرف معنى كلمة صديق هذه أبدا. - يا سيدي أنا آسف، المهم. - أنا تحت أمرك في كل شيء إلا في مسألة أختك. - لماذا؟ - حين كلمته في المرة الفائتة كاد يضربني، والحقيقة أنا أستفيد منه؛ فصفقاته كثيرة وأنا آخذ حقي في السمسرة، وأنا لا أضمن أن أجد زبونا مثله. - إذن أخبرنا أين نجده؟ - هو ليس في المنصورة. - فأين تظنه يكون؟ - لعله في القاهرة. - إذن دلنا على مكانه في القاهرة. - هذه سهلة. - وذهب سلام إليه في اللوكاندة فوجده يمارس هوايته من تنقية القمل من ملابسه. - يا رجل اتق الله. - اسمع أنا لا أريد نصائح أحد. - اتق الله في نفسك، إن لم تتق الله في أولادك. - لا شأن لأحد بي. - ماذا تريد أن تصنع بهذا المال؟ - أنتم مجانين. والمال لم يوجد إلا ليجمع. - يقولون إنه موجود ليتمتع به الإنسان. - أنا أتمتع بجمعه، ما رأيك؟ - أهذه متعتك؟ - ولا متعة لي غيرها. - إذن اسمع. - سمعنا. - أختي تريد أن تكلمك. - قل أنت ما تريد. - هناك أشياء لا يقولها إلا الزوج. - أمري إلى الله، أذهب معك.
قالت نفيسة: اسمع يا عبد القادر هذه الحال لا تنفع. - هذا آخر ما عندي. - إذن علي أنا أن أفعل ما يجب علي. - اعملي كل ما في يدك. - منذ الغد سأسقط التوكيل عنك، وأوكله أخي في إدارة الأرض. - وبعد غد تصلك ورقة الطلاق. - هذا يوم المنى، على الأقل يعرف الناس أنني انفصلت عنك لعل بناتك تتزوج. - ولن تبقى بناتك معك. - هذا أمر تقرره المحكمة. - وأنا أحب المحاكم.
وخرج، وفعلا أسقطت الست نفيسة عنه التوكيل، ووكلت أخاها في إدارة الأرض، وفعلا طلق هو زوجته ولم يطالب بضم الأولاد قائلا في نفسه ما دامت قد استولت على الأرض فلا أقل من أن تنفق هي على الأولاد، ولكن الست نفيسة كانت مليئة منه بالغيظ؛ فرفعت دعوى نفقة وحكمت المحكمة لها بمائة وخمسين جنيها شهريا مع المتجمد من يوم الطلاق.
جن جنون عبد القادر وذهب إلى المحامي. - إن جاءت البنات إلى حضانتي لن يكلفوني أكثر من عشرة جنيهات أو عشرين.
ورفع دعوى الضم بالنسبة للبنتين، أما الأولاد فكانوا قد بلغوا سن الرشد وحكمت المحكمة بالضم، وفي يوم تنفيذ الحكم ذهب ومعه الحاج أحمد هلال ليتسلم البنتين وعند باب البيت. - حاج أحمد، هات لنا عربة.
وذهب الحاج أحمد فأحضر سيارة أجرة نظر إليها عبد القادر. - ما هذا؟ - سيارة أجرة. - وهل قلت لك سيارة، أتريد أن تخرب بيتي؟ - لماذا؟ - السيارة ستأخذ أكثر من عشرين قرشا. - فماذا تريد؟ - عربة، عربة حنطور بخمسة قروش.
وصرف الحاج أحمد السيارة بعد أن دفع أجرتها من جيبه، وأحضر عربة ونزلت البنتان وركبتا معه صاغرتين، وسارت العربة!
Shafi da ba'a sani ba