وأصبح الصباح وعاد النمل إلى عشه، لا لتستريح النملتان هذه المرة من عناء الليل، بل لتتلويا من عذاب أليم كلما مغصت في جوفيهما الأمعاء، والتقت المسكينتان في منبطح من العش. - ليتنا ما أكلنا السكر! - السكر؟! - وماذا عساه في ظنك أن يكون؟ - اسمعي يا أختاه، لقد ذهبت مع ظلمة الليل غفلتي، وعادت إلي مع ضوء النهار حكمتي. إن هؤلاء الناس لأصحاب خدعة، فما فتئوا الدهر يخدعون ويخدعون، إني لأعلم من أمرهم ما لا تعلمين، بل لعلي أعلم منه ما ليس يعلمون. - ماذا تريدين؟ - سأوضح لك الليلة ما أريد.
وجاء المساء وخرجت النملتان، نملة تهدي وأخرى تهتدي. - تعالي معي فادخلي خزانة الكتب، أمسكي هذا الكتاب، ما عنوانه؟ - من الفلسفة الإسلامية. - ومن كاتبه؟ - شيخ جليل في طليعة الشيوخ. - دونك فاقرئيه، ماذا ترين فيه؟ - لست والله أطالع فيه إلا فقها، وما إلى الفقه. - نعم، وسماه فلسفة ليدخل المريدون خلال العنوان إلى فلسفة، فإذا بهم في فقه يتقلبون. كما دخلنا ليلة أمس على بطاقة من سكر، فإذا الفلفل يملأ منا الأمعاء والبطون ... وهذا الكتاب الآخر، ما عنوانه؟ - خواطر الأديب. - ومن كاتبه؟ - علم من أعلام القلم. - دونك فاقرئيه، ماذا ترين فيه؟ - لست والله أرى فيه إلا خليطا من معرفة، لا هي إلى العلم في دقته، ولا إلى الأدب في جمال صورته. - نعم، وجعله الكاتب أدبا؛ ليتسرب إليه الراغبون في أدب ، فإذا هم في مرج آخر يمرحون ... اخرجي من بطون الكتب، وهيا بنا إلى الحياة العريضة في المنازل والشوارع. انظري هناك، ماذا تبصرين؟ - كومة من قمامة ... لا بل هو آدمي يتحرك. - هذه القمامة البشرية يسمونها مدنية شرقية. - كلا، لا تمزحي، بل ... - وانظري هناك، ماذا تبصرين؟ - شرطي يضرب إنسانا في عرض الطريق. - وهذا الطغيان الساري يسمونه مدنية شرقية. - كلا لا تمزحي، بل ... - وانظري هناك، ماذا تبصرين؟ - كأني به مريض محموم أحاط به ذووه. - وهذه الجهالة يسمونها مدنية شرقية. - كلا لا تمزحي، بل ... - وادخلي هذه الدار فانظري، ثم ادخلي جماجم الرءوس وانظري، وسترين شيئا عجبا يسمونه مدنية شرقية. - كلا، لا تمزحي، بل المدنية الشرقية شيء غير هذا كله، سمعتهم هكذا يقولون. - وأنا سمعت آخرين يقولون: إن المدنية لا تكون شرقية ولا غربية، إنما هي علم يعلمه الإنسان أنى كان، وفن خلقه الإنسان أنى كان. فحيثما وجدت الجهالة والمرض، وجدت ماذا؟ - لكنهم يقولون ... - ويحك من نملة حمقاء! أفتنصتين بعد لما يقولون؟! إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ألا يكفيك ليلة واحدة قضيناها في علبة الفلفل؟!
مراحل الطريق ...
استمع إلى صيحة الوليد! إنه ينذر العالم بقدوم عضو جديد ... إن كل ما في الدنيا يؤلمه ويؤذيه؛ فقد فاجأته الحياة بضرورة التنفس والتنفس مؤلم لرئتين لم تعهداه من قبل، وتدفقت على عينيه أشعة الضوء، والضوء شديد على عينين كانتا مغمضتين حتى الساعة. وازدحمت أخلاط الصوت في أذنيه، والصوت يؤذي أذنين لم يقرعهما طارق إلى اليوم، وبرد الهواء يلفح جسما ما عرف إلا جوفا دفيئا ... كل ما في الدنيا إذن يؤلمه ويؤذيه، ولكنه ادرع قبل قدومه بما يصونه ويحميه، ادرع بلادة الحس، فالضوء المتوهج خافت في عينيه، والصوت القوي همس ضئيل في أذنيه، ولم يكفه هذا، بل هيأت له الطبيعة أن يغط معظم يومه في نوم عميق، لا يدرك ما تموج به الدنيا من حوله ... ويكبر الوليد ويكبر، فيكشف عن دنياه شيئا فشيئا، مدفوعا في كشفه بقوة تغريه بالتطلع واكتساب العلم، حتى إنه ليمس كل شيء ويلقم كل شيء! وأداته في ذلك كله هي اللعب، فما يزال الطفل يلهو بطبيعته ليخبر الحياة عن طريق لهوه، حتى يدركه الشباب.
والشباب هو البرزخ بين لعب الطفولة وجد الرجولة، وحلقة الاتصال بين تواكل الفرد على أسرته، واعتماده على نفسه. الشباب ينزع بطبعه إلى الفوضى وحب الذات؛ لأن الدنيا لم تعلمه فيما سلخ من عمر إلا درسا واحدا: يأمر فيطيع الوالدان. والشباب مغامر مخاطر يميل إلى المبالغة والغلو؛ لأن به نشاطا فياضا يريد أن ينطلق في هذه المغامرة والمخاطرة والإسراف. ولقد قيل إن الرجل يكون شابا بمقدار ما فيه من حب لركوب الخطر، ومن سمات الشباب كذلك أن يضيق بالقانون وينفر من النظام؛ لأن القانون ضرب من القيد، والنظام نوع من الغل، فأين يصب نشاطه الحبيس؟ إن أوضاع المجتمع قد تطالبه بالسكون، مع أن طبيعته الحيوية تدعوه إلى جلبة وضوضاء. والشباب يحيا في حاضره أكثر ما يحيا، لا يأسف على أمس ولا يعبأ بالغد. فلئن كانت الطبيعة قد ثلمت إحساس الوليد ليكون بنجوة مما حوله، فقد أرهفت إحساس الشاب حتى ليكاد يلتهم ما حوله التهاما؛ لأن كل شيء حوله ما يزال جديدا، ولم يبلغ بعد من سعة التجربة أن يرى الدنيا صورة مكررة مملولة. إن الحياة في عين الشباب خلابة ساحرة جديرة أن ينغمس فيها الإنسان ليستمتع بطيباتها؛ ولهذا قيل إن الشباب هو الحياة، وأما رجال الأربعين وما بعدها فلا يعيشون إلا في ذكرى الشباب الدابر. وأفدح الكوارث أن يخلو هذا الشباب الفتي القوي من الحكمة التي تهديه، وأن يفرغ الرجل المجرب العارف من الشباب الذي يستطيع التنفيذ.
أواه لو عرف الشباب
وآه لو قدر المشيب!
فلقد يقنع الرجل بمشاهدة اللعب، وأما الشاب فلا يرضيه إلا أن يكون من اللاعبين! إنه يؤثر حلبة الرياضة على قاعة الدرس. وهل تراه أخطأ الاختيار؟ لا؛ إن أول ما نطلبه للرجل الكامل هو، كما يقول نيتشه: «أن يكون حيوانا كاملا.» فخليق بالتربية أن تستمع إلى صوت الطبيعة في ميول الشباب، وأن تعنى بتثقيف الأجساد في الملاعب كما تعنى - على الأقل - بتغذية العقول بالتفكير النظري.
ولكن الشباب لا يستنفد نشاطه كله في فاعلية الجسد، بل إن موجة المراهقة ما تكاد تغشاه حتى يأخذ في شيء من التفكير الذي لم يكن له به عهد من قبل؛ فهو كثيرا ما يتأمل نفسه ويفكر في العالم من حوله، وتعجبه النظريات؛ لأنها تفسر له معاني ما يرى من أشياء. تراه يكثر من السؤال: ما هذه الدنيا؟ ما أصلها؟ إلام تصير؟ ما الروح؟ وما الله؟ إن العقل في هذه السن جياش فوار، والحس مغمور مأخوذ بجمال كل شيء.
وما هي إلا أن يكشف الشاب عن الحياة سترها قليلا قليلا؛ فيرى السوء فيزعجه، لأنه لم يكن يتوقعه! ماذا؟ ألم أكن في أسرتي عضوا في جماعة لا تعرف سوى المحبة والعطف والتعاون، القوي يعين الضعيف، ورزق الكاسب مشاع للجميع؟! فما لي أرى المجتمع الأكبر لا يفهم إلا التنافس والقتال؟ يتنازع أفراده على البقاء كأنما البقاء ضيق محصور! ما لي أرى المجتمع الأكبر يمحو الضعيف محوا، ويسحق الفقير سحقا، ليخلو المكان للقوي الغني؟ هكذا تتردد الخواطر في نفس الشاب مبهمة غامضة، فيثور، فيصيح في وجه العالم: أن خذوا أيها الناس مبدأ الحياة من مبدأ الأسرة؛ ليعيش الأفراد في تعاون الشقيق. وهكذا تبدأ المبادئ الاشتراكية، ويعلو صوتها من صفوف الشباب! ولكن وا حسرتاها! إن هذا الشباب الطموح لا يلبث أن ينساق أمام تيار الحياة الجارف، فتأخذه الحماسة لشخصه بعد قليل، وتشتد به حتى لا يعود يرى في الدنيا إلا نفسه، وتسيطر عليه رغبة الملك، فيدلي بدلوه في دنيا التنافس ليختطف به ما وسعه أن يختطف من قوة ومال! وهكذا تخمد ثورة الشباب، وتسير قافلة الحياة ... تسير آمنة من معاول الشاب الهادمة؛ لأن الشاب قد أحب فتزوج.
Shafi da ba'a sani ba