لكني، رغم هذا كله، أكبرت في الجمل أن يخضع لقيود الحضر، بعد أن عودته البادية طلاقة وانسيابا؛ ففي التزامك لقواعد المجتمع الذي تعيش فيه معنى جميل من معاني المدنية، بل لعله المدنية في أرقى معانيها.
وإن في مراعاة الجمل لحقوق غيره لدرسا يلقيه على كثيرين وكثيرات، لا أقول من عامة الناس وسوادهم، بل من العلية والذوات.
نملتان في الفلفل
جلس الشيخ في دكانه محزونا، اعتمد رأسه على راحتيه، وجعل يفكر: ماذا أنا صانع يا رباه في جحافل النمل التي تهجم على سكري في ظلمة الليل؟ إنها لتأكلني أكلا؛ إذ هي تأكل قوت عيالي، وإني لعائل أسرة أكاد أنوء بحملها الثقيل. لو كانت النمال مما يرعى مبادئ الأخلاق؛ لناشدتها الضمائر ألا تسطو على ملك غيرها، فحرام عليها أن تستريح بياض النهار في أعشاشها، حتى إذا ما سترها الليل بعتمته ملأت بطونها مما كد غيرها في جمعه وكدح، حتى تندى منه بالعرق الجبين، لكن - وا أسفاه! - ليس للنمل أخلاق يراعيها.
وتحير الشيخ في أمر هذا النمل؛ كيف يعرف موضع السكر، وإنه لخبيء في علبة محكمة الغطاء. وإن الشيخ ليغير مكان العلبة كل مساء فيضعها على الرف مرة، وتحت النضد مرة، ويكسوها باللفائف تارة، ويعلقها في الهواء طورا، لكن النمل يعرف!
ولمعت فكرة في رأس الشيخ كاد يثب لها في مقعده: أما والله إني لأحمق مأفون، أضع إصبعي في الفخ حتى إذا ما ضغط الفخ على إصبعي، صرخت من ألم! ألم أكتب على الصناديق بيدي هذه بطاقات، تعلن عما في بطونها فلمن كتبت - يا أحمق - هذه البطاقات، إن لم تكن للنمل يقرؤها في الليل؟ وإنه لذو بصر حديد، فيعرف موضع السكر من الدكان في حندس الليل! لأنزعن من فوري هذه البطاقات عن أماكنها، وكفاني من بلاهتي ما لقيت كفاني ... ونهض الرجل في حماسته لينزع ...
لكن لا، لقد لمعت عيناه بفكرة أخرى، فكرة افترت لها شفتاه بابتسامة عريضة، ثم انفجرت بقهقهة عالية ... أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على أمره، وإن عد النمل بالألوف لا بآحاد وأفراد؟! أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على أمره ثم لا ينتقم؟! فيم إذن كان مقامي في حلقات العلم أعواما إن قصرت بي عن ختام العلم فقد دنت منه! ويحك الليلة مني يا نمال!
ونزع الرجل في زهو الظافر بطاقة السكر ووضعها على علبة الفلفل، وكتب الفلفل على علبة السكر. - سيأتي النمل الليلة أسرابا كعهده، وسيقرأ العنوان فيظنه دالا على مضمون الكتاب، وسيدخل علبة الفلفل، وفي وهمه أنه سيجد حلاوة كل يوم، وما كل ما يتمنى المرء (يا نمل) يدركه، تأتي الرياح (يا نمل) بما لا تشتهي السفن.
وأوشكت الخطة أن يصيبها الفشل؛ إذ جاء النمل ولم يقرأ، بل اشتم وانصرف، إلا نملتين حفظتا القراءة في مدرسة من مدارس الإلزام، فقرأتا وضحكتا من جهل الأخوات، وتسللتا إلى السكر الموهوم، فإذا داخل العلبة ديجور لم تعهداه فيما سلف من الليالي. وبينا هما تسعيان وراء الرزق، صدمت نملة منهما نملة في بعض الطريق: ما لك الليلة؟ ماذا دهاك؟! - عتمة لم أعهدها هنا، يا أختاه. - لست أرى في الأمر اختلافا عن المألوف. - بل ألفت أن يتسرب من سماء هذا المكان شعاع ضئيل من الضوء يعكس شيئا من بياض. وإذا الأمر كله الليلة في عيني سواد في سواد، ثم ألفت أن أسير على منبسط فسيح، فإذا بي الليلة أدور مع موطئ القدم حيث يدور، ثم ... لست أدري، يا أختاه، ماذا دهاني؟ لعله مرض في جوفي تغيرت معه طبيعة دنياي، ثم ألفت على اللسان حلاوة، فإذا بالشيء يلسع الليلة لساني لسعا أليما، حتى ليكاد اللسان من حدة اللسع يحترق. - لك الله يا مسكينة، ألا إن الأرض هي الأرض والسماء هي السماء، والمأكل كعهدنا به طيب حلو المذاق، غيري من جوفك تتغير الدنيا في عينيك. - أواثقة أنت أننا في علبة السكر؟ - قرأت العنوان بعيني، وأذوق الطعم الآن بلساني، وليس إلى الشك عندي من سبيل. وفيم الريبة والسؤال؟ دونك المكتوب فاقرئيه، وليست الرحلة إليه بشاقة ولا عسيرة. - سأفعل، لا ارتيابا في صدق ما تقولين، ولكن ليطمئن قلبي.
وخرجت النملة إلى ظاهر العلبة، ثم عادت والتقت بأختها بعد تعثر في الطريق، وبحث في الثنايا هنا وهناك. - صدقت، إنه السكر لا شك فيه. - لا «يا أختاه» بل كل الشك فيه. - وي! ماذا تقولين؟ ماذا تظنين؟ - كأنه «يا أختاه» حب فلفل، إني لأحس الآن ما تحسين، فسواد شديد حالك يسد علي مسالك الطريق، وانبعاج في الأرض لا يكاد يمكنني من السير، ثم طعم لاذع يذيب اللسان ويمزق الأحشاء. - لكنه السكر، والبدال لا يخطئ الترقيم. - نعم، لا بد أن يكون سكرا؛ لأن البدال لا يخطئ الترقيم. فصبرا جميلا، حتى نملأ جوفينا مما رزقنا الله، وإنه لحلو مستساغ. وإن كره البصر واللسان والأحشاء جميعا!
Shafi da ba'a sani ba