Shaidan Yana Wa'azi

Najib Mahfuz d. 1427 AH
112

Shaidan Yana Wa'azi

الشيطان يعظ

Nau'ikan

2

أقام السلطان نوح في أطراف المدينة فيما يلي المقابر. لم يكن يعرف وجهه إلا المقربون وقلة من الرعية الذين شاهدوه في مواكب المواسم، فتنكر ما وسعه التنكر واستثمر الذهب في تجارة الغلال، فكان يتاجر نهارا، ويعتكف ليلا ليتفكر في الانتقام من أعدائه أو ليواصل عبادته التي شغف بها أيام ملكه.

وتسربت أنباء اختفائه مثل رائحة يتعذر كتمانها. عمل المتآمرون على نشرها فمضت من لسان إلى لسان ومن حي إلى حي. وأنهاها إليه بعض عملائه من التجار. أما سمعت عما يقال من اختفاء السلطان نوح؟ الناس حيارى محزونون يتساءلون، يقال إنه كان يمضي الليل متعبدا فوق جبل المقطم، هل باغته وحش؟ هل اغتاله قاطع طريق؟ هل اعتزل في كهف مثل الرهبان؟ أما عن أحزان الملكة وحيرة الوزير والقائد فحدث ولا حرج، ليتك ترى الناس وهم يتجمهرون في الطرقات؟ ما أشد الأسى على المحبوب الغائب!

ثم أعلن النبأ بصفة رسمية فنادى به المنادون، ونصب ولي العهد - ابن السادسة - سلطانا، وعين الوزير عتبة وصيا، كما عين القائد كرداش وزيرا وقائدا.

تلقى نوح الأنباء كالمطارق فوق رأسه. سمع نعيه على كل لسان. تبخرت شخصيته في الهواء. عاشر الموت وهو حي. عجز عن دفع زحفه تماما. من مات في وعي الخلق فقد مات. هذا هو الموت الذي بدا له غامضا فيما مضى. ليست الحياة قلبا يخفق أو دما يجري ولكنها معنى يتردد في وعي الناس. وقد مات نوح. ولم يعد التفكير في الانتقام مجديا. لقد حل آخر محله فوق العرش، واغتصب غريب فراشه، وأدت رعيته ضريبة الحزن والدموع عليه. لم يعد لرجوعه معنى. سيهدم عالما أعيد بناؤه وتكوينه. وها هي الأعوام تمضي مؤكدة موته، مقوضة لدنياه، ومن الخير له أن يبذل ليله كله للعبادة، وأن يسلم للمقادير، وأن يمهد طريقه إلى أعتاب الله ورحابه.

وجاءته أنباء جديدة ذات لون داكن ضارب للصفرة. لم يكن السلطان وحده الذي اختفى، ولكن ها هو طعم الحياة يتغير، ووجهها يتجهم، يعسر ما كان يسيرا، ويمر ما كان حلوا، ويضن ما كان مبذولا، ويغلو ما كان رخيصا، والمعاملة تسوء، والشدة تضرب، والجبروت يستفحل، والظلم يغشى. ورجع الناس يتذكرون سلطانهم الفقيد، ويترحمون على عهده، ورجع نوح يشعر بالحياة تدب في أوصاله ولو في صورة ذكرى، ولكن فيضا من شائعات مدبرة اجتاح العباد بغية تشويه سمعته. قيل إنه كان مهملا، وإنه كان يتعبد على طريقة الرهبان، وإنه كان شاذا مدنسا، وإنه جن جنونا كاملا حتى دعا أهل بيته إلى عبادته. وارتاب أناس في حقيقة ما يذاع، وصدقه آخرون، وحدثت بلبلة ضاعفت من محنة الشدة والبلاء. وجزع نوح واكتأب، لقد رضي بالموت، ولكنه عانى ما هو أفتك من الموت.

3

وفي السنة الخامسة عشرة من اختفائه زاره صديق يدعى طالب. كان يلهث من الانفعال والبهجة، وسرعان ما ارتمى على أريكة وهو يقول: قلب المدينة ينبض ببعث جديد.

فسأله نوح بهدوء صار طبعه من طول التعبد: ماذا حصل لقلب المدينة؟ - ألم تعلم؟ السلطان نوح لم يمت ... - فاقتلع هدوءه اضطراب طارئ وتمتم: نوح لم يمت! - إنه حي ويسعى بين الناس ... - مستحيل يا طالب. - هي الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان! - أرأيته بنفسك؟ - أجل. - أكنت تعرف صورته من قبل؟ - طالما رأيته في الأعياد ... - ووجدته أنه هو هو؟ - بنصه وفصله! وقد تعرف عليه كثيرون ... - يا للعجب! - وسرعان ما التف حوله المظلومون ... - وماذا فعل السلطان الشاب «المتوكل»؟ - القتال محتدم بين الفريقين، بين المتوكل ونوح، وما زال رجال نوح يقاتلون في جماعات متفرقة، ولكنهم ينهكون جيش السلطان ...

فتمتم نوح في حيرة: قتال بين الأب وابنه! - الابن يزعم أن الآخر دجال دعي! - ولكن نوح يعرف أن غريمه هو ابنه ...

Shafi da ba'a sani ba