الرجل الثاني
أمشير
الربيع القادم
الحب والقناع
السلطان
أيوب
قرار في ضوء البرق
أسرة أناخ عليها الدهر
الظلام القديم
الرسالة
Shafi da ba'a sani ba
الشفق
اللقاء
الجبل
الشيطان يعظ
الرجل الثاني
أمشير
الربيع القادم
الحب والقناع
السلطان
أيوب
Shafi da ba'a sani ba
قرار في ضوء البرق
أسرة أناخ عليها الدهر
الظلام القديم
الرسالة
الشفق
اللقاء
الجبل
الشيطان يعظ
الشيطان يعظ
الشيطان يعظ
Shafi da ba'a sani ba
تأليف
نجيب محفوظ
الرجل الثاني
1
جذبني مقهى النجف في سن المراهقة. كانت سنا يستهجن فيها غشيان المقاهي. الحق لم يجذبني المقهى نفسه؛ ولكن شدني بقوة سحرية صاحبه موجود الديناري الأسطورة الباقية. إنه آخر الفتوات غير أنه بالقياس إلي أول الفتوات وآخرهم. ذهبت لأحظى بمشاهدته فوق أريكة الإدارة في شيخوخته المجللة بالمهابة والقوة والجمال. اخترت مجلسا بعيدا عن مجلسه، منعني الإكبار، وجاء بي دوما ما استقر في قلبي من حكايات فتونته، سحرتني أكثر نوادره الغامضة التي تضاربت حولها التفاسير. طالما شعرت وأنا أحتسي قرفته المخلوطة بالمكسرات بأنني أعيش أبهج ما في الماضي والحاضر والمستقبل. •••
يحكى أن ...
يحكى أنه ألقى على أتباعه ذات يوم تحديا. عند الفجر من سهرة في غرزة المنارة المسقوفة بالسماء. قلب عينيه في وجوه الرجال فلم يبرح أحد مكانه. تبدت وجوههم غامضة على ضوء النجوم. تبدت وجوههم ذابلة من شدة السطول. تبدت وجوههم مخضلة بالندى. في فصل صيف شهد له الآباء بالغلظ، قال لهم: لن ترجعوا إلى بيوتكم قبل أن تسمعوا.
تطلعوا إليه باهتمام. جاهدوا نعاس الخدر. توقعوا نبأ عن معركة. موجود الديناري قهقه حتى سعل. قال بتؤدة أضفت على بنيانه القوي وملامحه الواضحة جدية مثيرة: إنكم تتساءلون ...
اشتعلت اللهفة ونفد الصبر فواصل الرجل: ما من جماعة مثلنا إلا وفيها رجل ثان، على ذلك جرى عرف من غبر ... ندت عن «طباع الديك» حركة عفوية داراها بسعلة مصطنعة. لم تغب عن عين الرجال ولا عين الرجل. كان أقوى الأتباع وأشجعهم وإن لم يجهر بذلك أحد، وطالما اعتقد أن المنزلة الثانية بمثابة حقه المعتبر. تساءل المعلم: ما رأيكم؟
أكثر من صوت أجاب: الرأي ما ترى يا معلم. - كلكم أقوياء، كلكم شجعان، ولكن الفتونة الحقة لا تستند إلى القوة والشجاعة وحدهما!
Shafi da ba'a sani ba
عند ذلك قال طباع الديك: منك تعلمنا أيضا مكارم الأخلاق ...
فابتسم المعلم ابتسامة غامضة وقال: دعونا من الكلام، عندي مهمة، فمن منكم يقبل القيام بها؟
فبادروا قائلين: نحن رهن الإشارة!
وتساءل طباع الديك: ما هي المهمة يا معلمي؟
فقال الديناري باسما: إنها سر من الأسرار.
همدت ألسنتهم. تذاكروا ما عرف عنه من غرابة الأطوار. تذكروا الغموض الذي يخالط وضوحه. حذروا بغريزتهم أن يقعوا في شرك لا قبل لأحدهم به. وسر الديناري بصمتهم فقال: إنها تتطلب أول ما تتطلب الطاعة العمياء!
وضح القلق في حركات طباع الديك المتوترة ولكنه تجاهله قائلا: قد يحيق الهلاك بمن يتصدى لها، لا يجوز إخفاء ذلك عنكم، فإذا وفق فاز بالمكانة اللائقة، وإن هلك تعهدت أهله بالعناية.
وخرج طباع الديك من صمته فقال: يا معلمي، لقد خدمتك منذ ...
ولكن المعلم قاطعه متسائلا: من منكم يقبل المهمة؟
من غشاء الصمت الثقيل انطلق صوت يقول: خدامك يا معلم!
Shafi da ba'a sani ba
تحولت الأبصار بذهول نحو شطا الحجري. فتى جاوز العشرين بعام أو عامين. أحدث من انضم إلى العصابة، لم يشترك بعد في معركة، قبل بناء على تزكية من طباع الديك نفسه. وجزع الديك. إنه في الحلقة الرابعة من عمره ويصغر معلمه بعام واحد. ورغم سوء ظنه بالمهمة وحذره من مقالب معلمه فقد خاف أن تفلت منه فرصة العمر؛ لذلك هتف: لا أحد لها سواي.
فقال المعلم بهدوء: إنه شطا الحجري. - ولكنه ...
فقاطعه المعلم: لقد سبق، ولا حيلة لك.
غشيت الصمت كآبة، أيصير شطا الحجري الرجل الثاني إذا لم يهلك؟ ترى ما هي المهمة؟ هل أنقذهم الخوف أو ضيعهم؟ أيهلك شطا أم يفوز؟ وماذا لو تكشفت المهمة عن تكليف يسير لا يشق على أحد؟ لقد تمنوا في أعماقهم أن يتقرر الهلاك مصيرا لشطا. وتلهفوا على معرفة المهمة فتساءلوا: لم يعد محظورا أن تكشف لنا عن سر المهمة يا معلم.
فقال المعلم بمرح: كل شيء مرهون بوقته.
وقام الرجل نافضا عن عباءته ذرات الرماد ومضى نحو الحارة وهو يقول: تناسوا ما دار بيننا في هذه الليلة الحارة، فلا شأن لكم به!
2
توارى المعلم عن الأعين. لزم الرجال أماكنهم من شدة الذهول. وجد شطا الحجري نفسه في بؤرة منصهرة بحرارة الأبصار والصيف. أراد أن يخرج من الحرج بكلمة اعتذار فقال: أعترف بأنني ما زلت أحبو في الذيل، ولكنها إرادة الله.
فقال رجل مغلفا قوله بنبرة نذير: بل اخترت بإرادتك يا شطا!
فقال في استسلام: إنما يجري كل شيء بمشيئة الله.
Shafi da ba'a sani ba
فقال آخر بخشونة: للشيطان أيضا دور في رحاب الفتونة.
فتغير مزاج شطا وقال بعناد: لقد أعددت كفني يوم انضممت إليكم.
فتلاطمت أصوات في سخرية: عفارم! عفارم! الطموح مهلكة، ولكنه حلم الفتوات!
ضاق شطا بصمت طباع الديك أكثر مما ضاق بسخريات الرجال. استأذن ناهضا ثم غاص في الظلمة.
استقبلته أمه في بدروم عمارة الجبلي، ستهم الشهيرة بالغجرية تستيقظ عادة مع الفجر لتتهيأ ليوم عمل كادح. قال: حدث الليلة أمر عجيب.
وقص عليها ما جرى. عكس وجهها المتجعد الكالح انفعالات متضاربة، تفكرت حتى وجمت ثم قالت: يا لك من متعجل!
فتحامى الجدل، فقالت: إنك لمجنون يتحدى الجميع بلا تدبر.
فاتجه نحو منامة فوق الكنبة صامتا، فقالت: لم يبق لي من ذكر سواك، أخواتك في بيوت أزواجهن، لعنة الله على شيطانك.
فتمتم بامتعاض: لا تتوقعين إلا الشر! - أتحسب أن الفتونة لهو؟!
رغم قلقه واضطرام أفكاره فقد أسلمه الإرهاق إلى نوم عميق.
Shafi da ba'a sani ba
3
استيقظ شطا الحجري عند الضحى. اجتاحته ضوضاء الحياة. ما زال الصيف يزفر نارا. استيقظت معه ذكريات الليل. لم يلق إليه المعلم بأية إرشادات. هل ينتظر حتى تجيئه إشارة؟ كلا، عليه أن يتحرك. ليتحرك حتى لا تنفرد به الأفكار. قرر أن يذهب إلى دار الديناري. أول مرة يعبر البوابة العملاقة. اخترق فناء واسعا. إلى اليمين مجمع نخلات مثقلة بالبلح الأحمر وإلى اليسار إصطبل. سمح له بالانتظار في منظرة. طالعته في الجدار الأوسط بسملة مذهبة تشرف على الأرائك والبساط السنجابي. حتى أذان الظهر انتظر ثم جاء الرجل. خيل إليه أنه يرى رجلا آخر. لأول مرة يرى شعر رأسه الأسود، ولأول مرة يخطر أمامه في جلباب فضفاض أبيض، أما رائحة المسك فهي دائما تنتشر منه. تربع فوق الكنبة الوسطى ثم أشار إلى الأرض قائلا: اجلس.
فتربع على مبعدة قصيرة من موطئ قدميه، ثم قال كالمعتذر: جئت بلا دعوة.
قال ووجهه لا ينم عن شيء: لو لم تفعل لاعتبرت الأمر كأن لم يكن.
فحمد الله في سره على أول توفيق يصيبه. وسأله الرجل: ماذا قال الرجال أمس عقب ذهابي؟ - اتهموني بتجاوز الحد. - هي الحقيقة بالقياس إليهم هم.
فحمد الله في سره مرة أخرى، على حين رجع المعلم يسأل: ماذا عن أمك الغجرية؟ - قلقة وخائفة. - لو لم تقدم لاتهمتك بالجبن!
انقطع الكلام قليلا حتى قال شطا: إني رهن إشارتك.
فمد ساقيه قائلا: دلك ساقي.
فشمر شطا عن ساعديه وراح يدلك الساقين المدمجتين بارتياح وفخار. تواصل الصمت حتى تساءل المعلم: ما الذي دفعك إلى القبول؟
فبادره شطا بحماس: أن أحظى برضاك. - كاذب، أو نصف كاذب، إنه الطموح، ولكن لا فتونة بلا جنون.
Shafi da ba'a sani ba
لم يدر ماذا يقول. ترامت من بعد صيحات
- رهن الإشارة.
فقال الرجل بوضوح: اغتسل، ارتد ملابس جميلة، اعثر على أجمل بنت في الحارة، ثم اذكرها لي!
ثقلت يداه وأوشكتا أن تتوقفا عن التدليك. ما سمعه لم يتوقعه قط. ظن المهمة مغامرة لا يطيقها إلا الأفذاذ. ما تصور أن تكون مهمة خاطبة، بل الخاطبة أشرف. لا يمكن أن تقتصر المهمة على ذلك. ما هي إلا مقدمة لاختبار الطاعة. الحذر الحذر من التردد، الطاعة أو الضياع. ما يعرف من قسوته مثلما يعرف من مكارمه. إنه ولا شك لم يقل كل شيء، فلينتظر. لكن وجهه لا يعد بمزيد! أخيرا تساءل: أهذه هي المهمة بلا زيادة؟
قال المعلم ببرود: لا أسمح بأي سؤال.
تركه يدلك ساقيه في صمت، ثم سحبهما قائلا: مع السلامة.
4
وهو يغادر الدار شعر بالندم، بل بالغضب. ربما ضرب يوما مثلا للحماقة والسخرية. الفتى الذي طمح إلى السيادة فعمل خاطبة، أو قوادا ذا قرنين، وسيكون نادرة أخرى إذا هرب. ولكنه وعده بالمكانة الثانية إذا نجح. وهو الوفاء إذا وعد. فكيف يشك في جدارة العمل؟! إنه لأحمق إذا تهاون مع سوء الظن. إنها محنة حقا ولكن وراءها ما وراءها، فليصمد وليصمد وليمحق الريب.
وسألته أمه ستهم الغجرية بلهفة: خبرني ما هي المهمة؟
أجل، إن المعلم لم يكلفه بالكتمان، ولكنه شعر بأن الأمان في الكتمان، والكرامة أيضا تلزمه به. فليذعه المعلم إن شاء أن يبلوه؛ لذلك قال: الأسف والمعذرة.
Shafi da ba'a sani ba
فصرخت المرأة: من يخف عن أمه سرا فهو ابن حرام.
وهتفت أيضا: أنت وشأنك ولتتجرعن الندم.
وقال لنفسه: «تقدم بلا تردد». ذهب إلى حمام الأمير وأسلم جسده إلى المغطس. ارتدى جلبابا جديدا ولاثة منمنمة ومركوبا أخضر ومضى منور الشباب كالبدر. استحال عينين حذرتين، تسعيان وراء الجمال حيث يكون؛ في النوافذ، عند صنبور المياه، في سوق الخردوات والحلي. كلما لمح حسنا سجله في ذاكرته وواصل السعي. وصادف في سعيه رجالا من العصابة يراقبون ويتساءلون. ضاعف من حذره مطمئنا إلى أنهم لم يقفوا على سره بعد. تمنى أن يحافظ المعلم على السر كما يحافظ عليه هو. تمنى أن يعثر على ضالته حتى تنجلي الحقيقة عارية. أجل ستنكشف مهمة الخاطبة عن المجد لا الندم.
وكان يستريح في مقهى النجف عندما جلس إلى جانبه طباع الديك. انقبض صدره ولكنه ابتسم. هو الذي زكاه عند المعلم يوم قبل. صديق أسرته الذي يعتبر ستهم الغجرية أما له. قدم له الشاي حبا وكرامة. ابتسم الرجل وقال: أصبح لك مظهر الوجيه لا الفتوة!
إنه يستدرجه ولكن هيهات. وتمتم الرجل: لا تستقر في مكان!
بادله الابتسام دون أن ينبس، فقال طباع الديك: لا أريد إحراجك، هذا أول ما تطالبني به علاقتنا الطيبة.
فتمتم شطا بأسف: معذرة يا صاحب الفضل. - إني عاذرك، ومقدر لحالك، ولكن واجبي كصديق للأسرة يطالبني بأن أحذرك. - تحذرني؟ - معاذ الله أن أحرضك على إفشاء سر؛ ولكنك حديث عهد بنا، فلا تعرف فتوتنا كما أعرفه.
فقال شطا بصدق: الحارة كلها تعرفه! - لعلها لا تعرف مثلي حبه الدعابة والعبث.
ارتعد قلبه، ولكنه قال بقوة يغطي بها على ارتعاده: الدعابة لا العبث، إنه جاد كل الجد. - لم صفح عن زميلنا الأعجر؟ ولم أصر على عقاب شعراوي القفا؟
ارتعد قلبه مرة أخرى، ولكنه قال: ثمة سبب يعلمه ونجهله، إنه أبعد ما يكون عن العبث. - إذا أردت الاستشهاد بالأدلة، فستجد ما يؤيد جديته وستجد ما يؤيد عبثه. - لا، لا تقس ما يقع في حارتنا بما يحدث أحيانا في الغرزة. - ولكن المغامرة التي تقدمت لها حدثت في الغرزة.
Shafi da ba'a sani ba
فقال مجاهدا غيوم القلق: لكن نتيجتها ستطبق على الحارة! - صدقني يا شطا، لم لم أقدم على المهمة رغم أنني أجدر الرجال بها؟! حدثني قلبي بأنه يهيئ للعبث مقلبا!
هز شطا رأسه نفيا واحتجاجا، فقال طباع الديك: ثم إنه لا يتأثر بالعواطف، وهو قوي كما نعلم جميعا، فمن ذا يضمن وفاءه؟ بل هبك هلكت - لا سمح الله - فلم يعن أمك، فمن ذا يحاسبه؟!
لزم شطا الصمت بنظرة رافضة، فنهض طباع الديك قائلا: الله معك!
فقال شطا: هيهات أن تتزعزع ثقتي به.
وأتبعه ناظريه وهو يلعنه.
5
الوساوس والهواجس تخامره. طباع الديك لا يذكر العبث بلا دليل. أجل إنه مغرض وحاقد وخائف، ولكنه لا يهذي. على ذلك فهو يصر على جدية معلمه. رغم غرابة ما كلف به. رغم الغموض المتعمد من الآخر. رباه! ما العمل لو كان يعبث به حقا؟! ما العمل لو تبدد الجهد نظير لا شيء؟ ما العمل لو تناثرت قوائم حياته فيما يشبه المزاح؟!
وهو يحاور نفسه طالعه فجأة وجه يمرق من الملاءة السوداء كالضوء. وجه نفاذ الحلاوة بهيج الأثر. ما تمالك أن قال لنفسه وهو ينتفض بانتعاش غامر: «لعلها هي!» في الحال تناسى وساوسه وهواجسه وحل بقلبه الظفر. لعله رآها قبل ذلك ولكنها عبرت في غفلته بلا أثر. سرعان ما تبعها عن بعد على إيقاع تموجاتها الراقصة، حتى عطفة البرادة وحتى غيابها في عمارة ريحان المتهالكة. هي هي ضالته المنشودة، فمن تكون؟ عليه أن يجمع المعلومات الكافية. الناجح من يحافظ على السر ويجمع المعلومات الوافية. أفعم قلبه بالإلهام والثقة. وحلم بالمكانة الرفيعة الثانية. ودعا الله أن يتم المهمة دون مساس بكرامته. ومن حظه السعيد لاحت في النافذة، لمحها ولمحته أيضا بنظرة خاطفة. في العطفة كواء بلدي وبياع طعمية ولكنه تجنب سؤال الأنفس المتطفلة. استدرج غلاما يلعب، فسأله: يا شاطر، من يسكن في الدور الثاني؟
فأجاب الولد: عم طناحي بياع الطعمية.
آه! ثمة شبه بين الكهل والبنت الفاتنة. رجع إلى بيته مستوصيا بالحذر. ورغم ما بينه وبين أمه من جفاء سألها: هل تعرفين أسرة عم طناحي بياع الطعمية؟
Shafi da ba'a sani ba
فتجاهلته حتى كرر السؤال، فسألته بدورها: لماذا تسأل؟ - حديث دار في المقهى حول بنت جميلة له. - زوجت له بنتين وبقيت الصغرى وداد، صغيرة ولكنها أجمل البنات.
فقال مخفيا انفعاله: ذاك ما قيل عنها. - قل لمن يتحدث إن الطائر قد حلق في السماء. - السماء؟! - ما زال الأمر سرا، ولكني الوحيدة من غير الأسرة التي تعرف أن معلمك الديناري خطبها منذ أسبوع! - حقا؟! - حظها السعيد، لا أهمية للسن ولا لكثرة الزوجات! ابعد إن كنت فكرت في القرب.
إذن قد خطبها الرجل قبل أن يكلفه بالبحث عنها. ولكن هل يغير ذلك من موقعه من المهمة؟ عليه ألا يضيع وقته وأن ينسى ما سمع.
6
قبع في مجلسه عند قدمي المعلم وراح يدلك ساقيه. الرجل يرتاح لذلك وهو يجيده. مهما يكن من أمر العاقبة فهو اليوم ألصق الجميع به. غير أنه لا يستطيع أن يقرأ وجهه. ألا ما أكبر الفارق بينه وبين البنت، في العمر والحجم وكل شيء. والرجل صامت يضن بالسؤال، فعليه هو أن يتكلم. قال: عثرت على البنت المنشودة يا معلم.
بعد هنيهة صمت، قال الرجل: انطق. - الاسم وداد، كريمة عم طناحي، بالدور الثاني من عمارة ريحان القديمة. - ألم تفتك فرصة؟ - نعم. - هل فطن أحد إلى مسعاك؟ - كلا. - الكتمان في صالحك أنت. - حرصت عليه، بحسن تقديري. - إنك معجب بنفسك. - فتورد وجهه الأسمر حياء، تفاءل بالصمت، ثم تساءل: انتهت المهمة يا معلمي؟
فقال الرجل بلا مبالاة: الآن عليك بمغازلتها!
كأنما تلقى ضربة على نافوخه. هتف: مغازلتها؟!
قال الرجل ببرود: مع السلامة.
في الخارج لم يسمع صوتا رغم الضوضاء، لم ير أحدا رغم الزحام، لم يلق بالا إلى متربص. المهمة تتعقد والمخاوف تتجسد والأشباح تتخايل. ها هو يحمل أمرا من معلمه بمغازلة خطيبة معلمه. وهو مطالب بإبلاغه بالنتيجة. هيهات أن تؤاتيه الشجاعة على الكذب. أهي طريقة لاختيار الرجل الثاني حقا أم الأمر عبث في عبث؟ الليل تتكاثف ظلمته وتتوارى نجومه وراء السحب.
Shafi da ba'a sani ba
7
وجد نفسه بعد ذلك بين اثنتين؛ الهرب أو الصمود. قرر أن يصمد. ليس وراء الهرب إلا السخرية والضياع، أما الصمود فإنه يمارس فيه رجولته، وليكن بعد ذلك ما يكون. ربما انتهى به الصمود إلى شماتة الحاسدين، ولكن الهرب ينذر بما هو أفظع. وكلما تعقدت الأمور وانبهم المغزى على إدراكه، قال لنفسه مستهينا: ليست السلامة بالغاية المفضلة في هذه الدنيا.
وانطلق في أثرها يخط بالقدم مصيره ومصيرها. تعرض لها في نافذتها، تبعها إلى دكان الخردوات وهي بصحبة أمها، وهبها عينين حادتين وهي تمر أمام مقهى النجف. تطايرت نظراته الموشاة بالبسمات الخفية معلنة عن عاطفة لا وجود لها. وفي فرح شهده وكانت وداد بين المدعوات قاربت بينهما نظرة طويلة، فغمز لها بعينه ملقيا بنفسه في فم القدر. إنها الآن تعرفه تماما وتخمن مقصده، فليتها تغضب، ليتها تشي به عند والديها فتنقذه من المجهول، وتنقذ نفسها. لكنها لم تغضب. بل مرحت في دلال معلنة محاسنها كاشفة عن استجابة واضحة. قال لنفسه بحزن إنها لا تهمها الفتونة، إنها تؤثر الحب على الجاه، إنها حلم الشباب المثالي، وا أسفاه!
ومضى في الطريق مستسلما، لاغيا عقله. حتى ضمهما يوما زحام يحدق بالحاوي. تزحزح خفية حتى استقر جنبها. ولما التفتت نحوه همس: يا جميلة.
فالتفتت عنه في دلال مشجعة على المزيد، فهمس: أقول إن جمالك ...
ولكنها قاطعته هامسة ومعلنة استجابتها في الوقت نفسه: الناس! الناس! - صدق من قال إن العاشق مجنون. - أنت لا تعرف كل شيء.
فهمس متخطيا أشباحه: أعرف أنك مخطوبة للديناري.
فرمقته بدهشة وإكبار وهمست: إنه سر. - لكني أعرفه. - لن تحظى بأحد يقبلك. - المهم رضاك أنت.
فتساءلت متظاهرة بالتركيز على يد الحاوي وهو يلاعب الحية: أي فائدة ترجى؟ - لنتقابل على انفراد. - أمر عسير. - الشمس تقترب من المغيب، زاوية الدرمللي مكان آمن. - ولكن ... - سأسبقك، لا تضيعي فرصتنا الوحيدة.
ومضى نحو الميدان ثم انعطف إلى الزاوية. اضطرب خافق القلب. ثمة أمل ضعيف في أن يستردها العقل في آخر لحظة. أن تثوب إلى رشدها وتندم.
Shafi da ba'a sani ba
لكنه رآها مقبلة في شجاعة تثير الدهشة.
8
استغرق اللقاء الخفي دقائق معدودة في الركن المتواري المعتبر مأوى للمجاذيب. سألها: لديك فكرة عن الخطر الذي يتهددنا؟
فأجابت بثبات أكبر من سنها بكثير: نعم. - لا سبيل أمامنا إلا الهرب إلى الأبد.
فتمتمت: ليكن.
وبانتهاء اللقاء الأول انعقدت سحب التعاسة فوق رأسه. وقع في حفرة لم يقدر مدى عمقها من قبل. غزاه صدقها وشجاعتها وبراءتها. صدقته تماما، وهبته قلبها النابض، وضعت مصيرها بين يديه. دهمته أيضا استجابتها غير المتوقعة. هاله الدور القذر الذي يمثله بمهارة فائقة. ألم يخش لحظات من جانب معلمه العبث؟ ها هو يعبث بالطهارة والبراءة! لماذا؟ من أجل أن يعتلي الموقع الرفيع الثاني في جماعته. أيهون عليه حقا أن يتم مهمته فيدفع بالبنت إلى الهاوية؟ كلا! لم يكن يوما من أهل ذاك المنحدر. وما أغراه بالانضمام إلى جماعة المعلم إلا استزادة من الشرف، وهيهات أن ينسى نظراتها المحبة الواثقة. ولا صوتها العذب وهي تتمتم: ليكن.
هل يبيع ذلك كله من أجل مهمة غامضة كلفه بها رجل عظيم حقا، ولكنه معروف بأطواره المحيرة؟! كلا، فليقدم على ذلك وغد من الأوغاد لا رجل يهيم بالحياة السامية.
هكذا جلس عند قدمي معلمه وقد قرر أن شرفه أعلى من المهمة الغامضة.
9
قال واعيا بإقدامه على ما هو أخطر من قبول المهمة نفسها: البنت عاقلة لا سبيل إليها!
Shafi da ba'a sani ba
فقال موجود الديناري بهدوء: أنت كذاب.
تطلع إليه بذهول مؤمنا بأنه قد انتهى. السر افتضح، وفاته أن يفترض ذلك. إنه لم يخنه فقط، ولكنه أساء الظن أيضا بقدرته، وانقلب أتفه من لا شيء. وراحت يداه تدلكان ساقي الرجل بآلية في صمت ثقيل، حتى قال الرجل بجفاء: انطق.
فقال باستسلام: الصدق ما قلت يا معلمي. - كيف غفلت عن أنني أمتحنك أنت لا هي!
فقال بأسى: إني غبي ولكنني لم أستطع أن أكون وغدا. - فلتهنأ بالشهامة والعصيان!
فقال بيأس: أعترف بأنني أخفقت في القيام بالمهمة.
فتساءل المعلم بسخرية: ما هي المهمة؟ - ما كلفتني به يا معلمي.
فصمت الرجل قليلا ثم قال: أقول لك يا أعمى استمر!
فتمتم شطا بذهول: أستمر؟! - وأبلغني عن كل خطوة في حينها.
فاشتد الذهول بشطا وتساءل: أيعني ذلك أنني ما زلت مكلفا بالمهمة؟
فندت عن يد المعلم حركة تدل على ضيقه وقال بحزم: اذهب.
Shafi da ba'a sani ba
10
إنه يغوص في الظلمات بلا مرشد. خلا إلى نفسه في البدروم الذي تهجره أمه طيلة النهار سعيا وراء الرزق. تجرد من ثيابه دفعا لحر ذاك الصيف. فليفكر وليفهم. لقد أخفق في المهمة واستحق غضب الرجل. كان عليه أن يدرك أن للمعلم عيونه أيضا. لماذا إذن يأمره بالاستمرار عوضا عن أن يعلن فشله أو ينزل به عقابه؟ أيمنحه فرصة جديدة؟ كلا، لا تمن نفسك بالأوهام. هل المهمة شيء آخر غير ما وضح له؟ أيريد أن يخفف من عقوبته بعد أن خسر الثمرة؟ هل يسوقه إلى العقوبة من حيث لا يدري؟! ثمة أمر يقيني وهو أنه يتعمد إلقاءه في الحيرة. ما أعجزه عن الإدراك المطمئن، ولكن لا مفر من الاستمرار. إنه يفهم الآن مغزى تردد طباع الديك رغم قوته وشجاعته. أما هو فما أشبهه بلاعب السيرك الذي يترصده الهلاك عند الخطأ. فليذهب إلى الموعد المرتقب. لن يخفى شيء عن الرجل. عليه أن يهتدي إلى ما ينبغي له فعله قبل أن تتبدد حياته هباء. •••
وعندما أقبلت نحوه قبيل المغيب، عندما منحته ابتسامة اللقاء، نسي مخاوفه، استهان بالعواقب، محق شكوكه، غمره رضا وسلام، خفق قلبه بعمق، اكتشف أنه يحبها. أجل إنه يحبها كما تحبه وأكثر. لعله أحبها من بادئ اللعبة وهو لا يدري. وفي ظل الحب حظي باليقين. ومهما يكن من غموض معلمه أو عبثه فقد هداه إلى الحب. عليه أن يدمجه في مصيره ويحملهما معا. لقد محاها مرضاة لضميره وها هو الحب يلحق بالضمير ويجاوزه. لا أهمية الآن للمهمة ولا للدفاع عن النفس ولا للبقاء في الحارة. الهرب! الهرب! إنه الحقيقة الباقية. تلقاها بحرارة وسط ضوضاء المجاذيب. يوجد حتما من يراقبهما ولكنه سيلوذ بالمفاجأة. - أهلا بك يا وداد.
ثم بجدية بالغة: ليس لدينا وقت نضيعه.
تساءلت بنظرة من عينيها السوداوين فقال: الآن وجب الهرب.
فاضطربت متمتمة: الآن؟! - قبل أن تفلت الفرصة إلى الأبد.
فتفكرت وهي تعبث بأناملها بقلق ثم تساءلت: أأنت مستعد؟ - معي من النقود ما يكفي في البداية. - إلى أين؟ - أقرب وآمن مكان، الدرب الأحمر. - لا صديق لنا فيه. - جميع الدروب معادية، ولكن فتوته الشبلي خير من غيره. - وإذا أبى حمايتنا؟ - لا أظن، سأجعل نفسي في خدمته، وإلا ولينا وجهة أخرى.
فوجمت كالمترددة، فقال: لا اختيار منا وثمة أعين ترقبنا!
فقلقلت عيناها من الخوف، فقال: سنمضي من تونا وسوف تكون مفاجأة لم يتوقعها أحد، هذه هي فرصتنا. - إني معك، ولكن فلنؤجل التنفيذ حتى أستعد. - إنها فرصتنا الوحيدة.
هكذا مضيا في الطريق الجديد مضطربين مصممين سعيدين، يموتان ويولدان من جديد.
Shafi da ba'a sani ba
11
مضى شطا الحجري من فوره إلى مقابلة المعلم الشبلي في داره القديمة. صدمه الفارق الشاسع بين دار الديناري الباهرة وهذه الدار الهرمة، بين هيكل معلمه المترامي وجسم هذا الرجل النحيل الذي تأهل للفتونة بخفة النمر ودهاء الثعلب. قال شطا: جئتك مقدما الولاء وطالبا الحماية.
سر الفتوة للجوء أحد أتباع الديناري إليه، ولكنه قال: حدثني عما ألجأك إلي.
ولم يجد شطا بدا من الاعتراف الكامل بحكايته ليسوغ ما أقدم عليه من سلوك غريب. وضحك الشبلي طويلا وقال: معلمك يحيط نفسه بالغموض، في الظاهر استجلابا للاهتمام، وفي الحقيقة ليداري جنونه المؤكد.
فأحنى شطا رأسه ليخفي ضيقه ولاذ بالصمت، فقال الشبلي: لك الحماية والإقامة، ماذا تريد أيضا؟ - أن تقبلني في جماعتك.
فقال الفتوة بصراحة جارحة: أما هذا فلا، لا أمان لرجل خان معلمه!
أصابت الطعنة مقتلا، فقال بحرارة: أردت ألا أكون وغدا! - نحن نفضل الوغد المطيع على الشهم المتمرد. - لك ما تشاء وعلي الرضا بالمقدور. - ألك حرفة؟ - كنت نجارا قبل أن ألتحق بالجماعة. - مارس حرفتك واحذر أن تلعب بذيلك.
فقال بانكسار: إني أنشد السلامة يا معلم!
رجع شطا إلى وداد وقد خسر أشياء لا تعوض. ومن نقود الديناري المدخرة لديه تزوج واكترى حجرة وأثاثا بسيطا. استقر في مسكن وعمل كما استقر الحزن في أعماق نفسه. لقد اعتبر في الدرب آية على تفوق فتوة الدرب، ولكنه عومل كغريب. وأراد أن يهتك ستار الغربة فقال في المقهى: كان أحد أجدادي من الدرب الأحمر.
فسأله شيخ الحارة متحديا: أجئت من أجل ذلك؟
Shafi da ba'a sani ba
فبادره وقد فطن إلى ما وراء السؤال: بل جئت طلبا لحماية فتوة معروف بشهامته!
وتساءل في نفسه: ترى كم من زمن سيجري قبل أن ينهضم مقامه ويألف ويؤلف ثم يتناسى أحزان الماضي كله؟!
وقال لوداد: دفعنا إلى المر ما هو أمر منه.
فقبلته قائلة: إني غير نادمة. - لقد اعترفت للشبلي بحكايتي، والآن آن لي أن أعترف لك.
وقص عليها قصة علاقته بها منذ خرج للبحث عنها حتى وقع في حبها. وأصغت وداد واجمة، وصمتت مليا، ثم قالت: قصة جميلة، ولكنها لا تخلو من رعب.
فقال بحرارة: لم يبق لنا إلا أن نسعد.
ولكن حتى الليلة الأولى لم تخل من تنغيص ومن حزن. لقد حظي بالحماية ولكنه باء بسوء الظن والاتهام كما ثبت أنه غير أهل للثقة. وتساءل أناس هل يرجع الديناري إلى المعارك غضبا لكرامته خارقا ما التزم به من تعهدات سلمية - هو والشبلي - أمام الشرطة؟! هل يثبت شطا الحجري أنه شؤم على المكان الذي وفر له الحماية، كما كان عارا على المهد الذي ولد ونشأ فيه؟!
وانعكس ذلك كله على شطا وتسرب إلى حنايا وداد، فلم تخل الليلة الأولى من شهر العسل من تنغيص ومن حزن.
12
في صباح اليوم التالي ترامت إليهما أنباء عما لحق بأهلهما من تحرش وتضييق في الرزق، وتعرض لشتى ألوان الإهانات والقهر. في السوق أيضا سمعت وداد اللعنات تصب على جمالها الذي يهدد الحارة والدرب. رجعت إلى مسكنها شاحبة الوجه منهزمة وهتفت بعين دامعة: أبي وأمي وأخواتي!
Shafi da ba'a sani ba
فتمتم شطا بنبرة حزينة: أمي وأخواتي أيضا!
تبادلا نظرة طويلة حائرة. أفصحت النظرة عن أشياء انحبست وراء معانيهما. قالت النظرة إنهما اندفعا مع عاطفة طاغية دون تفكير في العواقب. الحق أنهما لم يشعرا بصفاء السعادة إلا في رحاب الاندفاعة المذهلة. الآن يعترضهما جدار سميك من الحقائق المرة بأنيابها الحادة. وكالغريق الذي يتعلق بقشة قال شطا: وراءنا طريق مسدود، وعلينا أن نستخلص من القمامة جوهرة السعادة المفقودة.
فتأوهت قائلة: اللعنات تطاردني في الطريق. - علينا أن نجعل من الحاضر ماضيا.
فنكست وجهها صامتة فرجع يقول: فعلنا ما هو صواب ومشرف. - ولكننا نسينا العواقب، دعنا نبحث عن رزقنا في مكان آخر. - لن يخفف ذلك البلاء عن أهلنا. - والعمل؟ - لا مفر من مواصلة الحياة. - لكنها مليئة بالمرارة!
فقال بضيق: لا مفر ولا حيلة!
13
في مساء اليوم الثالث استبقاه الشيخ ضرغام إمام الزاوية عقب صلاة العشاء، وقال له: عندي رسالة إليك من الشيخ عقلة إمام حارتكم.
أصغى شطا بفتور وتشاؤم، فقال الشيخ: إنه يخبرك بأن ما يعانيه أهلك وأهل زوجك فوق ما يحتمل البشر.
فتقبض وجه شطا وهو يقول: الحزن يمزق قلبي! - أيكفي ذلك؟ الناس هنا يتساءلون كيف تنعمان بالحب على حين يؤدي أهلكما عنكما ضريبة العذاب؟ - أهل الدرب هنا يكرهوننا يا مولاي. - إنهم معذورون. - فقال شطا متنهدا: من الأوفق أن نذهب. - إلى أين؟ - إلى أي مكان. - والمعذبون وراءكم؟ - فقال شطا باستياء: كأنما تدعونا إلى الموت! - إني أخاطب ضميرك. - ضميري هو ما ساقنا إلى هنا، والمسألة أننا ضحية عبث. - عبث؟! - أجل، عبث لا معنى له. - ولكن، انظر، ما من فعل إلا وله سببه وله هدفه أيضا. - لقد خدعت فكلفت بمهمة عابثة. - ألم تكن تطمح إلى أن تكون فتوة حارتكم ذات يوم؟ - أيعني ذلك أن أكون ألعوبة في يد الغير؟ - من أجبرك؟ - عظيم، لقد اخترت بعد ذلك أن أفعل ما رأيته صوابا. - وها هو يتكشف عن أخطاء فمن ذا يصلحها؟ - وإذا سرت إلى الهلاك بقدمي فهل تدافع عني أنت؟
فقال الشيخ ببرود: الهلاك نهاية كل حي، ولكن يوجد الخطأ كما يوجد الصواب أيضا.
Shafi da ba'a sani ba
شكره بجفاء وقام ماضيا نحو مسكنه. شعر بأنه يمضي إليه كارها، فتعجب من ذلك غاية العجب.
14
وجد في الحجرة غشاوة صفراء - مشبعة بحرارة الصيف - لا تستطاب فيها لقمة ولا يخفق قلب بالحب.
تبادلا النظرات في صمت مشحون بالكآبة. أعاد على مسمعها حديث الشيخ. وتبادلا النظر أيضا. كأنما تقول له «أنت السبب». إنهما تعيسان وما بينهما يتدهور كلبنات البنيان الآيل للسقوط. تنهد قائلا: الحياة لا تطاق.
فأمنت قائلة: هي كذلك.
اعتراف ينذر بالمأساة. تساءل كمن يتحسس ضرسا مريضا: هل نهجر الدرب ونعيش بلا مبالاة؟ - تقول ذلك بلسانك لا بقلبك.
فتساءل متحديا: ما عسى أن نفعل؟ - أرشدني فإنك أنت الرجل.
استشف في قولها سخرية أثارت غضبه، فقال غاضبا: ما من شقاء إلا وراءه امرأة. - فليسامحك الله، ولا تنس أنك بدأت بخداعي. - ستصبين الأخطاء فوق رأسي. - كنت القائد وكنت التابعة. - هذا هو الظاهر. اللعنة!
فهتفت محتجة: ما دمت قد أحببت فإني أستحق أكثر من ذلك. - ما أعجب أن نذكر الحب في مثل حالنا! - لك علي ألا أذكره.
وندم على ما فرط منه. ما جدوى الغضب؟ وكبح نفسه قائلا وهو يجفف عرقه: نحن نهرب في الغضب من مواجهة أنفسنا. - طيب أن تذكر نفسك بذلك.
Shafi da ba'a sani ba