لكن قاتله من لا نظير له
وكان يدعى أبوه بيضة البلد
وانتبه يوما معاوية ، فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره فقعد ، فقال له عبد الله يداعبه ، يا أمير المؤمنين للو شئت أن أفتك بل لفعلت ، فقال : لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر قال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب قال : لا حرم ، إنه قتلك وأباك بيسرى يديه ، وبقيت اليمنى فارغة ، يطلب من يقتله بها . وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، وباسمه ينادي في مشارق الأرض ومغاربها . | وأما القوة والأيد فيه يضرب المثل فيهما ، قال ابن قتيبة في المعارف : ما صارع أحدا قط إلا صرعه ، وهو الذي قلع باب خيبر ، واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة وكان عظيما جدا ، وألقاه إلى الأرض ، وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها ، وأنبط الماء من تحتها . | وأما السحاء والجود فحاله فيه ظاهرة ، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، وفيه أنزل : ^ ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) ^ وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا وبدرهم علانية ، فأنزل فيه : ^ ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) ^ | وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة ، حتى مجلت يده ، ويتصدق بالأجرة ، ويشد على بطنه حجرا . | وقال الشعبي وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبه الله : السخاء والجود ، ما قال لا لسائل قط . | وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس ، لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن لأنفذ ببره قبل تبنه . | وأما الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن ذنب ، وأصفحهم عن مسئ ، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل ، حيث ظفر بمروان بن الحكم ، وكان أعدى الناس له ، وأشدهم بغضا ، فصفح عنه . وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب ، وكان علي عليه السلام يقول : ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله ، فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه ، وقال فلا أرينك ، لم يزده على ذلك . | وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة ، وكان له عدوا ، فأعرض عنه ولم يقل له شيئا . | وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها ، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم وقلدهم بالسيوف ، فلما كانت الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به ، وتأففت وقالت : هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي ، فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن ، وقلن لها : إنما نحن نسوة . | وحاربه أهل البصرة ، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف ، وشتموه ةولعنوه ، فلما ظفر رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر ، ألا لا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأسر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن ، ولم يأخذ أثقالهم ، ولا سبى ذراريهم ولا غنم شيئا من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو ، وتقيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد ، والإساءة لم تنس . | ولما ملك عسكر نعاوية عليه الماء ، وأحاطوا بشريعة الفرات ، وقالت رؤساء الشام له : اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا ، سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء ، فقالوا لا والله ، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان ، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه ، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع ، سقطت منه الرؤوس والأيدى وملكوا عليهم الماء ، وصار أصحاب معاوية في الفلاة ، لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشيعته . امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسيوف العطش وخذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب ، فقال : لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم أفسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك ، فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا ، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام . | وأما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين ، وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له . وقد عرفت أنه أعظم غزاة غزاها رسول الله عليه وآله ، وأشدها نكاية فيالمشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل علي نصفهم ، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر وإذا رجعت إلى مغلزيس محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك ، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما ، وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه ، لأنه من المعلومات الضرورية ، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما . | وأما الفصاحة فهو عليه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين ، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ، قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ، ففاضت ثم فاضت ، وقال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده إلا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل منمواعظ علي بن أبي طالب . | ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ، قال له : ويحك كيف يكون أعيا الناس فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره ، ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة علىأنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة ، وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر مما دون له ، وكفاك في هذا الباب ما يوله أبوو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وفي غيره من كتبه . | وأما سجاحة الأخلاق ، وبشر الوجه ، وطلاقة المحيا والتبسم ، فهو المضروب به المثل فيهع ، حتى عابه أعداؤه ، قال عمرو بن العاص لأهل الشام : إنه ذو دعابة شديدة ، وقال علي عليه السلام في ذاك : عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة ، وأني امرؤ تلعابة ، أعافس وأمارس ، وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه : لله أبوك لولا دعابة فيك إلا أن عمر اقتصر عليها ، وعمرو زاد فيها وسمجها . | قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين الجانب ، وشدة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه . وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا الحسن ، فلقد كان هشا بشا ، ذا فكاهة . قال قيس : نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء ، وتعيبه بذلك ، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام . | وقد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر ، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك . | وأما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد ، وبد الأبدال ، وإليه تشد الرحال وعنده تنفض الأحلاس ، ما شبع من طعام قط . وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ، قال عبد الله بن رافع : دخلت عليه يوم عيد ، فقدم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فقدم فأكل ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الوليدن أن يلتاه بسمن أو زيت . | وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وليف أخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرباس الغليظ ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ، ولم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمه له . وكان يأتدم إذا اتئدم بخل أو بملح ، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ، ويقول لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان ، وكان مع أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا ، لا ينقص الجوع قوته ، ولا يخون الإقلاق منته ، وهو الذي طلق الدنيا ، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام ، فكان يفرقها ويمزقها . ثم يقول :
Shafi 23