الأصل الثاني: أن المقالة قد تكون كفرًا ومع ذلك لا يكفر قائلها لمانع من الموانع
[والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفرًا، كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم].
أو كالقول بخلق القرآن، أو إنكار الرؤية، أو إنكار العلو، فهذه مقالات كفرية، ولا يلزم أن يكون القائل بها كافرًا.
[ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده].
"لم يبلغه الخطاب" أي: لم يبلغه الدليل أصلًا، فهذا ليس بكافر، أو أنه بلغه الخطاب ولم يصح عنده كأن يكون حديثًا عن النبي ﷺ، أو أن يكون بلغه الخطاب ولكنه لم يفقه معناه؛ فإن قيام الحجة لا يكون بمجرد سماع النص، حتى ولو لم يفقه النص.
وقد وجد في هذا العصر بعض من يقرر أن قيام الحجة يكون بمجرد سماع النص سواء فقه أم لم يفقه، ويقول: هذه مسألة فيها إجماع، وهذا اختيار فلان واختيار فلان، وهذا خطأ، فإن المسألة ليست داخلة في مسألة اختيار فلان وفلان، بل هذه مسألة من مسائل الأصول، والتي لابد أن تكون مبنية على مقاصد ومقامات واضحة من الشريعة.
وقد يستدل هذا القائل بأن الله كفّر الكفار بمجرد أنهم سمعوا شيئًا من آيات القرآن.
نقول: هذا الكلام صحيح؛ فإن الله ﷾ كفر الكفار بعد بعث النبي ﷺ ونزول الوحي لما سمعوا أصل الدعوة وشيئًا من الكتاب الذي نزل على رسوله ﵊، لكن جميع الكفار في زمن النبي ﷺ عرفوا وفقهوا أصل الدعوة وأصل الإسلام؛ لأن النبي ﷺ كان يقول لهم كلمة: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وهذه الكلمة كانت العرب تفقهها؛ ولهذا قال الله عنهم في مراجعتهم في مسألة الاستجابة: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص:٥] فهم كانوا يعرفون معنى التوحيد بمجرد نطق النبي ﷺ به.
فمن يقول: إن العرب سمعوا مجرد سمع ولم يفقهوا، فقد أخطأ؛ فإن العرب كانوا يفقهون أصل الجملة التي هي التوحيد، وهذا هو أصل معارضتهم للرسالة، وصاحب الرسالة ﷺ كان مقصوده الأول من العرب وغيرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، فإن من آمن بها لزم أن يؤمن بما بعدها من الكلمات.
وبعضهم يستدل على ذلك بأن الله ﷾ كفر الكفار وهم جاهلون.
فإذا قيل له: ما الدليل؟
قال: الدليل قوله تعالى: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:١٩٩] فكفر الله العرب مع أنه سماهم جاهلين ..
وهذا خطأ في فهم كلام الله؛ لأن المقصود هنا بالجهل ترك الرسالة، والاتباع، والاستجابة، فإن الله ﷾ قال عن الكفار: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة:١٤٦]، وقال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل:١٤] إلى آخر ذلك، فلا شك أنهم كانوا يعرفون الحقائق ويفهمونها.
ولكن هنا مقام: وهو أنه لا يلزم أن يفقه المعنى من جنس فقه أئمة العلماء وأئمة المؤمنين، إنما المقصود: فهم الحقائق الكلية التي عليها مبدأ الدخول في الإسلام، أما الحقائق التفصيلية التي هي من مبادئ زيادة الإيمان وزيادة العلم، فلا شك أنه لا يلزم في قيام الحجة أن تفهم وتفقه.
[كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ بباديةٍ بعيدةٍ لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيءٍ مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع].
قوله: "ومقالات الجهمية من هذا النوع".
أي: أنها كفر أو فيها ما هو كفر بلا جدل، ومع ذلك فإن الواحد من أصحابها لا يُكفَّر إلا إذا كان معاندًا قد قامت عليه حجة الرسالة، وهذا يطرد في غير الجهمية أيضًا.
[فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله].
وهنا نقول: لا شك أن إنكار صفات الله وكمال الرب ﷾ أعظم من سب الصحابة، لكن المقاصد تختلف، ولهذا من سب الصحابة على معنى الطعن في نبيهم ﷺ، أو على معنى الطعن فيما معهم من الديانة، أو أن الديانة التي أخذوها من رسول الله ﷺ ومن القرآن ليست صحيحة، أو أن هديهم القرآن هديًا مفضولًا، وأن الهدي الفاضل هو الهدي المختص من مقامات من العلم، أو من الظاهر، أو من الباطن، أو من السفسطات التي يقولها بعض الغلاة ..
فلا شك أن هذا السب من الكفر الأكبر.
إذًا الأصل الثاني باختصار: أن المقالة قد تكون كفرًا ومع ذلك لا يلزم أن يكفَّر صاحبها، وليس معنى قولنا "لا يلزم" أنه لا يكفر بحال، فهو قد يكفر إما قطعًا وإما اجتهادًا، قطعًا إذا كانت المقالة قطعيةً بينة يطرد القول فيها عن السلف، كإنكار العلم السابق، وإما اجتهادًا ككلام الإمام أحمد في مسألة القرآن.
8 / 13