قال أرسطاطاليس : « ومن البين الظاهر أن نتيجة البرهان هى كلية ، والسبب فى ذلك أن مقدمات البرهان كلية . وإذا كانت نتيجة البرهان كلية وذاتية ، فلا سبيل إلى أن يقوم على الأشياء الفاسده برهان ، ولا يقع العلم بها على التحقيق ، اللهم إلا أن يكون البرهان يقوم عليها لمشابهتها ما بالعرض . فأما على طريق الكلى ، فلا ، لكن فى وقت ما ، وعلى وجه ما . » [ ٤٦ ب ] التفسير قوله « ومن البين أن نتيجة البرهان هى كلية » - يعنى بالكلية هنا مقابل الجزئية . وقوله : « والسبب فى ذلك هو أن مقدمات البرهان كلية » - يريد - على ما تبين فى كتاب « القياس » - من أن المقدمات الكلية يلزم عليها ولا بد نتيجة كلية . وكون نتائج البرهان يجب أن تكون كلية يظهر من وجوب كونها ضرورية . ولذلك قال : « وإذا كانت نتيجة البرهان كلية وذاتية ، فلا سبيل إلى أن يقوم على الأشياء الفاسدة برهان » - ويعنى بالفاسدة : الكائنة والأشخاص . وقوله : « اللهم إلا أن يكون البرهان يقوم عليها لمشابهتها ما بالعرض » - يريد : « بوجه مشابهتها ما بالعرض » : أنها قد تكون صادقة فى وقت ما ، كما يكون بالعرض صادقا فى وقت ما . ولذلك قال : « فأما على طريق الكلى ، فلا ، لكن فى وقت ما وعلى جهة ما » - يريد : فاما أن يقوم عليها برهان على طريق الكلية ، أى ذاتيا وأبديا ، وعلى جهة ما ، لا فى كل وقت ولا بحسب طبيعة ذلك الشخص ، أعنى الطبيعة الكلية . وقوله : « وعلى جهة ما » . . - يحتمل أن يريد به الجهة التى هو بها موجود فى الهيولى وفى شخص ، وهو شىء عارض للطبيعة الكلية النوعية ، أعنى أن تتشخص فى المواد من قبل المواد أنفسها . قال ارسطاطاليس : « وإن كان البرهان يقوم على الأشياء الفاسدة ، فيلزم من الاضطرار أن تكون احدى المقدمتين غير كلية ، بل تكون فاسدة ، من قبل أن الموضوع فيها فاسد ، وذلك أن الموضوع فيها هو الموضوع فى النتيجة . وتكون أيضا غير كلية ، من قبل أن أحد حدودها موجود ، والآخر يخر موجود . فبين من هذا أنه لا سبيل إلى أن يقوم على الأشياء الفاسدة برهان على طريق الكل ، إلا بالاستثناء . » التفسير لما أخبر أنه إذا كانت المقدمات كلية فى البراهين فإنه يجب أن تكون النتائج كلية ، لا جزئية ، يريد أن هذا اللزوم يظهر من أنه إذا فرضنا أنه قد يمكن أن يكون برهان على الأشخاص الكائنة الفاسدة ، يلزم ضرورة أن تكون إحدى مقدمتى القياس كائنة فاسدة ، لأنه قد تبين أن النتيجة الجزئية لا تكون أبدا إلا وإحدى مقدمتى القياس جزئية ، وذلك إما الصغرى فى الشكل الأول والثانى ، وإما أيهما اتفق فى الشكل الثالث ، على ما تبين فى كتاب « القياس » . وقوله : « من قبل أن الموضوع فيها فاسد » - يريد : وإنما يجب إذا كانت النتيجة شخصية ، أن تكون احدى المقدمتين شخصية ، من قيل أن موضوع المطلوب يجب [ ٤٧ أ] أن يكون فى النتائج الجزئية شخصا ولا بد . وأعنى بالجزئية هاهنا الأشخاص ، لا ما يدل عليه السور الجزئى . وقوله : « وتكون أيضا غير كلية من قبل أن أحد حدودها موجود ، والآخر غير موجود » - يريد : وتكون النتيجة أيضا غير كلية من قبل أن المحمول فيها يكون موجودا لبعض الموضوع وغيم موجود لبعضه . وإنما أراد أنها تكون ، مع أنها شخصيه ، جزئية وأعنى ب « الجزئية » ما يدل عليه بعض ، وليس بعض . ولذلك قد يشك فيقال . هل تدخل فى البراهين مقدمات جزئية ؟ فإن الجزئية أيضا التى فى المادة الضرورية ضرورية ، مثل قولنا : بعض الحيوان ناطق . لكن يشبه أن تكون الضرورية هاهنا بالعرض . وذلك أن بعض الحيوان إنما صار ناطقا لا بما هو بعض إذ كان بعض الحيوان منه ناطق ، ومنه غير ناطق . وإنما صار : بعض الحيوان ناطق بما هو ذلك البعض إنسان . وعلى هذا فليس يكون فى المقاييس البرهانية النظرية لا مقدمة شخصية ، ولا جزئية . - وقول من قال : إنما لم تذكر الجزئية فى البراهين لأنها داخلة تحت الكلية - قول خطأ ، كما قال أبو نصر فى كتابه فى « البرهان » . وإنما يصح هذا القول فى المقدمات الجدلية ، أعنى هذا التعليل ، وهو الذى قاله أرسطو فى الثانية من « الجدل » فالتبس الأمر على أبي نصر ، فطن أن الأمر فى ذلك واحد فى البرهان والجدل . إلا أن يريد مقدمات البراهين الصغرى المستعملة فى الصنائع العملية القياسية . وقوله : « تبين من هذا أنه لا يقوم برهان على الأشياء الفاسدة على طريق الكلى إلا بالاستثناء » - يريد : فبين من هذا القول أنه لا يقوم برهان على الأشياء الفاسدة على طريق البرهان الذى يكون على الكل ، وهو البرهان المطلق ، إلا أن يستثنى القائل فيقول إنه يقوم عليها برهان جزئى ، أى فى وقت ما ، لا برهان مطلق . قال أرسطاطاليس : « وصور الأشياء الفاسدة فى الحد كصورتها فى البرهان . وذلك أن الحد إما أن يكون مبدءا للبرهان ، وإما أن يكون برهانا متغيرا فى الوضع ، وإما أن يكون نتيجة برهان . » التفسير يريد : وحال الأشياء الفاسدة فى أنه ليس لها حد كحالها فى البرهان ، أعنى أنه كما أنه ليس يقوم عليها برهان ، كذلك ليس يكون لها حدود . ولما ذكر هذا ، أتى بالسبب فى ذلك فقال : « وذلك أن الحد إما أن يكون مبدءا للبرهان ، وإما أن يكون برهانا متغيرا فى الوضع ، وإما أن يكون نتيجة برهان » - يريد وإنما وجب أن تكون الحدود أيضا للأمور الكلية من قبل أن الحدود لا تخلو أن تكون مبدأ برهان ، وذلك إذا كانت معروفة بنفسها ، أعنى أنها تؤخذ فى البراهين حدودا وسطى [ ٤٧ ب ] أو أن يكون الحد أيضا بأسره برهانا متغيرا فى الوضع ، وذلك إذا كان بأسره حدا ، أعنى إذا كانت الثلاثة الحدود التى منها التأم البرهان حدا بالقوة ، أعنى أنه إذا ترتبت ترتيب الحد صار منها حدا كاملا بالفعل . ولذلك قيل فى هذا البرهان : « متغير فى الوضع » أى فى الترتيب . وقد يكون الحد أيضا نتيجة برهان . وسيتبين بعد ذلك من كلامه أى البراهين هى التى تفيد هذه الثلاثة الأنحاء من الحدود ، فإن فيه موضع فحص شديد وعويص كبير . وأما أن الحدود تعرض لها هذه الأنحاء فى البراهين - فقريب من أن يبين مما تقدم ، لأن الحد لا يخلو أن يكون معروفا بنفسه بأسره ، أو مجهولا بأسره ، أو بعض أجزائه مجهولة ، وبعضها معلومة . فالأول يكون مبدأ برهان ، والثانى يكون نتيجة برهان ، والثالث يكون بعضه مبدأ برهان ، وبعضه نتيجة برهان . قال أرسطاطاليس : « والأشياء التى تحدث تارة بعد أخرى ، بمنزلة الكسوف ، فإن البرهان إنما يكون كليا على الذى هو مثل هذا . فأما من حيث هى جزئية وفريدة وغر دائمة ، فصورتهما صورة الأشياء الفاسدة لا يقوم عليها برهان ، بمنزلة هذا الكسوف . » التفسير لما بين أن البرهان من الأشياء الكلية وعلى الأشياء الكلية ، وكان مما يشكك فى ذلك الأشياء التى لا يوجد منها إلا شخص واحد بعد شخص واحد ، بمنزلة الكسوفات التي تحدث مرة بعد مرة ، فإن لقائل أن يقول إن هذه ليس يقوم البرهان عليها على طريق الكلى ، كما تقدم من قوله فى الأشياء التى لا يوجد منها إلا شخص واحد فقط ، مثل الأرض والشمس . فهو يخبر فى هذا القول أن البرهان إنما يقوم فى هذه الأشياء على الطبيعة الكلية الموجودة فيها ، لا على شخص من جهة ما هو شخصى . ولذلك قيل فى حد الكلى إنه الذى من طبيعته أن يحمل على أكثر من شخص واحد ، لا أنه يحمل بالفعل على أكثر من شخص واحد ، إذ كان ذلك لا يصدق على التى لا يوجد منها إلا شخص واحد فقط ، ولا على التى لا يوجد منها إلا شخص بعد شخص كالكسوفات . وقوله : فإن البرهان إنما يكون كليا على الذى هو مثل هذا » - يريد أن البرهان إذا قام على كسوف ما فإنما يقوم على هذا المشار إليه ، وعلى الذى هو مثله مما شأنه أن يحدث غير نهاية ، لا على هذا المشار إليه من حيث هو المشار إليه ؛ وهو الذى أراد لقوله : « فأما من حيث هى جزئية » - يعنى : الكسوفات وما أشبهها - « وفريدة ، وغير دائمة فصورتها صورة الأشياء » التى لا يقوم عليها برهان ، ويعنى بصورتها : طبيعتها . فكأنه قال : فأما الجزئيات [ ٤٨ أ] من حيث هى جزئية وشخصية وغير دائمة الوجود فطبيعتها طبيعة الأشياء التى لا يقوم عليها برهان ، بمنزلة الكسوف المشار اليه .
٩ - <مبادى البرهان الخاصة وغير القابلة للبرهنة>
Shafi 291