وكان هذا الجزء من الحصون في حال سيئة؛ لأن بناءه لم يتم، وكان كل يوم يزداد الجزء المعرض منه على النيل، واجتمع معظم الدراويش عند هذه النقطة وكانت سائر قواتهم تواجه سائر الحصون، وشرع في الهجوم عند إشارة متفق عليها، وفر في الحال جميع من كانوا عند النيل الأبيض بعد أن أطلقوا بضع طلقات. وبينما كان الجنود يشتغلون في صد هجوم القوات الأخرى المهاجمة، كان الآن الدراويش يدخلون من جهة النيل الأبيض ويخوضون في الماء والوحل إلى ركبهم، ثم ينصبون في الشوارع. ودهش الجنود إذ رأوا الدراويش يهاجمونهم من خلف.
ولم يقاوم الجنود عندئذ إلا مقاومة ضعيفة ووضع كل منهم سلاحه في الحال، ثم قتل المصريون أما السود فلم يقتل منهم إلا عدد قليل، ولم تبلغ خسارة العدو ثمانين أو مائة رجل، ثم فتح الدراويش أبواب المدينة فخرج من تبقى من الجنود إلى معسكر المهدي.
ولما دخل الدراويش من جهة النيل الأبيض تصايحوا وهم يعدون في المدينة: «للسراية، للكنيسة»؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنهم سيجدون هناك الأموال المدخرة كما يجدون غوردون الذي دافعهم طويلا عن المدينة وعكس عليهم أغراضهم، وكان القادة في هذا الهجوم رجال مكين واد النور الذي قتل بعد ذلك في معركة توسكي، وهو ينتمي إلى قبيلة العرافين، وكان قائدهم السابق شفيق مكين الذي كان يدعى عبد الله واد النور، وقد قتل في حصار الخرطوم، وكان رجاله الآن يرغبون في الثأر له، وكان عدد كبير أيضا من رجال أبو حرجة يستبقون نحو السراي وكانوا يرغبون في الانتقام لهزيمتهم في بورى؛ حيث هزمهم غوردون.
ولما دخلوا السراي وجدوا الخدم في قبو السراي فقتلوهم في الحال، وكان غوردون واقفا على السلم المؤدي إلى غرفة الجلوس فقال لهم عندما رآهم: «أين مولاكم المهدي؟»
ولكنهم لم يكترثوا لهذا السؤال وتقدم أولهم وطعن غوردون بحربته فوقع على وجهه دون أن ينطق بكلمة، فأخذ القتلة يجرونه على السلالم إلى باب السراي، وهنا أخذوا رأسه وأرسلوه إلى المهدي في أم درمان، أما الجسم فقد ترك لرحمة المتعصبين.
وكانت آلاف من هذه الخلائق الوحشية تمر على الجسم ويغمس كل منهم حربته في دمه، فلم يمض زمن حتى صار الجسم قطعة مشوهة من اللحم، وقد بقيت بقع الدم مدة طويلة في المكان الذي قتل فيه غوردون شاهدة على ارتكاب هذه الفظيعة، بل كانت ترى أيضا على درجات السلم مدة عدة أسابيع، ولم تغسل إلا حين قرر الخليفة أن يتخذ هذه السراي مأوى لزوجاته السابقات واللاحقات.
ولما أحضر رأس غوردون للمهدي قال إنه كان يود أن يحضر إليه غوردون حيا؛ لأنه كان ينوي أن يدخله في الإسلام ثم يقايض به الحكومة الإنجليزية على عرابي باشا؛ لأنه كان يأمل أن يساعده عرابي في فتح مصر. واعتقادي، أن المهدي كان ينافق في تأسفه هذا على قتل غوردون؛ لأنه لو كان يرغب حقيقة في الإبقاء على حياته لما خالف أمره أحد.
وقد فعل غوردون كل ما في استطاعته لكي يقي حياة الأوروبيين الذين كانوا في الخرطوم؛ فقد أذن للضابط ستيورت مع بعض القناصل وعدد كبير من الأوروبيين في السفر إلى دنقلة، ولكن بحارة الباخرة «عباس» كانوا غير كفاة، وكانوا أيضا مستائين، فصدموا الباخرة في الشلالات فوقع الضابط ستيورات ومن معه فريسة للغدر الذي قضى عليهم.
وكان غوردون يرغب في هروب اليونان، فسلمهم باخرة وتعلل في الظاهر بأنهم يعرفون البحر، وأمرهم بالتفتيش في النيل الأبيض؛ وذلك كي يتيح لهم الفرصة بأن يسافروا جنوبا إلى أمين باشا ولكنهم أبوا ذلك. وكان غوردون مهموما بسلامتهم فاقترح اقتراحا آخر؛ فإنه أمر الناس بعدم السير في الطرق المؤدية إلى النيل الأزرق بعد الساعة العاشرة، ثم كلف اليونانيين بحراسة هذه الطرق؛ وذلك لكي تتاح لهم الفرصة بالفرار على باخرة قد أرسيت قريبا، ولكن اليونان اختلفوا فيما بينهم فضاع هذا التدبير.
وأنا لا أشك في أن هؤلاء اليونانيين لم يكونوا يرغبون في الفرار إلى الخرطوم؛ فإن معظمهم كانوا يعيشون في بلادهم أو في مصر في فاقة شديدة، وهم لم ينالوا الثروة إلا في السودان؛ ولذلك لم تطاوعهم نفوسهم على تركه.
Shafi da ba'a sani ba