فيا للبشرى! لقد كان قلبي يثب وثوبا لهذه الأخبار، وقلت لنفسي لقد جاء الرجاء بعد هذه السنوات الطويلة، وأمر المهدي والخليفة بأن يكف الناس عن العويل، ولكنه استمر مع ذلك عدة ساعات وأرسلت الأوامر لنور أنجرة بأن يقوم إلى متمة.
وبعد يومين أو ثلاثة جاءتنا أخبار هزيمة أخرى في أبي كر وهزيمة أخرى أيضا في قبة «جوبات» وتيار قلعة على النيل قريبة من متمة.
وعقد المهدي وأمراؤه مجلسا للتشاور، فقد رأوا أن كل ما جنوه من الانتصارات السابقة قد بات في خطر، حتى إن المحاصرين للخرطوم خافوا وارتدوا من الحصار، وصار القضاء على المهدي مسألة يمكن إنهاؤها في بضعة أيام، فيجب عليهم أن يخاطروا بكل شيء، فأرسلت الأوامر للمحاصرين بأن يستعدوا الاستعداد التام للهجمة الأخيرة.
ثم لم لم تأت البواخر التي تحمل الجنود الإنجليزية؟ فهل كان قواد هذا الجيش يجهلون أن حياة جميع من في الخرطوم قد باتت في خطر؟ ولقد انتظرنا طويلا لكي نسمع صفير البواخر يؤذن بمقدم الإنجليز ودوي مدافعهم فوق خنادق الدراويش، ولكن انتظارنا كان عبثا، أجل كان عبثا، ولم نكن نفهم علة هذا التأخير أو معناه، وكنا نتساءل هل طرأ عائق جديد؟
وكان اليوم الأحد 15 يناير، وهو يوم لن أنساه في حياتي؛ ففي مساء ذلك اليوم عبر المهدي وخلفاؤه في زورق إلى الشط الشرقي، حيث كان رجالهم مجتمعين للقتال، وكان قد عرف أن النية قد عقدت على مهاجمة الخرطوم في صباح اليوم التالي، وذهب المهدي لكي يحمس رجاله ويذكرهم بالجهاد والقتال إلى الموت، وكنت أدعو الله أن يكون غوردون قد عرف هذه النية واستعد لها.
وفي هذا الوقت أمر المهدي والخلفاء أتباعهم بألا يهتفوا ولا يصيحوا؛ حتى لا تدخل الشبه في قلوب رجال الحامية الذين أنهكهم الجوع والكلال، وخطبهم المهدي وهم سكون ثم عادوا إلى الشط الغربي بعد أن خلف الخليفة شريف الذي رجاه أن يبقى مع المجاهدين.
وكانت تلك الليلة أحفل ليالي في قلق النفس وثورتها، فقد كنت أقول لنفسي لو أن الحامية تثبت هذه الليلة وتصد المغيرين، إذن لن أخشى شيئا على الخرطوم، أما إذا انهزمت فإننا نفقد كل شيء في السودان، وشعرت بإعياء في الفجر وبدأ النوم ينسل إلي، وإذا بي أسمع ضجيج المدافع والبنادق من آونة لأخرى، ثم شمل السكون مرة أخرى، ولم يكن النور قد قشع الظلام بعد حتى لم أكن أتبين الأشياء، فما معنى كل هذا؟ ضجيج المدافع والبنادق ثم سكون تام؟
ثم ظهر قرص الشمس أحمر في الأفق، فتساءلت: ماذا يأتينا به هذا النهار؟ وقعدت أنتظر وأنا في أشد القلق وهياج النفس، ثم سمعت أصوات الابتهاج والنصر من بعيد وتركنا الحرس وجروا لكي يعرفوا سبب هذه الأصوات، وبعد دقائق عادوا إلينا وأخبرونا بأن الخرطوم أخذت عنوة وصارت الآن في أيدي الدراويش، وبقي لي شك أتعلل به؛ هل تكون هذه الأخبار كاذبة؟!
ثم زحفت ونهضت وأخذت أنظر في المعسكر فوجدت جما غفيرا من الناس قد تألبوا حول مكان المهدي والخليفة، ثم رأيت هؤلاء الناس يسيرون نحوي، وكان أمامهم ثلاثة من الزنوج يدعى أحدهم «شطة»، وكان سابقا أحد الحرس العبيد عند ضيف الله، وكان في يده قماش مشرب بالدم قد لف على شيء وكان وراءه جمهور من الناس يبكون، واقترب العبيد الثلاثة مني ثم وقفوا وهم يشيرون إشارات الإهانة والسباب، ثم حل «شطة» القماش وأخرج لي رأس غوردون!
فدار رأسي وشعرت كأن قلبي قد وقف، ولكني جمعت كل قواي وضبطت نفسي ونظرت إلى هذا المنظر المفزع وأنا صامت، وكانت عينا غوردون الزرقاوان قد فتحتا إلى النصف، أما الفم فكان في هيئته العادية، وكان شعر رأسه وعارضيه قد علاهما الشيب.
Shafi da ba'a sani ba