وبعيد وصول أمين منحه غوردون رتبة بك وعينه حاكما لمدينة لادو، وعند سفر غوردون تعين حاكما عاما لمديريات خط الاستواء، وبقي في هذا المنصب إلى سنة 1889، حيث عين مستر ستانلي مكانه.
وعدت أنا إلى مصر عن طريق صحراء بيوضة، ثم دنقلة ووادي حلفا، وبلغت النمسا حوالي أواخر سنة 1875.
وقد فرحت عندما تسلمت خطاب غوردون الذي وصل إلي ونحن في حرب البوسنة، واشتقت إلى أن أعود إلى السودان معينا في منصب ما، ولكن لم يؤذن لي بالسفر إلا في ديسمبر سنة 1878 عندما انتهت الحرب وعادت فرقتي إلى برسبرج، فأخذت في التهيؤ مرة أخرى للسفر إلى أفريقيا.
وكان أخي هنري في الهرسك فقضيت ثمانية أيام في فينا أودع أفراد أسرتي، ثم ذهبت إلى تريستا في 21 ديسمبر سنة 1878 وأنا أجهل تماما أنه سيمضي علي 17 سنة أرى فيها الأهوال والغرائب قبل أن أرى بلادي ثانيا، وكان عمري إذ ذاك 22 سنة.
ولما بلغت القاهرة تسلمت تلغرافا من جيجلر باشا بالسويس، وكان قد عين مديرا لمصلحة التلغرافات بالسودان، وكان على وشك أن يسافر إلى مصوع؛ لكي يفتش على الخط بين هذه البلدة وبين الخرطوم. وقد دعاني إلى السفر معه إلى سواكن، فقبلت بكل سرور الانتفاع بهذه الفرصة التي تكرم فأتاحها لي. وافترقنا في سواكن؛ فذهب هو على ظهر الباخرة إلى مصوع، وشرعت أنا أهيئ نفسي للسفر إلى بربر على الجمال، وقد عاونني علاء الدين باشا الذي كان حاكما في ذلك الوقت، والذي كان بعد ذلك في صحبة هكس باشا، الذي قتل مع الجيش المصري بأجمعه عندما اصطدم به جيش المهدي في شيكان في نوفمبر سنة 1883.
ولما بلغت بربر وجدت في انتظاري ذهبية بأمر الجنرال غوردون، فنزلت إليها ووصلنا إلى الخرطوم في 15 يناير سنة 1879، وقد لقيت هنا احتراما ورعاية؛ إذ قد خصني غوردون بدار ليست بعيدة عن القصر، وأنفذ إلي من يدعى علي أفندي لكي يقوم بقضاء ما أحتاج إليه، وكنت في اجتماعي بالجنرال غوردون أسمعه يتحدث عن الضباط النمسويين الذين عرفهم في طولطشة، عندما كان في بعثة الدانوب، وكان يحفظ لهم في قلبه أجمل ذكرى، وأتذكر قوله لي: إنه من الخطأ أن نغير ملابسنا البيضاء السابقة بملابسنا الزرقاء الراهنة.
وعينني غوردون مفتشا ماليا وطلب إلي أن أقوم بالتفتيش في البلاد، وأفحص شكايات السودانيين الذين كانوا يعارضون في دفع الضرائب التي لم تكن تعتبر فادحة. وإطاعة لهذه الأوامر قمت إلى سنار وفازوغلي عن طريق المسلمية، وعرجت على جبال قوقيلي ورجرج وكاشانكيرو القريبة من بني شنغول، ثم رفعت تقريري إلى الجنرال غوردون وأوضحت في هذا التقرير أن الضرائب غير عادلة، وأن معظمها يقع على عاتق أصحاب الأملاك الصغيرة من الأرض، أما كبار الملاك فكان من السهل عليهم أن يرشوا الجباة بمبالغ صغيرة فينجوا من الضرائب إلا ما قل منها، وعلى هذا كان مقدار كبير من الأرض لا تؤخذ عليه الضريبة، بينما يقوم الفقراء بسد العجز ودفع ضرائب ثقيلة عن أملاكهم. وأبنت - فضلا عن هذا النظام السيئ - أن الأهالي مستاءون من الطرق الجائرة التي يتبعها جباة الضرائب، وجلهم من الجنود والباشبوزق والشايجية، ولم يكن هم هؤلاء الموظفين سوى الحصول على الثروة بأسرع ما يمكنهم على حساب السكان التعساء، الذين كانوا يخضعون لسلطتهم الوحشية القاسية.
وكنت كثيرا ما أجد خلال أسفاري أن الأراضي التي يملكها الموظفون - ومعظمهم من الأتراك والشايجية - لا تجبى عليها ضرائب ما، وعندما كنت أسأل عن علة ذلك كان يقال إن هذا الامتياز للموظفين لما يقومون به من الخدمة للحكومة. وقد كانوا يستاءون أشد الاستياء عندما كنت أقول لهم إنهم يتناولون أجرا على هذه الخدمة.
ولكني عندما قبضت على البعض منهم أقروا جميعا بأنهم متأخرون في دفع الضرائب. ووجدت في المسلمية - وهي بلدة تجارية كبيرة تقع بين النيلين الأبيض والأزرق - جماعة من النساء في سن الشباب، وكان يملكهن أغنى التجار وأكثرهم اعتبارا، ويؤجرونهن للأغراض السافلة بأجور عالية، وكان هذا العمل من التجارات الرابحة، ووقعت في حيرة لا أدري كيف أفرض الضرائب على هذه المنازل، ولا أية خطة يجب إقرارها. وإني أعترف بأن تجاربي الماضية ومعارفي قد خذلتني في هذا الموضوع، وشعرت عندئذ بعجزي التام عن القيام بأي إصلاح، ولم يكن لي من الخبرة بالشئون المالية سوى القليل أو العدم؛ فلذلك وجدت من العبث أن أستمر في عملي وقدمت استقالتي.
وكان غردون قد سافر في هذه الأثناء إلى دارفور بخصوص البحث عن الحملة التي أرسلت لمقاتلة سليمان بن الزبير باشا، ولكنه كان قبل أن يسافر قد رقي جيجلر إلى رتبة باشا وعينه حاكما عاما مدة غيابه، فانتهزت الفرصة وأرسلت إليه مع البريد تقريري واستقالتي، وتسلمت بعد مدة قليلة تلغرافا منه يوافق فيه على استقالتي من منصب المفتش المالي.
Shafi da ba'a sani ba