وشرع المهدي في تنظيم حكومته، وكانت إدارته غاية في البساطة، فأسس أولا بيت المال ووضع في رياسته صديقه الأمين أحمد واد سليمان، وكان يجبي إلى بيت المال هذا جميع العشور والفطرة، والزكاة المأخوذة على جميع الغنائم أو الأملاك التي استصفيت من أصحابها، والغرامات التي تفرض في السرقات وشرب الخمور والتدخين، ولم يكن هناك نظام لإيرادات الحكومة ومصروفاتها؛ ولذلك كان أحمد واد سليمان حرا في الإعطاء والمنع لمن يشاء.
وكان القضاء في يد القاضي الذي أطلق عليه المهدي اسم «قاضي الإسلام» وكان له مساعدون، وكان أول من حصل على هذا المركز أحمد واد علي، الذي كان قاضيا تحت إدارتي في شقة، وكان بعد الثورة في مقدمة المغيرين على الأبيض، وكان المهدي وخلفاؤه يحفظون لأنفسهم حق معاقبة أي مجرم، وخاصة ذلك الذي يشك في مهدوية المهدي، وكان الموت عقاب المجرم في هذه الحالة. ولما كانت هذه العقوبات تخالف الشريعة، فإن المهدي منع درس الفقه وأمر بتحريق جميع هذه الكتب، ولم يكن يسمح بقراءة شيء غير القرآن، ولكنه مع ذلك لم يكن يأذن لأحد بشرحه علنا.
وكانت المواصلات بين المهدي وسكان الجزيرة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أنصاره المخلصين لا تنقطع، وعرف منهم أخبارا عن سفر عبد القادر إلى كاوة وسنار ومعه قوة كبيرة، وكانت هذه المدينة قد حاصرها أحمد الكاشف، ولكن عبد القادر باشا هزمه في مشروع الوادي ورفع الحصار، وطارد صالح بك الثائرين حتى جبل سخيدي، وألجأهم إلى صحراء بين هذا الجبل وبين كارة، ولم يكن بها ماء فمات كثير منهم بالعطش، وهذا المكان لا يزال يدعى عند السودانين «تبكي وتسقط»؛ لذكرى الذين ماتوا عطشا فيه.
ولكن هذه الهزائم لم تضعف حب الجمهور للمهدي، وليس شك في أنها كانت تخفف عبء الموظفين وقتيا، ولكنها لم تكن تمنع مجيء اليوم المتوقع من الجميع، ولو كانت نصائح عبد القادر باشا قد سمعت لتغير حال السودان؛ فقد كان لا يوافق على إرسال تجريدة كبرى لتخليص كردوفان، ولكنه كان ينصح بتوزيع الأمداد التي تأتي من القاهرة على مراكز على النيل، بحيث تكون هناك حاميات، ثم يترك الثوار وشأنهم مؤقتا، وكان عنده ما يكفي لقمع الثورة في الجزيرة بين النيلين الأبيض والأزرق، وأيضا لمنع تقدم المهديين من الغرب.
ولو اتبعت هذه النصائح لكان الأرجح أن سوء إدارة المهدي تؤدي إلى الخلل والشقاق، فيمكن الحكومة استرجاع ما فقدته بعد مدة قليلة، ولم يكن في مقدوري الاحتفاظ بدارفور أكثر مما احتفظت به، وحتى لو فرضنا أنه وقع في يد المهدي لكان هذا أيسر الشرين، ولكن ولاة الأمور في القاهرة لم يكونوا من رأي عبد القادر باشا، وكانوا يرون أنه يجب أن تعاد للحكومة كرامتها وسلطتها مهما كلفها ذلك، ودبروا لذلك تجريدة يقودها هكس باشا الإنجليزي ومعه ضباط أوروبيون، فاستدعي عبد القادر باشا إلى القاهرة وقام مقامه علاء الدين باشا الحاكم العام للسودان الشرقي سابقا، وعرف المهدي كل ذلك واستفاد منه.
وفي هذه الأثناء وصل زوجال إلى الأبيض، حيث احتفل باستقباله فأطلق مائة مدفع تكريما له، وأشيع في كل مكان أن دارفور قد سلمت نفسها للمهدي الظافر، واعتبر أيضا رجوع زوجال إلى دارفور ضمانا قويا على دخول دارفور في طاعة المهدي، وأنها لذلك ليست في حاجة إلى إرسال قوة من الجيش، ووجه المهدي الآن كل عنايته إلى درس الحالة في النيل.
وبعد وصول هكس باشا قام في الحال إلى كاوة وهزم الثائرين في مرابية في 29 أبريل سنة 1882 وقتل أحمد المكاشف.
وكان عثمان دجنة أحد النخاسين في سواكن قد بعثه المهدي لكي ينشر الدعوة إلى الجهاد في بلاد مختلفة، وقد أثبت المهدي بعد نظره في اختيار هذا الرجل الذي ذاع اسمه بعد ذلك، وكان يقدر أنه إذا ثار السودان الشرقي فإن الحكومة ترتبك وتؤخر تجريدة كردوفان، أو لا ترسلها مطلقا.
ولست أدخل في تفاصيل الوقائع التي دارت بين هذا الأمير الجسور وبين الحكومة؛ فإنها معروفة مشهورة ولا تحتاج إلا للإشارة إليها هنا فقط، ويكفي أن أقول إن المهدويين نجحوا في شرقي السودان ولكن نجاحهم لم يؤثر في الحكومة كما رغب المهدي، بل بقيت على عزمها من تهيئة التجريدة لكردوفان، وفي أوائل سبتمبر سنة 1883 غادر هكس باشا الخرطوم إلى الدويم على النيل الأبيض، حيث انضم إليه علاء الدين باشا الذي طلب إليه أن يصحب التجريدة.
وإني لا أشك في أن ولاة الأمور في القاهرة كانوا يجهلون الحالة في كردوفان؛ إذ كانوا يتصورون أن إرسال مثل هذه التجريدة لكردوفان يقضي على المهدي، الذي صار الآن الحاكم المطلق في المديريات الغربية وليس فيها أحد سوى أنصاره، فهل نسوا أن المهدي أباد القوى التي كان يقودها راشد وشلالي ولطفي، وأن بارة والأبيض وغيرهما من البلاد قد خضعت له، وأنه أصبح يملك من البنادق أكثر مما يملكه هكس في تجريدته؟
Shafi da ba'a sani ba