الفصل السادس
حصار الأبيض وسقوطها
كبرت آمال المهدي بانتصاراته العديدة السابقة، وكان إلياس باشا يحضه على القدوم إلى الأبيض، فترك جبل غدير ومعه آلاف من العرب النخاسين والمعتصبين وانحدر بهم إلى كعبة؛ وهي قرية صغيرة في أرباض الأبيض.
وأرسل من هناك الخيالة للاستكشاف ولدعوة الراغبين في الانضواء للمهدي، وأرسل أيضا إلى محمد باشا سعيد يأمره بالخضوع، وقرئ خطاب المهدي أمام الضباط فاقترح محمد بك إسكندر قتل الرسل حملة هذا الخطاب، وكان محمد باشا سعيد غير موافق على هذا الاقتراح أولا، ولكنه وافق في النهاية وأعدم الرسل فورا.
ولم يضن المهدي بأي مجهود لإثارة من حوله؛ فكان يعظ الدهماء الذين حوله، ويصف جنات النعيم التي وعد بها المؤمنون الذين يشتركون في الجهاد. وفي صبيحة يوم الجمعة 8 سبتمبر سار الناس وهم يغلون حماسة وليس معهم سوى السيوف والحراب وجموعهم تموج نحو المدينة، وكانوا قد تركوا ما غنموه من الأسلحة في حملة راشد وشلالي، وأخذ المتحصنون في المدينة يصبون عليهم نار البنادق، ولكن هذه الجموع التي لم تكن تطمح إلا إلى الغنائم والأسلاب لم تكن تبالي بمن يقتل منها، فكانوا يتقدمون ويملئون الخنادق ويجوزون الحواجز ودخل بعضهم المدينة، وفي هذه اللحظة أمر الضابط نسيم أفندي حامل البوق بأن يعطي الإشارة للتقدم، وأخذ الإشارة حملة الأبواق في كل مكان، فنادوا بالهجوم فخرجت الجنود إلى سطوح المنازل وتعلقوا بالأسوار والحيطان وصبوا النار والرصاص فوق رءوس رجال المهدي، ورأت هذه الجموع الرصاص ينزل عليها كالبرد فتراجعت ببطء إلى الوراء، وحاولوا مرة أخرى أن يتقدموا فردتهم الجنود ثانيا وقتلاهم يعدون بالآلاف، وأخيرا خرجوا وتنحوا عن المدينة وانتصرت حامية الأبيض انتصارا باهرا.
وقد قتل في هذا الهجوم شقيق المهدي المدعو محمد، وشقيق الخليفة عبد الله المدعو يوسف، وقتل أيضا القاضي وعدد من الأمراء، وكان المهدي مدة الهجوم محتميا وراء منزل صغير، ولو كان محمد باشا سعيد سمع نصيحة أحمد بك ضيف وطارد الدراويش بعد اختلاطهم وتقهقرهم، لكان نجح في القبض على المهدي وتمكن من حقن الدماء الغزيرة التي أريقت بعد ذلك.
ولكن سعيد باشا قنع بهذا الانتصار الوقتي واعتقد أن المهدي قد سحق وأنه لا يجرؤ على معاودة الهجوم، وأن هذه الهزيمة ستحبط أغراضه وتزيل سطوته، وقد أدرك أقارب المهدي وأصدقاؤه هذه الحالة أيضا ونصحوا له بأن ينتقل إلى تل جانزارة، الذي يقع في الشمال الغربي من المدينة، ومكث هناك يحاصر المدينة حصارا مكشوفا وينتظر الأسلحة والذخائر التي أرسل في طلبها من جبل غدير.
وفي هذه الأثناء كانت دلين وهي مركز المرسلين المسيحيين في حالة خطرة، وكانت بها حامية مؤلفة من 80 عبدا، وكان المهدي في طريقه إلى الأبيض، وقد أرسل أحد أنصاره - وهو مك عمر - لكي يأسر أو يقتل من بها، وكان الأب أوهروالدر والأب بونومي قد اتفقا على الهرب إلى فاشودة ولكن تدبيرهما حبط لجبن الضابط الذي كان يقود فصيلة الجنود، فاضطرا إلى الإذعان وسرق منهما كل شيء وسيقا أسيرين إلى الأبيض، وحاول هنا المهدي هو والخليفة عبد الله أن يجعلاهما مسلمين هما وسائر الراهبات، ولكنهم رفضوا جميعا.
وفي اليوم التالي أخذهم الجنود وحولهم الدراويش يزعقون ويزيطون إلى ساحة فسيحة؛ حيث أقيم عرض كبير، ثم أوهموا جميعا بالقتل ولكن عفي عنهم في النهاية، ووكل أحد السوريين المدعو جرجي إستامبولي بالعناية بهم، وكان هذا السوري من أهالي الأبيض الذين انضموا إلى المهدي.
وفي هذا الوقت ظهر نجم مذنب في السماء، فاعتبره السودانيون نذيرا بسقوط الحكومة وأن المهدي قد ظهر على الأرض.
Shafi da ba'a sani ba