تأكد عبد الله رغبتي في الحرية وتطلعي إلى الفرار من قيد الأسر. ورغم ما بذلته لتحويله عن ذلك الفكر، لم أستطع نفي ما في مخيلته من شكوك وريب، وفي الوقت نفسه كان يخشاني ويتملقني؛ فقد وهب لي الكثير من العبيد، وعرض علي الزواج من بنات أسرته، واجتهد في تقديم هدايا كثيرة لي ليحول بيني وبين الفرار بطرق لطيفة، ولكني أصررت على الرفض إباء، فزاد ذلك مخاوفه وشكوكه، وتأكد أني أتطلع لأول فرصة أتمكن فيها من مغادرة أم درمان إلى الخارج، وفي ذلك العمل خطر عظيم عليه خاصة وعلى بلاده عامة.
بعد سقوط الخرطوم سعى أفراد أسرتي في أوروبا جهدهم للوصول إلى معرفة أخباري الوثيقة، ولكنهم تأكدوا أن الظهور بهذا المظهر خطر داهم علي إزاء عسف الخليفة وشكوكه.
لم يدخر فون جسلر - قنصل النمسا والمجر في القطر المصري - جهدا في استقصاء أخباري. وقد وجد هذا الشخص الكبير المقام تعضيدا ظاهرا من جانب الضباط الملحقين بالجيش المصري وغيرهم من الموظفين. ومما أذكره عن أولئك الأخيرين أنهم كانوا الواسطة في وصول الأخبار إلى أفراد أسرتي عن طريق حاكم سواكن عام 1888، فإني شخصيا لم أكن أستطيع إيصالها إلى الضباط؛ لأني - كما قلت في الصفحات السابقة - كنت محروما من الاختلاط بأي شخص أجنبي والتزاور مع أي موظف رسمي.
مما تقدم يقف القارئ على مقدار فزع الخليفة وسوء ظنه، وقد زاد ذلك الريب وصول خطاب من الهرفون روستي - الذي خلف الهرفون جسلر في القنصلية النمساوية في القطر المصري - إلى الخليفة يطلب منه فيه التصريح بقبول قسيس يعظ الرعايا النمسويين المقيمين في السودان. وأظن أن أكبر ما أثر في الخليفة وحول وجهته ضدي هو ورود خطاب من القنصل النمساوي يستعلم فيه عن الحالة في السودان. ومن المدهش أن الخليفة عبد الله استطاع كظم غيظه، فطلب مني كتابة بيان عن الموقف الأخير في أم درمان خاصة والسودان عامة. وبطبيعة الحال لم يبال الخليفة بخطاب الهرفون روستي، وكل ما عني به هو اتهامي بالخيانة من ناحية، والكذب من الناحية الأخرى؛ لأني كنت أخبرته قبلا أن جميع الرعايا الأوروبيين في السودان من الإيطاليين مع استثناء الأب أوهروالدر النمساوي، فقد جاء طلب القنصل النمساوي مخطئا ومكذبا لبياني، ومن الحق لم أرم من وراء ادعائي أن الأجانب في أم درمان جميعهم غير نمساويين إلا إلى شيء واحد؛ هو الخوف مما قد يحيق بهم من سوء عبد الله في حالة غضبه على شخصي، فقد يخيل إليه في اليوم الذي يريد فيه الاقتصاص مني أن يهلك جميع الأوروبيين لانتمائهم إلى الجنسية التي أنتمي إليها، في حين أني كنت أسعى جهدي لحملهم على النجاة.
كان الخطاب الواردة من الهر روستي ضربة قاضية على جميع تدبيراتي التي قمت بها لصالح إخواني، ومع ذلك سعيت إلى إقناع الخليفة بأن الغرض من كتاب روستي هو ضم جميع الأوروبيين المقيمين في السودان تحت الشعار النمسوي، ولكني عبثا حاولت إقناعه؛ فقد عمد إلى مواجهتي بعد أن كان مكتوما من قبل، ثم اتهمني بالكذب الصريح ومحاولة غشه.
وضع أفراد أسرتي مقدارا من المال تحت تصرف قنصل النمسا الجنرال ليستعمله وقت الحاجة لمساعدتي، وقد تمكنوا من إيصال مقادير مالية مختلفة لي بواسطة العرب، وذلك بعد التسهيلات الشديدة التي تفضل بها علي كثيرون من الضباط الملحقين بالجيش المصري مع سعادة الماجور ونجت مدير الإدارة الحربية، ولا أنسى في هذا الصدد أن أقول للقراء بأني في كثير من الأحيان كنت أستلم مقادير أقل من المذكورة في الرسائل التي سلمها إلي أولئك العرب، ولكني كنت مضطرا إلى تقرير حصولي على المبالغ كاملة. ومهما يكن الأمر فقد كنت شاكرا لمن أرسلوا لي المال بمقدار شكري لمن أوصلوه إلى يدي؛ لأن الأخيرين ساعدونا مساعدة كبرى في حمل رسائل وتقارير سرية إلى أفراد أسرتي دون وصول الجواسيس إليها.
كنت شديد الحيطة في صرف المبالغ؛ فقد اجتهدت في الظهور بمظهر البائس الذي لا يجد ما ينفقه حتى لا تتطرق الريبة إلى نفوس العسس، وحتى لا يقف الخليفة على حقيقة أولئك الأعراب الذين تفضلوا بمساعدتي، وتبعا لذلك عشت أبسط عيشة ودفعت ما وفرته لأصدقائي المعوزين.
وثق أصدقائي المقيمون في القاهرة - بعد أن حرمني الخليفة من أي اتصال بالخارج - أنه من المستحيل عليهم العمل على إنقاذي؛ ولذلك فكروا مليا في الطريقة التي أتمكن بها عند سنوح الفرصة من الفرار والنجاة من عسف عبد الله. وفي الحق كنت عارفا من اللحظة الأولى التي وقعت فيها في الأسر أن نجاتي لا تتم إلا بواسطة الفرار في الفرصة المناسبة. وعلى الرغم من قضاء اثنتي عشرة سنة في عذاب وتحت نير الاضطهاد، لم يذهب الأمل لحظة واحدة من خاطري؛ فقد كنت على ثقة من الفوز بأمنيتي في النهاية بعد صبري العجيب.
قضيت السنين ولم يعلم إنسان حقيقة ما في نفسي وما اعتزمت تنفيذه، ولكني ذكرت عرضا عرض لإبراهيم عدلان، وقد وعدني الأخير وعدا صادقا بأنه سيبذل أقصى ما في وسعه لإنقاذي.
ولكن من سوء الحظ قد وقع غضب الخليفة على إبراهيم عدلان هذا بعد أيام من وعده الشريف، فنفي من أم درمان وخسرت أنا بذلك النفي صديقا مخلصا وحاميا شجاعا نبيلا.
Shafi da ba'a sani ba