ولم تأتني إلى هذا الوقت أخبار عن هرون، فبقيت طول اليوم في فراشي، وزارني صديقاي قاطنج وجبر الله عدة مرات، وقد عرض علي أولهما جواده فرفضت قبوله، أما الثاني فقد عرض علي إحدى خدمه وقال لي: «إنها صغيرة جميلة وقد تربت تربية حسنة في منزلي، وهي تعرف الطبخ وأعمال البيت وتفهم في الأمراض.» فرفضت أيضا قبولها، وتركني جبر الله وهو مكسور الخاطر لأني لم أقبل هديته، ولكني كنت مضطرا إلى هذا الرفض؛ لأني بعد أن جربت رقية الطبيب لم أكن شديد الرغبة في أن أسلم نفسي لمراحم آنسة سودانية، مهما كانت براعتها!
وفي صباح اليوم التالي استيقظت وقد عادت إلي عافيتي، ولما لقيني أحمد وأخبرته بأني تعافيت قال لي فورا: «أنا كنت متحققا من أنك ستشفى؛ لأن عيسى - الطبيب - لم يضع يده على أحد إلا شفاه.»
ومضى يوم آخر بدون أن يأتينا خبر عن هارون. وفي اليوم التالي رجع إلينا حوالي الظهر أحد رسل جبر الله، وقال لنا إن هارون قد جمع رجاله ولكنه لم ينزل بعد من التلال التي اتخذها مقرا له وقت الصيف، وفي اليوم الرابع - من وصولنا لبير جوى - جاءنا رسول آخر وقال إن هارون لما بلغه أني تركت دارة وجئت إلى بيرجوى لمقاتلته، سرح رجاله الذين ذهبوا إلى جبل مرة.
فلما سقط في يدي وذهب أملي في القتال عدت إلى دارة، وكان الدكتور زربوخين قد برحها وترك لي خطابا يقول لي فيه إنه يرجو لي النجاح، ووجدت أيضا الكاتب الذي صحبني منذ أن كنت مفتشا ماليا وجاء معي إلى دارة؛ قد جن مدة غيابه ووضعوه في منزل بجوار منزلي، فلما ذهبت إليه لكي أراه وقف وعانقني وهو يصيح: «الحمد لله ، لم يفعل السلطان هارون شيئا لك، زوجال بك رجل خائن احترس منه، لقد أمرت بإيقاد النار في القاطرة لكي يحملك القطار إلى أوروبا؛ حيث تتمكن من رؤية أهلك، وسأذهب معك، ولكن يجب الحذر من زوجال بك؛ فإنه وغد سافل.»
وكان ظاهرا أنه قد فقد عقله، ولكن المجانين أحيانا يقولون الحق، فأخذت في تهدئته حتى رقد وسمع صفير القاطرة، وأوهمته أني معه في القطار، ثم تركته لعناية الخدم وخرجت، وبعد خمسة أيام مات هذا المسكين، وأظن أن سبب موته انفجار عرق في دماغه.
وشرعت أنا في تدبير أمور مديرية دارة، وبعد شهر تسلمت خطابا من مسدجاليه بك، يقول لي فيه - وكان مكتوبا بالفرنسية - إنه قد عزم على أن ينتهي من هرون؛ ولذلك هو يأمرني بأن أخرج سرا عن طريق منواشي وقبة بقسم من الجنود النظامية، وأتجه نحو جبل مرة وأغير على نيورنه، حيث مقام السلطان هرون، وقال لي إنه قد أرسل قوة من الفاشر عن طريق طرة، وقوة أخرى من قلقل عن طريق أبي حرز، وسيلتقي الجميع في مكان واحد ويعملون معا في مقاتلة هارون.
فأذعنت للأمر وغادرت دارة ومعي 220 جنديا نظاميا و60 من البازنجر، وسرنا حتى بلغنا نيورنه، حيث السلطان هارون في جبل مرة، فوجدناه قد جلا عنها، وفي صباح اليوم التالي خرجت بفصيلة من الجنود أبحث عن هرون، ولكننا لم نذهب بعيدا حتى سمعنا عيارات نارية تطلق بسرعة من ناحية نيورنه، فركضت جوادي راجعا فوجدت الجنود الذين تركتهم قد اشتبكوا في قتال مع قوة أخرى معادية، فأدركت حالا أنها إحدى القوات التي أرسلت لمساعدتي من الفاشر، ولكنها لم تصل في الوقت المعين لها. فلما وصلت إلى نيورنه ووجدت قوة مرابطة تحتلها، أطلقت عليها النار وهي تحسبها أنها تابعة لجيش السلطان هرون، وقد تكلفت مشقة كبيرة في وقت إطلاق النيران التي قتل بسببها سبعة وجرح أحد عشر، ومر عيار في ملابسي وأصيب جوادي بعيارين.
وبقينا في نيورنه عشرة أيام، ولما لم يكن في مقدورنا أن نحصل على أخبار صحيحة عن هارون قررت العودة، وكنا نحن في عودتنا نمر على عدة قرى فنفاجئها؛ لأن أهلها لم يكونوا ينتظرون مجيئنا من الغرب، وكان السلطان هارون قد جند معظم الرجال، أما الباقون فقد فروا إلى التلال، ولكن رجالي تمكنوا من القبض على نحو ثلاثين امرأة سرن معنا مدة قصيرة، وقد فوجئ أهالي إحدى القرى بنا فلم يتمكنوا من الهرب، ولما رأيت أن جميعهم من النساء أمرت الجنود بالوقوف حتى أتيح لهن الفرصة للفرار، ثم أمرت الجنود أيضا بأن يسيروا صفا واحدا حتى لا يتفرقوا في القرى ويعيثوا فيها.
ومما حدث أن أما مسكينة كانت تحاول الهرب، فباغتناها ففرت تاركة وراءها طفلين على صخرة، وأخذت هي تعدو كالغزال على سند الجبل، فذهبت إلى حيث الطفلين فوجدتهما عاريين ليس عليهما شيء سوى عقد من المرجان حول عنقيهما وحزام من المرجان أيضا حول وسطيهما، وكان كلاهما أسود كالغراب، والأرجح أنهما كانا توأمين يبلغ عمر كل منهما 18 شهرا، فنزلت عن الجواد وذهبت إليهما، فأخذا في الصراخ وكل منهما يمسك بالآخر، فحملتهما وأمرت خادمي بأن يحضر قليلا من السكر، فسكتا في الحال وصارا يبتسمان خلال الدموع ويقرضان السكر، الذي كان في الأرجح أحلى ما ذاقاه مدة حياتهما الصغيرة الماضية، وكان عندي مناديل حمر أحملها على الدوام معي لكي أقدمها هدايا، فلففت كلا منها في منديل ووضعتهما على الصخرة كما كانا وسرت بعيدا عنهما، ونظرت إليهما بعد مدة فرأيت إنسانا - هو أمهما - يزحف على الصخر إليهما، فلما بلغتهما عانقتهما ودهدهتهما بعد أن كانت قد يئست من حياتهما، وأخذت هذين الولدين في لباسهما الجديد وعلى شفتيهما أثر السكر الحلو.
وبعد أيام ونحن لم نبلغ بعد دارة، جاءتني الأخبار بأنه في مدة غيابي عن هذه البلدة أغار عليها هارون وانتهبها وفر ثانيا إلى التلال ومعه الغنائم والسبايا العديدة، فأخذت أدلاء من القرى المجاورة وخرجت أتعقبه، ولما أن صرنا على مسافة سفر يومين في الجنوب الشرقي من الفاشر لقيت جنوده الذين لم يتوقعوا مجيئنا.
Shafi da ba'a sani ba