صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام
للإمام جلال الدين السيوطي
تحقيق الدكتور/
علي سامي النشار
السيدة سعاد علي عبد الرازق
Shafi da ba'a sani ba
تقديم بقلم الدكتور عبد الحليم محمود الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين -والصلاة والسلام -على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. وبعد:
فتتسم الحضارة الإسلامية بالشمول والكلية.
إنها شاملة لمجالات الروح والبدن تعطى كل واحد منهما قسطه من الحياة في تناغم متناسق منسجم يحقق للفرد وللجماعة الأمن والطمأنينة والاستقرار. وهى كلية تهب الإنسان رحابه في الحياة يتجدد له بها عيش مرضيًا عنه من الله والملائكة والناس أجمعين.
والحضارة الإسلامية بهذا تخلق أمة عملاقة في صنع الخير لجميع الناس.
ولقد زخرت المكتبة العربية الإسلامية بالكثير من إنتاج علماء الإسلام في مجال المعرفة والثقافة الإسلامية.
لقد ملأ علماء الإسلام مكتبات الدنيا بعلمهم ومعارفهم وكان في هذا العلم وفي هذه المعرفة درس وتعاليم عن المنهج وطرق البحث فغرف كل ظامئ من هذه المناهل فكانت حضارات الأمم في هذا المجال الفكري نبتًا يترعرع على ري علماء الإسلام.
لقد ولدت الحضارة الإسلامية حضارات في الغرب والشرق، حضارات
1 / 3
قلدت حضارة الإسلام في أن تقدم للإنسانية الخير والطمأنينة والأمن والاستقرار، لكنها لم تفلح.
لقد تركزت حضارة الإسلام في جوهر العقيدة وخلقت الفرد المطمئن المستقر في وجدانه وعقليته وعواطفه.
لكن التقليد غالبًا ما يكون داء، لذا أخفقت الحضارات التقليدية لأنها جذور على السطح دائمًا ولأنها خلو من الإيمان بربها فكانت زيدًا زيدًا يذهب جفاء.
﴿وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ بإذن الله تعالى.
ولقد كانت المخطوطات الإسلامية علمًا ينفع الله به، وكان من حق أجيال ستأتي، أن تربط حبائل الفكر عندها بركائز الفقه والعلم والمعرفة عند أسلافهم، فكان من أقدس الأعمال وأنفسها أحياء هذا التراث الذي كان عمادًا الحضارات قامت ويكون عمادًا لحضارة أمةً يجب أن تستمر في رحاب من رضوان ربها، وسعة من أمن دينها وفسحة من الثقة برسالتها.
ويسر الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية أن تقدم للعالم الإسلامي سلسلة جيدة في إحياء التراث الإسلامي، خدمة للدين والعلم وإحياء لمجد جدير بالتقدير والاحترام خليق بالاعزاز ونستفتح هذه السلسلة على بركة بكتاب: «صور المنطق» لمؤلفه الإمام السيوطي.
وهو كتاب غني عن التعريف به والإشادة بذكره.
والله نسأل أن ينفع به وهو وحده الموفق والمعين.
الدكتور عبد الحليم محمود
الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية
1 / 4
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى المسلمين أجمعين.
وبعد: فهذه هي مقدمة الطبعة الثانية لكتاب صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام. وقد سبق أن أستاذي الدكتور على سامي النشار بتحقيق هذا الكتاب ونشره عام ١٣٦٦ هـ - ١٩٤٦ م.
وكان قد أتم ذلك عن نسخة وحيدة بالمكتبة الأزهرية بالقاهرة. وقد رأى أستاذنا الكبير الدكتور عبد الحليم محمود: أمين عام مجمع البحوث الإسلامية. وعالم الإسلام العظيم. أن يقدم للقارئ العربي طبعة جديدة في صورة محدثة أنيقة. ومراجعات جديدة في ضوء مجموعة كبيرة من الكتب لم تكن قد ظهرت حين ظهور الطبعة الأولى ومن أهم هذه الكتب "كتاب الشريعة للآجدى عام ١٩٥٢" وقد أورد السيوطي نصوصا كثيرة منه كذلك كتاب "الرعاية للمحاسبي" وقد نشره الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود والأستاذ طه عبد الباقي سرور وقد نقل السيوطي أيضا نصوصا منه .. وكتاب البخاري في خلق أفعال العباد وقد نقل السيوطي فقرة منه.
وحين قررنا للقيام بنشره هذه الطبعة الثانية -بناء على رغبة الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود كما قامت -بدأت وأستاذي الدكتور علي النشار
1 / 5
بمراجعة الطبعة الأولى على مخطوط (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام) ولدينا للصورة الفوتوغرافية لهذا المخطوط .. وسننشر منها صفحتين في هذه الطبعة .. ثم أتبعنا هذا بمراجعة كتاب (صون المنطق والكلام) على الكتب المنشورة التي أشرنا إليها آنفًا .. وكذلك قمت بتنظيم الكتاب تنظيمًا دقيقًا فقسمت الفقرات الكبيرة التي ظهرت في الطبعة الأولى مسترسلة إلى فقرات أصغر. حتى تسهل القراءة على القارئ .. مما جعل الكتاب يبدو في صورة جديدة تختلف عن صورته الأولى ..
أما عن مادة الكتاب، فإننا نعلم أن الكتاب قد ألفه السيوطي لكي يثبت إتقانه للمنطقة .. وكان المنطق قد أعتبر شرطًا من شروط الاجتهاد وكان السيوطي يدعي الاجتهاد المطلق .. فكتب كتابه هذا (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام) وهو صرخة حضارية، قامت بها الروح الإسلامية تجاه علم من علوم الأوائل .. وهو المنطق الأرسططاليس وتجاه علم يستند على العقل والرأي .. وهو علم الكلام.
أما عن موقف الروح الإسلامية عن المنطق اليوناني .. فإن النقد الباطني للنصوص المختلفة التي أوردها السيوطي تبين:
أولا: أن هذا المنطق ترف عقلى .. لجأ إليه اليونان .. ولم يصل بهم إلى علم يقيني.
ثانيًا: أن هذا المنطق لا يمكن أن يكون الصورة الوحيدة لليقين، فهناك صورة أخرى لليقين .. لا يعرفها هذا المنطق ولا أصحابه الأصليون وأتباعهم من المشائين الإسلاميين ..
ثالثا: إن هذا المنطق المستند على اللغة اليونانية ويسميها السيوطي هنا -لسان يونان -لا يتفق أبدًا مع المنطق الذي يجب أن يصدر من الروح الإسلامية نفسها .. مستندًا على "عبقرية اللغة العربية".
1 / 6
وقد استند السيوطي في نقده الأخير هذا على "الإمام الشافعي". والشافعي أعظم من أدرك بيقين نافذ استناد المنطق اليوناني على عبقرية اللغة اليونانية وخصائصها مما يحول دون تطبيقه على أبحاث تقوم أساس على العربية. ونحن نعلم أن الشافعي قد وضع أصول الفقه .. وطريقه الكبير "القياس الأصولي" بلغة الأصوليين الفقهاء .. وقياس الغائب على الشاهد .. بلغة الأصوليين المتكلمين .. " وهو طريق يختلف في كلياته وفي جزئياته عن القياس الأرسططاليس المشهور. كان الأول يمثل المنهج الاستقرائي .. بينما يمثل الثاني المنهج القياسي أو الاستنباطي.
وكل من المنهجين يمثل حضارة مختلفة عن الأخرى أشد الاختلاف .. أما عن موقف الروح الإسلامية من علم الكلام. فهو موقف يختلف عن المنطق فقد كان علم الكلام في بدئه عالما حادثا في الإسلام .. احتيج إليه زمنا ما لرد عادية التيارات الخارجية التي هاجمت الإسلام .. وكان أهم هذه التيارات المسيحية واليهودية والغنوصية والفلسفة اليونانية .. ولكن ما لبث علم الكلام أن تشقق أصحابه وتفيهقوا.: وكانت ميزاته إثارة الجدل الميتافيزيقي الذي لا طائل تحته. والجدل السياسي الذي استقر أوراه وقضى على سلطان المسلمين. وكان الكلام يستند على العقل ويخوض في المسائل الإلهية .. ويخلط فلسفة اليونان بعقائد المسلمين .. ورأي أهل الفقه من ناحية وأهل الحديث من ناحية أخرى أن هذا الكلام المستند على هوى العقل قد أفسد الحياة الإسلامية .. وفرق المسلمين فرقا وشيعا .. فشغلوا به عن كل شيء وما أجمل عبارة أمام دار الهجرة "مالك بن أنس" -والتي أوردها السيوطي -والكلام في الدين أكرهه. ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل" .. هذه هي الروح العملية البرجمندكية .. التي ينبغي أن تسود
1 / 7
الحياة الإسلامية .. وتسيطر على تطورها .. ولقد رأى السيوطي أن يقدم لنا نصوصا نادرة .. وفي تسلسل تاريخي وموضوعي عن أقوال وآراء السلف في تحريم النظر في الالهيات ..
* * *
وأخيرًا أود أن أقدم شكري مرة ثانية للأستاذ الأكبر الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود .. الذي تفضل مشكورًا وطلب منا إعداد هذه الطبعة الثانية .. ولعل الله أن ينفع بها العلم والعلماء .. وأن يستبصر بهديها المستبصرون .. وأن يفتح بها للمسلمين والمسلمات آفاقا جديدة من الفكر ..
وأن يعلموا أن للعقل حدوده وأن له قيوده .. والله من ورائهم محيط ..
ومنه وحده الهدى والتوفيق.
سعاد على عبد الرازق
الإسكندرية
١١ ذي القعدة سنة ١٣٨٩ هـ
الموافق ١٩ يناير سنة ١٩٧٠ م
1 / 8
تقديم
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر
الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الجامع الأزهر
ولم تنل دراسة تاريخ المنطق عند الإسلاميين حقها من عناية الباحثين. وإذا كان الرأي السائد أن منطق أرسططاليس نقل إلى العربية فيما نقل من فلسفة يونان -فظل على مر الأيام منطقا أرسططاليسيا في أصوله وقواعده، وفي جملته وتفصيله. فإن هذا الرأي السائد ليس وليد بحث عميق ولا اطلاع واسع على الاتجاهات المختلفة للمنطق في ألوان الثقافات الإسلامية. كأبحاث أصول العقائد وأبحاث أصول الأحكام.
ولقد كنت أيام اشتغالي بتدريس المنطق في الجامعة المصرية معنيا بأن أوجه الهمم إلى دراسة تاريخ المنطق في الثقافة الإسلامية وتتبع أطواره ومذاهبه، وأعرف أن ذلك يحتاج إلى تقصى المراجع في مظانها وفي غير مظانها أحيانا، وإلى التماس المؤلفات النافعة في هذا الباب بين المخطوطات التي لم تتناولها الأيدي.
وكنت عثرت في دار الكتب الأزهرية على مجموعة رسائل للسيوطي في ضمنها كتاب "صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام" يتبعه كتاب "جهد القريحة في تجريد النصيحة" الذي لخصه السيوطي من كتاب "نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان" لتقي الدين بن تيمية. ووجدت في الكتابين نفعا محققا فيما أحاوله، فشرعت يومئذ في تدارسهما مع بعض الطلاب، غير أن ذلك لم يطل، فقد صرفتني الأقدار عن حياة المنطق إلى حياة ليست بمنطقية.
1 / 9
ولئن كنت أسفت على ما فاتنى من متابعة ما بدأته من الدرس، فإني جد مغطبط بأن أرى صفوة مختارة من أبنائنا يأخذون بقوة، يسعدها شباب زاك، ما كنا حاولناه بعزم تخلى عنه الشاب.
وهذا الأستاذ علي سامي النشار، تلميذي بالأمس، وصديقي اليوم، يوجه همته إلى متابعة البحث ويمهد السبيل للباحثين.
ولقد عانى الأستاذ النشار في إعداد كتاب السيوطي للنشر مشقة "وأنفق جهدا يدركه تمام الإدراك من عانى نشر كتاب استنادا على مخطوط واحد".
وهو يصف في مقدمته طريقته في تصحيح النص ومقارنة ما لخصه السيوطي من الكتب بأصولها مطبوعة ومخطوطة. وقارن كتاب تجريد النصيحة في كثير من مواضعه بما ورد في كتب مختلفة لابن تيمية.
وإن مجهود الأستاذ علي سامي النشار لجدير بالتنويه والشكر والثناء.
وإذ كان قد وقع في بعض الصفحات أخطاء مطبعية وغيرها -فما كان ذلك لبعض من هذا العمل الجليل الممتاز الذي سيجد من كل معنى بالدراسات الإسلامية تقديرا عظيما.
وأسأل الله أن ينفع الأستاذ بما علمه، ويعلمه ما ينفعه، وأن يزيده علما.
القاهرة في ٢٥ صفر سنة ١٣٦٦
١٨ يناير سنة ١٩٤٧ مصطفى عبد الرازق
1 / 10
مقدمة الناشر
١ - في مكتبة الأزهر مخطوط هام في تاريخ الفكر الإسلامي اسمه "صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام" وهذا المخطوط هو الرسالة الثانية في مجموعة هناك برقم ٢٠٤ مجاميع تحتوى على ١٩ رسالة في موضوعات مختلفة جد الاختلاف وكلها كما يبدو -مما كتب على ظاهر الغلاف -من تأليف الحافظ المشهور عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي عالم مصر في العهد الأوسط من عهود المماليك. أما ما كتب على الغلاف فهو: "مجموع من مؤلفات السيوطي -نفعنا الله تعالى به -بخطه".
والخط الذي كتبت به المجموعة دقيق ولا يظهر فيه تفاوت، والورق من صنف واحد، والصفحات مملوءة بالكتابة، تكاد تكون خالية من البياض، وفي كل صفحة ٥٢ سطرًا تقريبًا.
وفي آخر الرسالة التاسعة ما نصه:
"تم من خط مصنفه بآخر يوم الاثنين الحادي والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ٨٨٩. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين".
وفي آخر الرسالة التاسعة.
"آخر الجزء -ألفته يوم السبت تاسع عشر من صفر سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة أحسن الله عقباها".
وتنتهي الرسالة الحادية عشرة كما يأتي:
"علقه مؤلفه يوم الأربعاء لعشر خلون من ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة -وكتب سنة ٨٨٦".
1 / 11
أما باقي الرسائل فليس فيه تاريخ.
لكن هل كتبت المجموعة حقًا بخط السيوطي كما تذكر تلك العبارة التي نقلناها من ظاهر الغلاف -يبدو أن ثمت أسبابًا قوية تنفي نفيًا باتًا كتابة السيوطي للمجموعة التي بين أيدينا بخطه -وهاكم الأسباب:
أولا: ما كتب في الصحيفة الثالثة سطر ٣٥ "صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام للفقير إلى عفو ربه عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي الشافعي غفر الله لنا وله" وقد كتبت هذه العبارة بخط لا يختلف بتاتًا عن باقي خطوط المجموعة، وهي تدل دلالة صريحة على أنها لم تكتب بخط السيوطي -وبالتالي لم تكتب المجموعة بخطه.
ثانيًا: ما كتب في آخر الرسالة السابعة "تم من خط مصنفه، أي تم نقله من نسخة بخط المؤلف.
ثالثًا: في المجموعة أخطاه نحوية متعددة -ولا يمكن على الإطلاق -أن يقع السيوطي -وهو عالم اللغة الممتاز في أمثال تلك الأخطاء -أو أن يسهو في الكتابة -فيفلت منه بعض منها -وقد لاحظت في جميع ما ترك من مجموعاته الخطية أنه لا يخطئ خطًا لغويًا أو نحويًا -ولم يؤد به النسيان أو السهو -وهو الحافظ المشهور -إلى أي خطأ من نوع تلك الأخطاء.
رابعًا: وأخيرًا نصل إلى رابع الأسباب وأقطعها -هو أن مجموعات السيوطي الخطية تسير على قاعدة لا تخف عنها إطلاقًا -وهي أنها "غير منقوطة" بينما المجموعة التي بين أيدينا منقوطة.
ومن هنا يتبين أن هذه المجموعة لم تكتب بخط السيوطي. ولكن إذا ما حاولنا أن نحدد العصر الذي كتبت فيه الرسائل، لتوصلنا إلى أنه القرن العاشر الهجري، وهو القرن الذي مات السيوطي في أولى العقد الثاني
1 / 12
منه، وأكاد أرجح أن هذه المجموعة نقلت مباشرة عن مجموعة بخط السيوطي نفسه وفي عصر قريب جدًا منه.
والكتاب الذي تقوم بنشره الآن من هذه المجموعة هو كما قلت -الرسالة الثانية منها -وقد كتب اسم الكتاب على الهامش وبخط غير مشابه لخط المتن "كتاب صون المنطق والكلام عن فن المنطق للجلال السيوطي" وكتب في صدر المتن صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام للفقير إلى عفو ربه عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي الشافعي غفر الله لنا وله" ومن المؤكد أن هذا هو إسم الكتاب الحقيقي -أما ما كتب على الهامش فقدسها كاتبه عن كتابه لفظ الكلام في المقطع الثاني من العبارة -وليس ثمت فاصل في الكتابة بين هذا الكتاب والرسالة السابقة لها وهي رسالة "إيمان أم النبي".
أما آخر الكتاب فقد كتب فيه "تم كتاب صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام للجلال السيوطي.
ثم كتب بخط مغاير لخط المتن "الحمد لله -وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم -وبعد فقد طالعه العبد الفقير إليه سبحانه أحمد بن عبد الحي الحسني القدسي داعيًا لمالكه بحسن الختام ولجميع المسلمين" ويوجد فاصل كبير بين نهاية رسالة صون المنطق والرسالة الثالثة، ولا نعرف على وجه اليقين من هو أحمد بن عبد الحي الحسيني هذا. ولعله أحد طلبة العلم من أهل القدس كما هو ظاهر من الاسم، كما أننا لم نصل إلى تاريخ المخطوط، من امتلكه من الناس، ومن هو مالكه الذي يشير إليه القدسي، على أننا نستطيع أن نؤكد أن أيدي قليلة جدًا تناولت هذا الكتاب، إذ أن هوامشها قليلة، والورق على العموم نظيف وليس هناك تعليقات في نهاية
1 / 13
الكتاب ولا في أوله ولا أسماء من تناولوه أو قرأوه سوى الحسيني القدسي المذكور. والكتاب في ٣٥ صحيفة من القطع المتوسط -وصحائفه مملوءة بالكتابة الدقيقة الواضحة -وقد ذكرت أن عدد الأسطر في كل صحيفة من المجموعة حوالي ٥٢ سطرًا.
٢ - هل الكتاب للسيوطي حقا؟ هنا تقابلنا المشكلة الثانية في بحث المخطوط. وقد رجعنا إلى ترجمة السيوطي التي كتبها لنفسه، فلم نعثر لهذا الكتاب على ذكر ولكن حاجى خليفة ذكره فقال "صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام -مجلة للسيوطي -ذكره في فهرست مؤلفاته في فن الفقه".
فهل معنى أن السيوطي ذكره في كتاب آخر غير حسن المحاضرة؟ قد رجعنا إلى فهارست مؤلفاته في كتبه المطبوعة، فلم نجد لهذا الكتاب ذكرا أيضًا. ولكن وجدت في حسن المحاضرة ذكرًا لرسالتين ثانيتين تفصلان أو ثق صلة بموضوع كتابنا هذا، وهما "القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق، فصل الكلام في ذم الكلام".
وقد ذكر اسم الكتاب الأول في الكتاب الذي بين أيدينا الآن "كنت قديما في سنة سبع وثمان وستين وثمانمائة ألف كتابا في تحريم الاشتغال بفن المنطق سميته القول المشرق ضمنته نقول أئمة الإسلام في ذمه وتحريمه"
1 / 14
وذكر أيضًا اسم الكتاب الثاني "ولما شرعت في ذلك -أي في الكلام عن المنطق -ولزم منه الانجرار إلى نقل نصوص الأئمة في منع النظر في علم الكلام -لما بينهما من التلازم، سميت الكتاب صون المنطق والكلام"
فهل نستطيع أن نفهم من هذا أن كتاب صون المنطق والكلام، هو مجموع هاتين الرسالتين، أو أن السيوطي ضمن كتابه هذا هاتين الرسالتين مع نصوص أخرى أضافها -من المحتمل هذا كثيرا، ومن المحتمل أيضا أن يكون كتاب صون المنطق تصنيفا مستقلا عن هذين الكتابين.
على أنه بالرغم من أن السيوطي لم يذكر اسم هذا الكتاب في مؤلفاته التي بين أيدينا فإنه من المحقق -استنادا على النقد الخارجي والداخلي للنص الذي بين أيدينا -أن كتاب صون المنطق والكلام له أسباب متعددة. أهمها:
أولا: ما ذكره صاحب كشف الظنون -وهو ثبت ثقة في تاريخ الكتاب الإسلامي.
ثانيها: أسلوب الجمع في الكتاب -تسيطر على الكتاب الروح السيوطيه والتأليف جليلة واضحة -روح الجمع وتلخيص الكتب وقد كان هذا أسلوب السيوطي وعمله الذي تميزيه.
ثالثها: أسلوب أهل الحديث -ألف السيوطي صون المنطق والكلام على أسلوب المحدثين. وهذا ظاهر في جميع أجزاء الكتاب.
رابعها: كان كتابة هذا الكتاب ضرورة قصوى اضطر إليها السيوطي
1 / 15
وقد كانت تكتنف حياته الروحية عوامل غريبة، فقد ادعى الرجل الاجتهاد سنة ٨٨٨، ويبدو أن بعض أعدائه هاجموه بأنه لا يتقن المنطق -وهو شرط من شروط الاجتهاد منذ دعا الغزالي إلى هذا -خاصة وأنه ذكر في ترجمته لنفسه في حسن المحاضرة أنه لم يحب المنطق ولم يتمكن من إجادته وقد كنت في مبادئ الطلب قرأت شيئا في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح أفنى بتحريمه -فتركته لذلك -فعوضني الله تعالى عنه علم الحديث الذي هو أشرف العلوم، فاضطر إلى أن يكتب كتابه هذا. يقول في مقدمة كتابه "لما كان هذا العام -ومن المحتمل أن يكون ٨٨٧ أو ٨٨٨ - وتحدثت بما أنعم الله به على من الوصول إلى رتبة الاجتهاد ذكر ذاكر أن من شروط الاجتهاد معرفة فن المنطق يعني وقد فقد هذا الشرط عندي بزعمه وما شعر المسكين أني أحسنه أكثر ممن يدعيه ويناضل عليه، وأعرف أصول قواعده وما بنيت عليه".
كل هذه الأسباب -التي لجأنا فيها إلى النقد الخارجي والداخلي للكتاب الذي بين أيدينا -تثبت اثباتا قاطعا صحة نسبة هذا الكتاب للسيوطي.
أما تاريخ كتابه صون المنطق والكلام فيبدو أنه سنة ٨٨٧ أو ٨٨٨ على أكثر تقدير -وهي السنة التي عيب عليه فيها عدم معرفته للمنطق.
٣ - كتاب ابن تيمية: ذكر السيوطي في مقدمة كتابه أنه لخص كتاب ابن تيمية: يقول "تطلبت كتاب ابن تيمية حتى وقفت عليه فرأيته سماه نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، وأحسن فيه القول
1 / 16
ما شاء من نقض قواعده -قاعدة، قاعدة وبيان فساد أصولها، فلخصته في تأليف لطيف سميته، جهد القريحة في تجريد النصيحة.
ويفتتح كتاب جهد القريحة بما نصه "ذكر ما لخصته من كتاب ابن تيمية الذي ألفه في نقض قواعد المنطق -كتاب جهد القريحة في تجريد النصيحة للفقير إلى عفو ربه عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي الشافعي لخصته من كتاب نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان للعلامة تقي الدين بن تيمية.
ثم يبدأ الكتاب بالبسملة والحمد له -ويذكر أن لابن تيمية كتابين أحدهما صغير والآخر كبير هو "نصيحة ... " ثم يذكر أنه سيقوم بتلخيصه وسيسميه "جهد القريحة ... " ومع أن السيوطي لخص لنا في "صون المنطق" كتابا كثيرة، غير أنه لم يبدأها بالحمدله ولا بالبسملة كما فعل في هذا الكتاب فهل يعني هذا أننا بصدد كتاب مستقل عن الكتاب الأصلي.
إذا ما رجعنا إلى ما كتب عن هذا الكتاب لم تجد له ذكرا في حسن المحاضرة. أما صاحب كشف الظنون فقال "نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان لابن تيمية -اختصره السيوطي وسماه جهد القريحة في تجريد النصيحة" ومن هذا النص يتبين لنا أن هذا الكتاب مستقل تمام الاستقلال عن كتاب صون المنطق والكلام وأنه ليس جزءا منه.
ودليل آخر -هو أنه يوجد مخطوط لمختصر السيوطي منفصل عن صون المنطق والكلام في مكتبة ليدن في مجموعة فارنر المشهورة، وهذه المجموعة برقم ٤٧٤، وفيها كتب أخرى للسيوطي غير كتابنا هذا.
1 / 17
ودليل أخير -فقد ذكر السخاوى في ترجمته للسيوطي "وأول ما أبرز جزء له في تحريم المنطق جرده من مصنف لابن تيمية" فنحن إذن أمام كتابين للسيوطي أحدهما كتابه الأصلي، صون. والآخر مختصر لكتاب ابن تيمية، أما عن كتاب ابن تيمية الأصلي، فقد ذكره ابن عبد الهادي في في ترجمته المشهورة فقال "وله كتال في الرد على المنطق، مجلد كبير وله مصنفان آخران في الرد على المنطق نحو المجلد" وهذا ما ذكره أيضا ابن القيم الجوزية في كتابه مفتاح دار السعادة كما ذكره صاحب كشف الظنون كما بينا من قبل.
والكتاب الأصلي موجود في الهند -على ما ذكر السيد سليمان بدوي في بحث له هام.
ولكن يبدو أن المخطوط رديء الخط مخروم في كثير من أجزائه بحيث لم يتمكن من نشره بالرغم من أنه أعلن منذ مدة بعيدة أن دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن ستقوم بطبعه.
فالسيوطي إذن قد قدم لنا فائدة علمية لا تقدر إذ أنه حفظ لنا صورة قريبة جدًا من النص الأصلي لابن تيمية. كما حفظ لنا صور الكتب أخرى مفقودة أو متعذر الوصول إليها -ولقد كانت هذه إحدى أيادي السيوطي السابغة على الفكر الإسلامي.
1 / 18
لكن ما الذي دعا السيوطي إلى انتهاج هذا النهج في كتبه. قد لا يتضح هذا على أتم وجه إلا في ضوء تحليل موجز لحياة الرجل.
٤ - حياة السيوطي. عاش السيوطي في عصر المماليك في طوره الأوسط وفي عهد من عهود العلم الزاهرة لا من ناحية طرفة تراثها العلمي -إنما من ناحبة قدرة علماء هذا العصر ومفكريه على الجمع وتلخيص الكتب -كان العقل الإسلامي قد توقف في هذه الفترة عن الإبداع -في نطاق العلوم الفكرية وانتهى فيه عهد الأصالة المطلقة التي انبثقت آخر مرة، وفي صورة زاهية لامعة في تقي الدين بن تيمية. اتجه العلماء نحو كتب المفكرين الذين سبقوهم يتدارسونها ويلخصونها. ويضفون عليها أحيانًا بعض الابتكار غير الكثير وأحيانًا ينقلونها كما هي في ملخصات تقترب كثيرًا من النص الأصلي، وكان السيوطي واحدًا من هؤلاء الأخيرين، خلت كتبه حقًا من الطراقة والأبداع ولكنها كانت حافظة ممتازة حوت نصوصًا من مختلف العلوم والفنون لا يعرفها العالم الإسلامي الآن عن طريقه، هذا علاوة عن أهميتها الكبرى في ملء فجوات في تاريخ الفكر الإسلامي، وقد أفرغ السيوطي جهده في هذا العمل الشاق -وأرهفت حواسه له لكي يحقق تلك الأمنية الملحة التي ترددت في نفسه. والتي أعلنها في فترات متعددة في صور مختلفة حتى وصل إعلانه لها إلى حد الجدال واللجاج وأنكرها عليه علماء عصره أشد إنكار وحاربوه أشد محاربة -أما تلك الأمنية فهي كونه مجتهد الأمة الإسلامية -ثم مناداته بعد ذلك بأنه المبعوث من الله على رأس التاسعة ليجدد شباب دينه ...
أما اسم السيوطس الكامل -فهو أبو الفضل عبد الرحمن بن محمد بن أبى بكر جلال الدين الخضيري السيوطي؛ وأما عن نسبته للخضيرية -فيقول
1 / 19
هو في ترجمته لنفسه في حسن المحاضرة "وأما نسبته للخضيرى فلا أعلم ما تكون إليه هذه النسبة، ألا الخضيرية محلة بغداد، وقد نشأ السيوطي من أسرة فارسية من ناحية الأب، عاشت في بغداد، أما أمة فكانت أمة تركية ثم انتقلت أسرته من بغداد إلى أسيوط، وبرز كثير من أفرادها على ما يذكر هو أيضًا لكن لم يشتغل بالعلم من أفرادها سوى والد السيوطي. وقد ولد السيوطي ليلة الأحد مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمانية - (٣ أكتوبر ١٤٥٥) وتوفي والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر فقام بأمره صوفي من أصدقاء والده -وختم القرآن وهو دون ثمان سنين -ثم بدأ في دراساته على علماء عصره -حتى أجاد جميع فروع العلم الإسلامي.
وقد تركت لنا المصادر المختلفة أسماء شيوخه الكثيرين: الجلال المحلي والزين العقبي والشمس السيرامي. والشمس المرزباني والشهاب الشارمساحي والعلم البلقينى والشرف المناوى وعدد كبير من العلماء. يقول صاحب شذرات الذهب "وقد ذكر تلميذه الدودى في ترجمته أسماء شيوخه إجازة وقراءة وسماعا مرتين على حروف المعجم فبلغت عدتهم أحدًا وخمسين نفسا.
وقد أجيز السيوطي بتدريس العربية سنة ٨٦٦. وذلك بعد عودته من زيارة لبعض مدن مصر والحج إلى مكة. وقد بدأ التأليف في هذه
1 / 20
السنة وفي سنة ٨٧٢ تولى بواسطة أستاذه علم الدين البلقينى التدريس في الشيخونية مكان والده في سنة (٨٩١ هـ - ١٤٨٦ م) قرر التدريس في البيبرسية يقول بن إياس "قرر شيخنا السيوطي في مشيخة البيبرسية عوضا عن الجلال البكري بحكم وفاته وكان الساعي له السيد الخليفة عبد العزيز" ويبدو أن صلته بالخليفة العباسي المتوكل على الله عبد العزيز كانت صلة طيبة إذا أن السيوطي أوحى إليه سنة في ٩٠٢ هـ = ١٤٦٦ م "أن يجعله قاضيًا كبيرًا على القضاة يولى منهم من يشاء ويعزل منهم من يشاء مطلقا في سائر ممالك الإسلام وهذه الوظيفة لم ينلها قط القاضي تاج الدين بن بنت الأعز في دولة بني أيوب".
علم القضاة بالأمر "فثاروا واستخفوا عقل الخليفة في ذلك. وقالوا ليس للخليفة مع وجود السلطان حل ولا ربط ولا ولاية ولا عزل ولكن الخليفة استخف السلطان لكونه صغيرًا" وعلم الخليفة بثورة القضاء وخشى مغبة الأمر فتراجع وأعلن أن السيوطي خدعه -ثم رجع عن عهده -وبعث من يأخذ العهد الذي كتبه للشيخ.
يقول ابن إياس "وكادت أن تكون فتنة بسبب ذلك ووقعت أمور يطول شرحها. ثم سكن الحال بعد مدة".
وفي سنة ٩٠٦ قامت ضجة أخرى ضد السيوطي إذ أنه تلاعب بأموال الصوفية الحانفاه البيبرسية -وقد رمى المؤرخون السيوطي بالطمع -فثاروا
1 / 21