فقال الرجل: رهن أمرك يا بك!
فقلت لنفسي في سخرية: إن كل شيء على ما يرام .. عربة مريحة وحوذي طيع، وليل ستار، فلا ينقصنا إلا المرأة. ثم قلت مستسلما لداعي الكذب: هي سيدة من الطبقة الراقية، فهلا وجدت لنا طريقا آمنا؟
فقال ضاحكا: أظن جاردن ستي آمن طريق قريب!
فهتفت به: خاب فألك، إن قصرها بجاردن ستي!
فقال باهتمام: أمامنا جزيرة الروضة؛ وإن كان الجو باردا وأنا رجل عجوز لا أحتمل البرد!
فقلت مشجعا: سأعطيك جنيها كاملا!
وشكر الرجل لي بحماسة، وقد تهيأ له أنه عثر على كنز، وجعلت أضحك في سري وأتحسس بأصابعي الريال الذي لم يبق لي غيره حتى نهاية الشهر. ومر زمن ثم رأيت العمارة المحبوبة - عمارة حبيبتي - تقترب، ودبت في قلبي يقظة غريبة وعلقت بها عيناي. لم أعد أملك حرية النظر إليها - وكان كل عزائي - بعد ما كان بيني وبين خطيبها المرتقب! لم يعد بوسعي أن أتطلع إلى الشرفة أو النافذة. ترى هل خاطب سعادة مدير الأعمال أباها؟ هل صارت حبيبتي مخطوبة حقا؟ ألم تذكر المحب القديم - الصامت العاجز - وهي تنتقل إلى دنياها الجديدة؟ ألم تجد نحوه شيئا من الأسف؟ وشعرت برغبة في الانتقام من الدنيا جميعا، وتولاني إحساس بالذهول والانقباض فلبثت جامدا حتى بلغت العربة شارعنا، فأمرت الحوذي بالوقوف وغادرت العربة، ونقدته ثمانية قروش، فتناولها في دهشة وتمتم متسائلا: والمشوار الآخر؟
وانطلقت مني ضحكة خافتة على رغمي، ومضيت إلى حال سبيلي. وارتقيت السلم في تثاقل وتعب، وفتحت الباب بمفتاح في جيبي ورددته بلا حذر، ثم سرت إلى حجرة النوم وأنرت الكهرباء، فوقع بصري على أمي وهي مستسلمة لنوم عميق ينم عمقه على الجهد الذي تبذله في يومها الشاق الطويل، فوقفت لحظة أتفرس في وجهها، ثم هتفت بها قائلا: نينة!
وفتحت عينيها وهي تغمغم: من؟ .. كامل!
فقلت بهدوء واستهانة: إني سكران!
Shafi da ba'a sani ba