فاشتد بي الغضب وصحت بانفعال شديد: هذا بيتي، وما به من مال فهو مالي، ولن تمنعني قوة عما أريد، أفاهم أنت؟ أفاهم أنت؟
فنهض قائما والشرر يتطاير من عينيه، وصفق بقوة جنونية وصرخ في قائلا: اغرب يا ولد عن وجهي، وإياك أن تعود إلى هذا البيت! آدم .. آدم!
وفتح الباب ودخل عم آدم كأنه في الانتظار، واقترب منا وهو يقول: أفندم يا بك .. خير إن شاء الله.
وبردت فجأة كأن «دشا» انهال علي. سكت عني الغضب، وخمد الهياج، وولى قلبي فرارا، وقبضت يد الخوف الباردة على عنقي فتسمرت في مكاني مرتبكا ذاهلا زائغ البصر؛ ذهب كامل الذي اصطنعه الغضب واليأس، وبقي كامل الآخر كما خلقته الطبيعة. ولم يرحم الرجل الهائج ضعفي فصاح بالبواب قائلا: أوصل هذا إلى الباب، ولا تسمح له بالدخول مرة أخرى؛ إنه يتهددني بالقتل.
وحملقت في وجهه بذهول وانزعاج، لا أكاد أصدق أذني، فلاح لي في هياجه الجنوني كشيطان رجيم. وصرخ في وجهي: اغرب عن وجهي.
ولكني لم أبد حراكا، أو بالأحرى لم أستطع أن أبدي حراكا، تمنيت لو تنشق الأرض وتبتلعني، ومت خوفا وكمدا وخجلا. وانتظر الرجل عابسا، فلما رآني لا أتحرك ولاني ظهره وغادر الحجرة إلى الداخل على حين تقهقر البواب إلى الفراندا. وجدت نفسي وحيدا فعضضت على شفتي، واستعدت وعيي، فاستطعت أن أنهض قائما في وجوم، ثم غادرت الحجرة متحاميا النظر ناحية البواب. وحثثت خطاي في الحديقة، والبواب يتبعني مغمغما بالاعتذار والتأسف، منتحلا للبك الأعذار قائلا: «إنه دائما هكذا.»
وابتعدت عن البيت دون أن أنبس بكلمة.
31
قطعت نصف النهار الأول متسكعا في الطرق مختنق الأنفاس من اليأس والحنق والقهر والخزي والخجل .. وعدت إلى البيت في الموعد المعتاد حتى لا تتساءل أمي عما جاء بي قبله. وغلبني النوم بعد الغداء فاستغرقت فيه حتى أول المساء، ثم غادرت البيت مثقل النفس كأنما أحمل الأرض على رأسي، وتساءلت: أين أذهب؟! فما وجدت إلا جوابا واحدا. نادتني الحانة نداء مغريا، واستصرخني قلبي أن ألبي وأطيع. بيد أنني لم أغفل عن الحقيقة الراهنة وهي أن ميزانيتي - ذلك الشهر - ستختل حتما بعد السكرة المشتهاة فلا أجد ما أنفقه حتى قبض المرتب الجديد .. على أن النداء ظل عنيفا لا يقاوم، وبدا لي في تلك اللحظة التعيسة أن نشوة ساعة خير من حياة لا خير فيها .. وتحسست يدي ساعتي الذهبية فقفز إلى خاطري أن أبيعها إذا أعوزني المال، وداخلني ارتياح فابتسمت لأول مرة في يومي. على أنني تساءلت في اللحظة التالية عما أقول لأمي إذا افتقدت ساعتي، ولا بد أن تفتقدها يوما؟ ولكني نفخت ضجرا وهتفت حانقا: «أمي، أمي .. دائما أمي! سأفعل ما أشاء». واستقللت الترام بلا تردد. وفي الطريق هفت على نفسي ذكرى جدي لغير ما سبب واضح، فذكرت أيام الرغد والهناء التي فقدتها بفقده، ثم وجدتني أتمنى لو كان قبض يده الكريمة عني ونشأني على البخل والتقتير، أما كنت أكون أقدر على تحمل حياتي الراهنة! وقرأت الفاتحة على روحه المحبوبة. ثم غادرت الترام في العتبة وقصدت سوق الخضر حيث توجد حانتي المتواضعة، وما انتهيت من نزع معطفي والجلوس إلى مائدة خالية حتى جاء النادل اليوناني بالدورق. حانتي شعبية بلا ريب؛ ولكنها محترمة لدرجة ما، فإلى جانب الحوذية والمجلببين تجد لمة من الموظفين الكهول الذين لا تسمح لهم ظروف المعيشة وأعباء الأسر بارتياد الحانات الغالية. ومن هؤلاء موظف عجوز مغرم بالغناء والطرب، ما يكاد يسكر حتى يسترسل في ترديد الأدوار القديمة مثل: «في العشق يا ما كنت أنوح» و«يا ما أنت واحشني»، ولم يكن صوته يخلو من تطريب وأداء يبش له الجلوس، ويتطوع نفر منهم لترديد المذهب في انسجام لذيذ. أخذت في الشرب، وكالعادة تولاني الشعور بالارتياح والمرح؛ ذلك الشعور الذي لا أجده إلا بين السكارى في الحانة، المكان الأوحد الذي أتخفف فيه من وقار الخجل والعي والحصر والقلق والمخاوف، ونعمت بطمأنينة وسرور كأنني أرد إلى أهلي وعشيرتي بعد اغتراب ثقيل، وتمنيت لو كان في الإمكان ألا أبرحهم مدى الحياة. وما لبثت أن غمرتني النشوة الساحرة، وأفعم وجداني طربا. ولم يكن الموظف الفنان قد بدأ الغناء بعد، وكان يحدث رفاقه بصوت مرتفع يسمعه الجالسون جميعا، ولا بأس من أن يشتركوا فيه كما يشتركون في الغناء. قال: تصوروا يا هوه أن الطبيب ينصحني بالكف عن الخمر! - لماذا كفى الله الشر؟ - وجد عندي ضغط دم وتصلبا في الشرايين. - اشرب حلبة على الريق تضمن صحتك طول العمر. - وقال لي إذا واصلت الشرب ستهلك لا محالة. - العمر بيد الله! - فقلت وإذا لم أواصل الشراب فسأهلك يوما لا محالة. - إجابة تستاهل عليها دورق كونياك على شرط أن تدفع ثمنه. - هل تصدقون أني رأيت هذا الطبيب ذات مساء جالسا في سانت جيمس يشرب ويسكي؟! - وهكذا الأطباء جميعا! ينتش أحدهم جنيهك ويقول لك: «إياك والخمر!» ويمضي به إلى سانت جيمس ويشرب قارورتين!
واعتدل الموظف العجوز في جلسته قليلا، وراح ينقر على المائدة ويهز رأسه، ثم غنى قائلا: «انصف محبك يا جميل»، واتجهت نحوه الأبصار، وأخذت الجوفة أهبتها للترديد. وكنت أشرب، وأجاذب من يجاذبني الحديث، وأضحك ملء قلبي .. ودار رأسي كالعادة بسرعة، ورقصت النشوة في قلبي، وطرت إلى سماء السرور واللامبالاة. ومكثت على ذلك زمنا طويلا أو قصيرا لا أدري لأن السكران يفقد حاسة الزمن، ثم ودعت الصحاب وغادرت الحانة ورنين الطرب يلاحقني. وضربت على وجهي زمنا آخر، ثم ناديت عربة وركبت دون مبالاة بالميزانية المنتحرة، وأمرته أن يذهب إلى المنيل. وسويت المقعد الخلفي ومددت ساقي عليه في جلسة سلطنة وأبهة غير شاعر ببرودة الجو، وداخلني ارتياح لحركة العربة الحالمة، وسرعان ما خامرني ميل إلى العبث فقلت للحوذي في حذر كاذب: إن امرأة تنتظرني في الطريق وسآخذها معي!
Shafi da ba'a sani ba