فافتر ثغر نوفيكوف عن ابتسامة حزينة وصافح سانين وقال وهو يدنو من النافذة: «لا شيء! إن كل شيء كما كان.»
ولم يكن سانين يستطيع أن يرى من نوفيكوف إلا شخصه الطويل. فظل برهة طويلة ينظر إليه ولا يتكلم.
وكان سانين قد مضى قبل ذلك بصديقه إلى ليدا التي تغيرت وزايلها الزهو والشموخ فلم ينبثا بحرف عما هو أدنى إلى قلبيهما وأعلق بهما، وكان سانين يعلم أنهما سيشقيان بعد أن يتصارحا وإنهما خليقان أن يكونا أشقى وأتعس إذا ظلا صامتين، وأن ما يستسهله هو لا يسعهما إلا بجهد جاهد فقال لنفسه: «ليكن الأمر كذلك فإن الألم ينقي الروح ويرفعها، فأما الآن فقد سنحت الفرصة الملائمة لهما.»
وكان نوفيكوف واقفا قبل النافذة ينظر في صمت إلى مغرب الشمس، وكان ينازعه الأسى على ما فقد والشوق إلى اللذة المنتظرة، فصور لنفسه ليدا حزينة مطوقة بالعار فلو آتته الشجاعة لركع أمامها الساعة ونفث بلثماته الحرارة في يديها الباردتين وبحبه الضخم الغفور حياة جديدة في عروقها، ولكن أنى له بالقوة والقدرة على المضي إليها؟
وكان سانين يدرك ذلك فنهض في بطء وقال: «إن ليدا في الحديقة فهل نذهب إليها؟»
فأسرعت دقات قلب نوفيكوف وامتزج في نفسه الفرح والحزن أغرب امتزاج وتغير وجهه قليلا وجعلت أصابعه تعبث بشاربيه. فأعاد سانين سؤاله في هدوء كأنما آلى أن ينهض بأمر خطير: «ما قولك في؟ هنا أنذهب؟»
فأحس نوفيكوف أن سانين يعرف كل ما في نفسه فاستحيا كالصبي وإن كان قد أراحه هذا الإحساس قليلا. فقال سانين في رفق: «هيا بنا!»
وأمسك بكتف نوفيكوف ودفعه إلى الباب فتمتم «نعم، أنا ...» وكاد يعانق سانين ولكنه لم يجترئ ولم يسعه إلا أن يرمقه بعين عبرى، وكانت الحديقة الدافئة العطرة مظلمة، وأغصان الأشجار فوق جذوعها تكون فيما بينها أقبية تحت السماء الخضراء، وعلى سطح الأرض الظامئة ضباب خفيف خافق، فكأنما هناك شبح غير مرئي يجوب مسالك الحديقة الصامتة ويسري بين الأشجار الجامدة فترجف لطيفه الأوراق والأزهار الناعسة، وكان الشفق لا يزال وهاجا فيما وراء النهر المنحدر بين المروج الحالكة، وعلى حرفه تجلس ليدا مكبة عليه مائلة إليه كأنه روح حزين ظفره الطفل، فلما سمعت صوت أخيها ملأها يقينا لم يلبث أن ولى أسرع مما جاء واستحوذ عليها الخوف والخجل، وأحست كأنما لا حق لها في السعادة لا ولا في الحياة ، وكانت لذلك تقضي النهار كله في الحديقة وفي يدها كتاب، إذ كانت عينها لا تقوى على النظر إلى أمها. وتحدث نفسها مرة بعد أخرى إن ألم أمها لا يكون شيئا مذكورا بالقياس إلى ما تعانيه هي الآن، ولكنها على هذا ما اقتربت من أمها إلا تلعثم لسانها وارتسمت في عينها نظرة المذنب، فأثارت خجلاتها واضطرابها العجيب ظنون أمها وحركت شكوكها، ولمحت ذاك ليدا فصارت تلوذ بالحديقة فرارا من نظراتها الفاحصة وأسئلتها القلقة. وهكذا كانت الليلة جالسة على حافة النهر تنظر إلى المغرب وتفكر في مصابها، وكانت الحياة لا تزال في نظرها مستعجمة وكأنما يحول بينها وبين استجلائها شبح بشع، فاستعانت بضعة كتب وسعت أفق فكرها وحررته فجنحت إلى الاعتقاد بأن سلوكها طبيعي بل حقيقي بالثناء؛ ذلك أنها لم تسئ إلى أحد، وما فعلت شيئا سوى أن أمكنت نفسها وشخصا آخر مثلها من اللذة الجسمية التي لا شباب بغيرها والتي تعقم الحياة بدونها وتقفر وتعود كالشجرة العارية في الخريف.
واستسخفت أن علاقتها بذلك الرجل علاقة لم تمنحها الكنيسة موافقتها بعد، ذلك أن حرية الفكر قد نقصت هذه الضرورات من زمن بعيد، وأنها لحقيقة أن تغتبط بهذه الحياة الجديدة اغتباط الزهرة استيقظت صباحا على مس اللقاح يحمله إليها النسيم، ولكنها مع هذا أحست أنها صارت أحط وأسفل من كل منحط وسافل.
وذابت كالشمع كل هذه الآراء النبيلة الجليلة والحقائق الأبدية لاقتراب يوم الفضيحة، وصارت تفكر في أن تدوس بقدمها من يمتهنونها، بل همها الوحيد وشغلها الشاغل هو كيف تجانبهم أو تخدعهم.
Shafi da ba'a sani ba