136

فنبحه مالينوسكي وكان قد سكر: «وهذا كذب! لا بد أن نشبع من النظر سيدتك الصغيرة هذه.» فأمسك تاناروف بكتفه ورده إلى كرسيه وعاد الباقون إلى أماكنهم حول المنضدة وهم لا ينظرون إلى سارودين، وجلس سانين كذلك، ولكن ابتسامته كان فيها شيء من الجد، وكان قد أدرك أن ليدا هي التي جاءت، وخالجه إحساس غامض بالغيرة والمرثية لأخته الجميلة التي صارت الآن في كرب شديد.

هوامش

الفصل السادس عشر

جلست ليدا على سرير سارودين يائسة تلوي المنديل لي الاضطراب، فلما دخل عليها لحظ تغير منظرها وحئول هيئتها - فما بقي شيء من تلك الفتاة المزهوة الشامخة الرأس العالية الروح - ورأى أمامه امرأة محزونة حطمها الأسى وأغار من خديها وأخمد لمعة عينيها، فحدقته هاتان العينان السوداوان ثم ما عتمتا أن جانبتاه فأدرك بغريزته أن ليدا تخشاه، وفاجأه لذلك غيظ شديد فرد الباب بعنف ومضى إليها. وقال وهو لا يكاد يغالب جماح رغبة أن يضربها: «إنك حقيقة عجيبة جدا! ها ذا أنا هنا في غرفة غاصة بالناس وفي جملتهم أخوك. أما كان يسعك أن تتخيري وقتا آخر للمجيء؟ إن هذا مثير حقا.»

فانطلقت إليه من العينين السوداوين نظرة تداعى لها سارودين فتغيرت لهجته وابتسم وكشف عن أسنانه البيضاء، وتناول يدا ليدا وجلس إلى جانبها على السرير وقال: «حسن حسن. إن الأمر غير مهم. وإنما كان قلقي وإشفاقي عليك، ولقد سرني أنك جئت فقد كنت مشتاقا لرؤيتك.»

ورفع سارودين يدها الحارة المعطرة إلى شفتيه وقبلها مما يلي القفاز فسألته: «أتقول حقا؟»

فأدهشته غرابة لهجتها، ثم نظرت إليه مرة أخرى وقالت له عيناها بأصرح ما تنطقان: «أصحيح أنك تحبني؟ إنك ترى مبلغ شقوتي الآن. وكيف أني لم أعد في شيء مما كنت. وإني لأخافك وأشعر بكل ما في حالتي من الذلة والمهانة ولكنه ليس لي معين سواك.»

فأجابها سارودين: «كيف يخامرك الشك في صدق ما أقول؟» ولكن صوته خلا من رنة الإخلاص بل لقد كان باردا جافيا.

وتناول يدها مرة أخرى ولثمها وأحس أنه عالق بشبكة عجيبة من الإحساسات والخواطر؛ منذ يومين فقط على هذه الوسادة بعينها كانت خصل شعرها متهدلة وهو يطوقها بذراعيه وشفاهما ملتقية في قبلة عن أحر عاطفة وأجمحها، وفي تلك اللحظة خيل إليه أن كل ما استمتع به من النساء الأخر قد تحقق، وأنه بلغ سؤاله من الإساءة إلى هذه المرأة التي جعلتها العاطفة درج يديه إساءة وحشية متعمدة - والآن ... شعر لها فجأة بالمقت. وود لو استطاع أن يدفعها عنه وأن لا يراها أو يسمع صوتها بعد ذلك. وبلغ من قوة هذه الرغبة وطغيانها أن الجلوس إلى جانبها صار مؤلما له. على أنه نازعه خوف مبهم منها فسلبه ذلك إرادته واضطره إلى البقاء بجانبها. وكان يدرك أتم إدراك أنه ليس ثم ما يربطه بها، وأنه ما نال منها شيئا إلا برضاها دون أن يعدها شيئا، فكأن كلا منهما قد أخذ كما أعطى، بيد أنه مع ذلك أحس كأنما لصق بمادة لزجة لم يقو على التخلص منها وتوقع أن تطالبه ليدا بشيء وأنه سيكون بين أمرين: أن يوافق ويقرها على ما تدعي أو أن يأتي عملا حقيرا دنيئا. وأحس أن كل قوة له مسترقة كأنما نزعت عظام رجليه وذراعيه، وكأنما صار لسانه الذي في فمه خرقة مبلولة. وأراد أن يصيح في وجهها وأن يفهمها صراحة أن ليس لها حق ما في مطالبته بشيء، ولكن قعد به عن ذلك الخوف والجبن، وندت إلى لسانه عبارة فارغة كان يعلم أنها لا محل لها على الإطلاق. «آه. المرأة. المرأة.»

فنظرت إليه ليدا مستفظعة وكأنما أضاء لذهنها بارق فأدركت في لحظة أنها فقدت كل شيء، وأن كل ما منحت من طهرها وشرفها إنما منحته رجلا ليس له وجود، وأن حياتها وصباها وطهرها وكبرها قد ألقت بها جميعا عند قدمي بهيم جبان نذل لم يشعر لها بالشكران على ما بذلت له بعد أن لوثها، فهمت أن تلطم كفا بكف وأن تسقط على الأرض يأسا وألما، غير أن الرغبة في الانتقام المنبعثة عن مرارة البغض حلت محل ذلك الشعور بسرعة البرق، فقالت وأسنانها مطبقة وعينها محدقة به: «ألا تعلم أنك غاية في الغباء والسخف؟»

Shafi da ba'a sani ba