ومما يدون من عظيم حلمه ، وحسن خلقه وخيمه (1) ما شاهدته منه ، وذلك أني كنت مسايرا له يوما في موكبه ، فاعترضه رجل مصري من زهاة الناس ، فدنا منه حتى أخذ بركابه وقال : أيها الوالي ، أنا منذ أربعة أشهر في بلدك ولم ينلني منك شيء ، ولم تتفقد لي حالا ، فقال السيد : وما علمي أيها الرجل بمكانك ، ولم تتعرف إلينا فنعرفك ، ولا جئتنا فنصلك ، على أني لم أرك إلا في ساعتي هذه ، فقال الرجل : والله ما ظننت أن مثلك لا يعرف الداخل ببلده والخارج منها ، وإن لم تتلاف الأمر طلعت إلى الإمام وشكوتك إليه. وزاد في الكلام حتى أفحش ، والسيد مع ذلك صاغ إليه ، مبتسم من كلامه. فلما انتهى إلى بيته استدعاه ووصله بشيء وصرفه.
وهذا مستحيل الكون في زماننا معدوم مفقود ، بل الضد منه هو ما تحلى به رؤساء العصر وأظهروه من أخلاقهم ، والله الموفق.
ومما جاء من تحلم الرعاة والرؤساء وكظمهم عن الزهاة السفهاء ما يحكى : أن طائفة من الناس كانوا على عهد المعتضد (2) يجتمعون بباب الطاق (3) ويجلسون في دكان شيخ صيدلاني ، ويخوضون في الفضول والأراجيف ، وفنون الأحاديث ، وفيهم قوم سراة ، وكتاب ، وأهل بيوتات ، سوى من يسترق السمع منهم من خاصة الناس. وقد تفاقم فسادهم وإفسادهم ، فضاق المعتضد ذرعا ، وامتلأ غيظا ، وحرج صدره ، ودعا بعبيد الله بن سليمان (4) ورمى بالرفيعة (5) إليه وقال : أنظر فيها وتفهمها. ففعل وشاهد من تربد وجه المعتضد ما أزعج ساكن صدره ، وشرد إلف صبره وقال : قد فهمت
Shafi 62