Yarinyar Tehran

Suha Shami d. 1450 AH
173

Yarinyar Tehran

سجينة طهران: قصة نجاة امرأة داخل أحد السجون الإيرانية

Nau'ikan

كان علينا الانتقال إلى «زاهدان» - وهي مدينة تقع في جنوبي شرقي إيران بالقرب من الحدود الباكستانية والأفغانية - كي يعمل أندريه محاضرا في جامعة «سيستان وبلوشستان»، كان عليه أن يسافر إلى «زاهدان» قبل نحو شهر من بدء العمل كي يعد الأوراق المطلوبة ويجري الترتيبات اللازمة، وذهبنا معا لأنني لم أذهب إلى هذا الجزء من البلاد قط، وكان لدي فضول لرؤية منزلي الجديد.

استغرقت الرحلة من طهران إلى «زاهدان» نحو ساعة ونصف. وبينما كانت الطائرة تهبط في المطار نظرت من النافذة الصغيرة، بدا لي كأن الأرض دفنت تحت كفن من الرمال، لاحظت وجود بقعة صغيرة خضراء على بعد وشاهدتها تكبر وسط هدوء الصحراء الشاسعة، ظهرت المباني القرميدية والطينية من بين الرمال تطاول ظلال الأشجار القليلة المتناثرة.

هبطت الطائرة، وركبنا سيارة أجرة كي نشاهد المدينة. كانت أشعة الشمس - التي لم يقلل من تأثيرها تلوث الهواء أو الرطوبة - حارقة إلى حد لا يمكن احتماله، أما الطريق الذي يربط المطار بالمدينة فكان رائعا على نحو غير متوقع، حيث يشق استواء الأرض كأنه ندبة قديمة. وفي وسط مدينة «زاهدان» وجدنا متاجر صغيرة على جانبي الشوارع الضيقة، وامتلأت الأرصفة برجال ونساء يرتدون الزي التقليدي من سراويل فضفاضة وقمصان طويلة للرجال وفساتين مطرزة يدويا تصل حتى الكاحل، وأوشحة كبيرة للنساء. لم أكن قد رأيت جمالا عن قرب من قبل، لكنني رأيت جملا هناك يقف في الطريق يلوك شيئا ويراقب حركة المرور بعينيه الكبيرتين اللتين يطل منهما الملل وكأنه قد رأى كل شيء من قبل. وفي الأحياء الحديثة الأكثر رقيا بنيت المنازل بالقرميد عالي الجودة، لكن كلما ارتحلنا شمالا وجدنا المباني أصغر مساحة ومعظمها مبني بالطوب اللبن، وعلى الحدود الشمالية للمدينة توجد تلال صخرية شاهقة يبدو كأن بها ثقوبا كفتحات الكهوف، وأخبرنا السائق بأن الناس حفروا تلك الكهوف كي يقيموا فيها. شاهدت مجموعة من الأطفال الحفاة يركضون خلف كرة بلاستيكية ممزقة تحت أشعة الشمس الحارقة وهم يضحكون، وسألنا السائق عن سبب زيارتنا، فأوضح له أندريه أنه أتى للتدريس في الجامعة.

فقال السائق: «لقد بنى الشاه الجامعة هنا، وأفادتنا تلك الجامعة كثيرا، فهي تستقدم المتعلمين إلى هنا من طهران والمدن الكبرى الأخرى كي يشرفوا على تعليم أطفالنا والأطفال الآخرين القادمين من أماكن بعيدة.» ***

في مارس من عام 1987، حزمنا حقائبنا أنا وأندريه وبدأنا رحلة الألف ميل إلى «زاهدان». بعد ساعتين بدت سيارتنا الصفراء الصغيرة طراز رينو وكأنها وحيدة في العالم. كانت الرياح الساخنة تلفح وجهي عبر النوافذ المفتوحة، وتطاير بحر من الرمال على الطريق محدثا موجات ذهبية، وبعيدا باتجاه الأفق اختفت الأرض تحت موجات من السراب الفضي المتراقص. لم يتغير المنظر أو ينعطف الطريق عدة ساعات، وعندما نتوقف كي نستريح أكتشف مدى هدوء الصحراء بدون طنين السيارة المتواصل. على شاطئ البحر يسمع دائما خرير المياه حتى وإن كان الجو هادئا، وفي الغابة يسمع حفيف أوراق الشجر حتى وإن قررت كل الحيوانات أن تلتزم الصمت، لكن هنا كان الصمت مطبقا. وعند المغيب اختفت الشمس عند حافة الأرض، وحل الليل رويدا رويدا في صمت ملطفا من حدة الرياح الساخنة. شعرت كأن بإمكاني لمس النجوم اللامعة التي تملأ سماء الليل بأجسامها الدقيقة النابضة. لم يكن هناك أي انعكاس أو صدى للصوت، بل أرض بعيدة منسية، حتى إنها بدت خارج حدود الزمن.

كانت جامعة «سيستان وبلوشستان» قد أنشأت منطقة سكنية للمحاضرين بها على أرضها. لم تكن المنازل فاخرة، ولكنها مريحة ونظيفة وفي حالة جيدة. توفرت لدينا كل ضروريات الحياة، لكن مياه الصنبور كانت مليئة بالمعادن ولم تكن صالحة للشرب، فكان علينا أن نذهب إلى مصنع تنقية المياه الذي يبعد مسيرة عشر دقائق بالسيارة مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع كي نملأ بعض الآنية الكبيرة بمياه الشرب.

انشغل أندريه كثيرا في عمله، فكان وقته موزعا بين التدريس وإعداد الدروس وتصحيح أوراق الاختبارات عندما يكون في المنزل، وساعدني الوحدة والصمت اللذان تتمتع بهما الصحراء على أن أدع الماضي جانبا، فقد انهمكت طوال اليوم في أعمال روتينية مثل التنظيف والطهو، وعندما كنت أنتهي من أداء تلك الأعمال أبدؤها من جديد. نادرا ما كنت أستمع إلى المذياع، ولم أكن أشاهد التلفاز أو أقرأ الكتب. لم تعد هناك كتب لأقرأها، وخلافا لما توقعت فإنني لم أفتقدها. كنت مرهقة فحسب، كأنني عداءة في ماراثون ظلت تجري ساعات طويلة حتى تمكنت أخيرا من الزحف إلى خط النهاية ثم انهارت. لم يكن عقلي يؤدي سوى المهام الضرورية، فكان يذكرني بالمهام البسيطة؛ دائما كانت الملابس مغسولة والأرضيات نظيفة والطعام معدا على المائدة في الوقت المحدد.

كان لأندريه زملاء عمل رائعون في الجامعة، وكنا نلتقي بهم وبأسرهم أحيانا، وكانوا ودودين للغاية معنا. لم يكونوا يعلمون أي شيء عن ماضي، وكنت أتبادل الحديث معهم عن أحدث وصفات الطعام وأحدث الأفكار لتزيين المنزل.

لم تكن الحرب قد وصلت إلى «زاهدان» التي كانت بعيدة تماما عن الحدود الإيرانية العراقية، لكن الهجوم بالصواريخ على طهران وسبع مدن أخرى ظل مستمرا. كنت أتصل بأمي يوميا كي أتأكد من أنها بخير، وعلى الرغم من روعة النوم الهادئ ليلا دون أن تقطعه أصوات الانفجار التي تهدد حياتك، فقد شعرت كأني خائنة. ألححت على والدي أن يحضرا للإقامة معنا في «زاهدان» فترة، لكن أبي رفض متعللا بأن عليه الذهاب إلى العمل، فطلبت منه أن يدع أمي تأتي على الأقل، لكنه أكد لي أنه لا داعي للقلق، فطهران مدينة كبيرة تتضاءل فيها كثيرا احتمالات الإصابة بأحد الصواريخ. وذات صباح اتصلت بي أمي. - «أمي، هل أنت بخير؟» - «أنا بخير، ولكنني انتقلت للإقامة مع ماري بضعة أيام، فالمكان أكثر أمانا هنا.»

كانت ماري تقيم في مبنى متعدد الطوابق لا يبعد عن شقة والدي بطهران، ولم يبد لي هذا الكلام منطقيا. - «عم تتحدثين يا أمي؟ المكان هنا في «زاهدان» أكثر أمانا. طهران ليست آمنة أينما ذهبت بها.» - «صدقيني، المكان هنا أفضل.» - «أمي، أخبريني بما يحدث الآن، وإلا فسوف أستقل أول طائرة وآتي بنفسي.» - «ضرب شارعنا صباح أمس.»

Shafi da ba'a sani ba