Awowi Tsakanin Littattafai
ساعات بين الكتب
Nau'ikan
كل هذا لم يكن به من غرابة عند العرب الجاهليين ولا عند المسلمين في إبان الدولة الإسلامية، ولم نسمع اعتراضا عليه ولا توجسا منه في أشد نوبات العصبية القومية والغيرة الدينية، وإنما اشتد هذا التوجس في عهد الضعف والجمود قبيل هذا الجيل كما قلنا في مجلة الجديد: «ترى لو كانت الدولة الآن في العالم للأمم العربية أكان يفزع الجامدون من الجديد فزعهم هذا الأخرق العقيم، ويبالغون في خطره على اللغة مبالغتهم التي ملكت عليهم أسباب التفكير الصحيح؟ أكانوا يحسبون أن كل كلمة جديدة أو عبارة مودية باللغة وقاضية على فصاحتها وبلاغتها وآتية لها ببدعة لم يسبق السابقون إليها! لا نظن ذلك، فقد أدخل العرب في لغتهم أيام قوتهم وغلبتهم مئات من أسماء الثياب، والأثاث، والعلوم، والمخترعات، غير خائفين على اللغة ولا وجلين من عواقب هذه التوسعة؛ لأنهم كانوا يأخذون تلك المفردات من أمم أضعف منهم بأسا وأقل منهم شأنا، بل من أمم تدين لهم بالطاعة وتدخل في حوزة سلطانهم الكبير، ولم يكن في ورود تلك الزيادة معنى الإغارة المخيفة والسطوة الخارجية، وإنما كانت كالجزية يأخذه السيد المعتز بنفسه الواثق بيومه وغده من عبده الذي يخدمه بلغته كما يخدمه بكل شيء عنده، ولولا ذلك لكان عرب الأمس من جامدي اليوم بالغيرة على لغتهم من الطوارق الأجنبية، ومدافعة المفردات والأساليب الغريبة التي تسربت إليها.»
عود إلى الشر والجمال1
... قرأت مقالك الأخير «الجمال والشر في الفنون» ردا على الأستاذ طه حسين، وكنت من قبل أعرف نظرتك إلى الحياة تلك النظرة الفنية الصادقة، وكنت أيضا أعرف تقديسك للحرية والجمال، وأعتقد معك بأن الجمال حرية، ولذلك تنبأت قبل أن ينتضح قلمك بالكتابة عن علاقة الشر بالجمال، وتنبأ معي تلاميذك الذين يهديهم أدبك في طريق الجمال والحرية والاستقلال بما يكون عليه رأيك، وقد صدقت النبوءة، وجاء رأيك صورة صادقة من صور نفسك التي تمثلها تلاميذك أحسن تمثيل.
وإذا كانت كتابة سيدي الأستاذ تنسي القارئ نفسه أثناء القراءة، فإنه لا ينشب أن يعود إلى نفسه فيطيل التفكير والتأمل والتخييل.
ذكرني مقالك الأخير بمقال آخر في كتاب «المراجعات»، وهو الاعتراف بالعيوب، فلم أستطع المواءمة والملاءمة بين المقالين، ذلك أنك وصلت في هذا المقال إلى النتيجة الآتية: «لنا أن نعرف الطبيعة الإنسانية، ولكن علينا ألا ننسى أن الإنسان لم يصعد في سلم الخلق إنسانا ليظل حيوانا في كل شيء، ولنا أن نعترف بالشهوات والعيوب، ولكن علينا ألا نتخذ من هذا الاعتراف نشيدا نتغنى به غناء الافتخار، ونحرق حوله بخور البشرى والانتصار» فكيف نوفق إذن بين إنحائك باللوم العنيف على كتاب الواقع والطبيعة، وهم يكتبون عن الشهوات الشيطانية ويخرجونها من قماقمها لينتزعوا منها صورا فنية جميلة، وبين ردك على سؤال الأستاذ طه حسين في أن الكتابة عن الشر والقبح حسنة جميلة إذا كانت فيها مزية الأداء الجميل؟
زكريا ميخائيل
كلية الآداب - الجامعة
أرى أن الطالب الأديب قد كان في غنى عن الرجوع إلى مقال «الاعتراف بالعيوب» في كتاب المراجعات؛ لأن ما ذكرته في ذلك المقال قد أعدت ذكره بمعناه عند الكلام على «الجمال والشر في الفنون»، ولم أستحدث في هذا الموضوع رأيا غير الذي رأيته من قبل في «الاعتراف بالعيوب». فأنا لا أخرج شعر بودلير من الفن؛ لأنه يصف الجثث والمناظر المنكرة فيحسن الوصف ويصدق في التعبير، ويرعى الأمانة في الشعور، ولكني لا أبرئه «من تهمة المسخ والانحراف حين أنظر في شعره فلا أرى فيه إلا الشر والقبح والخوف والانقباض»، فهو شاعر يصف ما يحسه ويجيد وصفه وأداءه، ولكنه ممسوخ منحرف منقوص الحظ من العبقرية والحياة. بل لقد قلت إنني أقرؤه وأود لو أنه لم يكتب شعره، ولم يخلق بذلك المزاج الذي أوحاه إليه، فلو كنت قاضيه وسيق إلي بديوانه المطبوع وديوانه المخطوط، لحذفت منه الكثير وأرسلت به إلى المستشفى أو السجن، ثم أوصيت به الطبيب أو السجان.
فكل ما في الأمر أنني لا أستطيع أن أقول في كلام بودلير وأمثاله إنه ليس بشعر؛ لأنه في الحقيقة شعر بليغ صادق الوصف، حسن الأداء، وأيا كان رأيي في المثل الأعلى والأخلاق فليس في قدرتي ولا هو من حقي، ولا هو مما يطابق نظرتي إلى المثل الأعلى والأخلاق أن أجيء إلى كلام فني فأخرجه من سلك الفنون، أو أن أخلط بين مقاييس البلاغة ومقاييس الأخلاق.
كان بعض الدعاة الدينيين - ولا أريد أن أذكر اسمه هنا - دميما قميئا، رث المنظر، مشوه الوجه بالدمامل والثآليل، سليط المقال، لا يكف عن اللعن والوعيد، فلو حكمت على ذلك الداعية بمقياس الجمال لاستقذرته وأعرضت عنه، ولو حكمت عليه بمقياس الشريعة في بداية ظهوره لقضيت عليه بجريمة العبث بالعقائد المرعية، والثورة على النظام، ولو حكمت عليه بمقياس التاريخ والخير لعرفت له فضائله، ورفعت قدره، وأغضيت عن حكم الجمال وحكم النظام، فماذا تقول في الناقد الذي ينكر على ذلك الداعية رسالته في الدين، ومواعظه في الأخلاق لقبح منظره وسلاطة لسانه؟ وماذا تقول في الناقد الذي ينكر عليه تلك الرسالة؛ لأن قانون زمانه كان يدينه بالثورة والعصيان، إن الذي تقوله في هذا الناقد هو الذي يجب أن تقوله في ناقد يزعم عن بودلير أنه ليس بشاعر ولا صادق في الوصف، ولا بليغ في الأداء؛ لأنه لم يكن على سجية نرضاها في قوانين الأخلاق، وإذا كان حبك للخلق الكريم لا يبيح لك أن تصف الداعية الديني بجمال الجسم، وملاحة التقاسيم، فحري بكراهتك للخلق الدميم ألا تبيح لك نكران البلاغة على شاعر بليغ؛ لأنه لم يكن على خلق كريم، ولا سيما إذا كان ذلك الشاعر لا يكذب ولا يزيف، وليس يصف للناس إلا ما هو صادق في إحساسه موفق في أدائه.
Shafi da ba'a sani ba