Awowi Tsakanin Littattafai
ساعات بين الكتب
Nau'ikan
محكمة النقد محكمة كثيرة القضاة كثيرة القوانين، لا يجلس فيها قاض واحد ولا تدين بقانون واحد، وكأنها محكمة الخلود عند قدماء المصريين قضاتها أربعون، وميزانها لا يفرط في كبير ولا صغير، ولو أنك نقدت وحشا كالنمر لتعددت النظرات إليه، وتباينت الأحكام عليه، فاحكم عليه بقانون الزارع الضنين بخرافه وأبقاره تقض عليه برصاصة قاتلة، واحكم عليه بقانون عالم الحيوان تره جديرا بقفص الصيانة وطيب الطعام، واحكم عليه بقانون المصور تنفق وقتك في رقابته وتمثيل حركاته وألوانه، واحكم عليه بقانون الشاعر يرعك بأسه وضراوته ويعجبك زئيره وانفتاله، واحكم عليه بقانون التاجر تقدره بقيمة جلده في سوق الصناعة والزينة، واحكم عليه بقانونه هو تجده على حق حين يلتهم الفرائس، ويهجم على الناس، ولا يعف عن شيخ ولا رضيع، واحكم عليه بقانون الخالق الذي خلقه تعلم أنه جزء من هذه الحياة له فيها مكانه وأصله وجملة خيره وشره، ولست تستطيع أن تجد القانون الذي يبيده مرة واحدة، أو يصونه مرة واحدة؛ لأن حقيقته أوسع من أن يحدها قانون واحد؛ وهو هو النمر وليس هو بالإنسان ولا بالإنسان الشاعر الذي يذهب بك الحكم عليه مذاهب في تقدير الفن والجمال والأخلاق والعلم - لا انتهاء لها ولا ضابط لحدودها الواسعة - فإذا أثنيت على بودلير في ناحية، وذممته في ناحية، فأي عجب في ذاك والرجل في شعره وحياته أوسع من حقيقة النمر، ومن حقيقة بعض الناس.
وما بالنا نختلف في الشر والفن ولا نختلف في الفن والعلم؟ فالعلم يبحث الأمراض والرذائل، ويعالج الطيب والخبيث ولا يحصر بحثه في الخير والكمال، وعذر العلم في هذا - إن كانت به حاجة إلى العذر - هو عذر الفن حين يعرض الحسنات والسيئات، ويحيط بالحميد والذميم، ثم نحن نعرف أن المرض شر وإن درسه العالم، وأن الرذيلة شر وإن نظم فيها الشاعر، ونقول إنه شاعر شرير إذا كان ولعه بالشر يعميه عن الخير، ويحجب عنه الكمال، ونقول: إنه شاعر عظيم إذا كان يمثل لنا الشر كما مثل لنا ملتون خبث إبليس، أو كما مثل لنا ابن الرومي دمامة الأحدب والأصلع والشحيح، فهو شاعر هنا وهناك، ولا دخل في اختيار موضوعه لقدرته الشعرية إلا حين ننعت قدرته بنعت من الصحة أو من الأخلاق.
تقول: أليس الشاعر لا ينبغي له «أن يتخذ من الاعتراف بالشهوات والعيوب نشيدا يتغنى به غناء الافتخار، ويحرق حوله بخور البشرى والانتصار؟»
نقول: نعم لا ينبغي له ذلك، ولكن ترى لو أنه فعل ما نهيناه عنه ماذا يكون؟ ألا يكون شاعرا؟ كلا! بل يكونه ويكون أنه فعل ما لا ينبغي، وليس فعل ما لا ينبغي بالممتنع على الشعراء خاصة ولا على الناس كافة، فإذا شئت أن تسأل: أو لا نحتقره إذا هو أجاد في الشعر وفعل ما لا ينبغي له؟ قلنا: بل لك أن ترسله إلى السجن، وللدنيا بعد ذلك أن تحكم عليك أنت أو عليه هو بجملة ما عندها من قوانين الشرائع والعواطف.
إن الشعر غير الجمال. هذا حق لا ريب فيه، ولكن لا يلزم منه أن الشرير غير الجميل، فقد يكون الشر في جميل، وقد يكون الجمال في شرير، ومن هنا ينطوي وصف الشر في وصف الجمال، ويجمع الشاعر بين الوصفين، ولا مطعن عليه في الذوق أو الفن أو الإحساس.
وإن التعبير عن الشر غير الشر في ذاته، وهذا حق آخر لا ريب فيه، فقد يكون الشيء شرا محضا، ويكون التعبير عنه جميلا يروق الناظر المتأمل، ومن هنا نعبر عن اللؤم وهو قبيح بالكلام البليغ وهو جميل، ولا مطعن على من يعبر ذلك التعبير من جانب الفن، ولا من جانب الأخلاق.
وإن تصور الشر في ذاته غير عمله وتسويغه، وكذلك لا ريب فيه، فلا حرج على أحد أن يتصور الشر ويعرفه، ولكن الحرج أن يعمله، ويستحسنه، والحرج عليه في هذا إنما يكون من ناحية الأخلاق لا من ناحية البلاغة والتصوير، فإذا كانت العقرب تلدغ الناس وتميتهم فلا لوم على على المصور أن يرسم العقرب ويمثل فريستها، ولكن اللوم عليه أن يجعلها تلدغ وتميت وأن يستحب منها اللدغ والإماتة، وهو حين يفعل ذلك لا يكون مصورا ولا ينصرف النقد منه إلى ملكة التصوير.
على أننا نقول ما هو أبعد من ذلك مدى في هذا الباب، نقول إن القانون الذي يقضي على الحياة بأن تبرز نفسها، وتمثلها في خيرها وشرها هو أعرق وأكبر وأقوى من جميع قوانين الأخلاق السارية ما ظهر منها وما سوف يظهر وما بطل وما لا يزال؛ لأن الناس إذ يضعون قوانين الأخلاق السارية إنما يضعونها من حيث هم أعضاء في مجتمع وأصحاب مصالح ومعاملات، ولكنهم إذ يندفعون إلى تمثيل أنفسهم إنما يندفعون إلى ذلك من حيث هم أناس بل من حيث هم أحياء سابقة للاجتماع والمصالح والمعاملات، بل نكاد نقول من حيث هم موجودات يجري عليها ما يجري على كل موجود؛ لأن تمثيل ما أنت عليه هو طبيعة التكوين لا محيد عنها لكائن يعقل أو لا يعقل ويريد أو لا يريد، فقد تغيرت قوانين الأخلاق ولم يتغير الشعر والفن ولن يتغيرا أبد الزمان، وقد أمرت الأخلاق أمرها، ونهت نهيها، ونظم الشعراء فيما أمرت به ونهت عنه فطرب الناس للنظم وحنقوا على الناظمين، ولو لم يكن قانون الحياة ذاك أقدم من قوانين العرف ودواعي الاجتماع لما بقي هذا البقاء في كل أمة، ولا كانت له من قوة تشد أزره إلى جانب القوانين التي يشد أزرها الجنود والجلادون، فحسب الأخلاق إذن أنها تحكم على زمانها وتصول برهبتها، وكفى صيانة لها وضمانا أنها مخشية البطش والازدراء، وأنها تثأر لنفسها من طغيان ذلك القانون القديم، فذلك كاف جد الكفاية لبلوغ غايتها، وإنجاز وظيفتها وحماية حوزتها، أما الزيادة على ذلك فربما كانت أخطر من طغيان دوافع حياة.
تمثال النهضة1
الضروريات قبل الكماليات، كلمة تسمعها كلما تحدث متحدث عن أثر يقام لعظيم، أو زينة فنية تتجمل بها مناظر المدينة، أو دراسة أدبية لا يصنع منها الخبز، ولا يحمل عليها الماء، والذين يصيحون بتلك الكلمة يظنون أن الدراسات الفنية والأدبية مما يمكن أن يؤجل ويؤجل ويؤجل إلى أن ننظر حولنا فنرى أننا مستوفون لكل صناعة مربحة، ولكل علم منتج، ولكل عمل يدوي وأننا لا نشتري الإبر ولا الخيط والمخيط من الأسواق الأجنبية! فيومئذ نقول لأنفسنا: ها نحن اليوم قد استوفينا الضروريات، فلنبدأ بالكماليات، وها قد وفر عندنا الزاد فلنلتفت للنوافل والفضول، ونقول للمصورين، والموسيقيين، والكتاب، والشعراء. الآن فاظهروا من حيث كنتم مختفين ثم اخلقوا لأنفسكم المواهب والعبقريات التي لم تكن مخلوقة قبل اليوم، فقد فرغنا من مائدة الطعام والشراب، ولم يبق لنا إلا أن نلهو بالمنادمة والسماع!
Shafi da ba'a sani ba