Hanyar Rayuwa
سبيل الحياة
Nau'ikan
وبماذا أساء.. وكيف يعقل أن أنتظر من الناس ألا يقولوا أو يفعلوا إلا ما يرضيني أنا.. ومن أكون حتى ألزمهم ذلك.. وعلى أن احتمالات العفو كاحتمالات العمد فيما يصدر عن الناس ويسوء بعضهم من بعض، فلماذا أجزم بأن الصديق تعمد الإساءة ولا أقول إنها كانت منه عفوا.. ثم أين هي الإساءة على كل حال.. إنه غروري أنا لا إساءته هو».
ويعتريني الأرق لخاطر ملح أو حاجة لم تقض فأبتسم وأقول مناجيا نفسي «لقد صار أمر حياتك رهنا بشيء يسير على ما أرى، فما أهون هذه الحياة إذن وما أضأل قيمتها.. إذا كانت الحاجة لم تقض فهي لم تقض ولن ينفع في قضائها هذا التحسر الذي يورثني الأرق. ومن يدري.. ألا يمكن أن يكون هذا خيرا ألا يتفق أن تكون الخيرة في الواقع.. وأوجه الأمر الذي يشغلني من هذه الناحية الجديدة التي لم أكن أنظر إليها فيأخذني النوم وأنا أفكر.
وقد وجدت للابتسام مزايا أخرى وفضلا في الإطلاع على ما لم أكن أطمع أن أطلع عليه وألم به، فقد اتفق مرة أن كنت مدعوا إلى عقد زواج والعادة أن توزع على المدعوين بعد كتابة العقد علب من الحلوى وليس بالنادر أن يكون منظر الزوج في هذا الموقف مغيرا بالضحك: وكان العريس في هذه المرة ممن لا يعنون في العادة بحسن الهندام وأناقة الملبس، وكثيرا ما رأيته يترك لحيته أربعة أيام أو خمسة وهو لا يحلقها، فإذا فعل بدا لي كأنه إنسان جديد وكان في تلك الليلة - أو على الأصح ذلك المساء - يلبس ثياب السهرة - لا أدري لماذا - وكان دائم التأفف، وكان لا يكف عن تحريك رقبته فعل من يشعر بالضيق والكرب من ضغط الياقة المنشاة المكوية، فأغراني منظره في غير مألوفه من الثياب بالابتسام فجعلت أنظر إليه وكان واقفا وراء صف من الجلوس فلمحت واحدا منهم كانت معه علبتان من العلب المهداة يضع واحدة منهما على كرسي خال إلى جانبه وينهض فيمشي إلي ويقول وهو يبتسم - متكلفا ولا شك - فما كانت هذه ابتسامة مهما بلغ من تسامح المرء في التعبير - «أ ... أ.. أظن أنك تدرك أن هذا مزاح».
فنظرت إليه مستغربا فما فهمت من كلامه شيئا، ولم أقل لأني عودت نفسي أن أنتظر حتى يفرغ محدثي من الكلام، إذا كنت قد وجدت مرارا أن محدثك يهم بأن يقول لك شيئا يظن أنك تعرفه أو تدركه فإذا تكلمت تبين من كلامك أنك غير عارف شيئا فيعدل بالحديث عن مجراه وتخسر أنت ما كدت تسمع منه. ورآني الرجل أنظر إليه ولم أقل شيئا فمضى في كلامه وقال «هذه العلب ... لقد أردت أن أداعب صديقا لي وأخفي عنه علبته لأضحك منه.. بالطبع كنت معتزما أن أردها.. مزاح بين أصدقاء ليس إلا ...» وضحك ومضى عني وهو يتلفت إلي ويحرك رأسه مبتسما فلم يسعنى أنا أيضا إلا أن أبتسم لهذا الاعتراف وإلا أن أحمد الابتسامة التي حالت دون السطو والسرقة.
وفي مرة أخرى قصدت إلى قهوة يجلس فيها إخوان لي، وكنت أريد أن آخذ واحدا منهم، وكان إخواني هؤلاء مولعين بعلب الورق وأنا لا أعرف من لعب الورق شيئا، وقد حاول بعض إخواني أن يعلموني فأخفقوا ولم يفلحوا فظللت على جهلي بهذا اللعب. ودخلت على أخواني وكانوا حول المائدة الخضراء يلعبون على عادتهم، وكان معهم رجل لا أعرفه أو لا أذكر أني رأيته، فإن ذاكرتي خوانة فسلمت ودعوت صاحبي الذي جئت له أن يخرج معي فاستمهلني قليلا فجلست على كرسي أقرأ في صحيفة ثم مللت فوقفت أنظر إليهم وإلى ما في أيديهم من الورق وإن كنت غير فاهم شيئا، ولكن تداول الورق وما يحدث من الربح والخسارة وما يرتسم على الوجوه من المعاني المختلفة المتعاقبة لا يخلو من تسلية حتى لمن كان جاهلا مثلي، فطال وقوفي وكانت هناك مرآة أمامي وراء الرجل الذي قلت إني لا أعرفه فجعلت أنظر إليها تارة وإليهم تارة وأنا واقف لا أعمل شيئا، وانتهى دور من الأدوار فنهض الرجل الغريب وقال «دقيقة واحدة» وأشار إلي وقال «هل تسمح لي بكلمة».
فدرت حول المائدة إلى حيث هو وأنا لا ادري ماذا يريد مني فمشى بي إلى المرآة وجعل يخرج أصواتا غريبة على سبيل التمهيد للكلام وأنا صابر منتظر لا أقول شيئا على عادتي التي يندر أن أخالفها في حديث لا أعرف اتجاهه ولا مراميه ولا الغرض منه، ولكنه لم يسعني إلا أن أبتسم له كما كان يبتسم لي وإلا كان جمودي جفوة لا داعي لها، فظللنا لحظة هكذا - هو يقول «هه هه» وأنا أقابل قهقهته المضطربة المتقطعة بالابتسام فما ثم ما يدعو إلى القهقهة من ناحيتي وأخيرا استطاع أن يقول لي أن اللعب كله لعب، ولم أكن أظن أنه غير ذلك، ولكنه كان يعني أنه لعب للتسلية وتضييع الوقت وملء الفراغ الذي لا يدري على ما يظهر بأي شيء غير ذلك يشغله وأن الغرض ليس الربح وإن كان كل رابح سيرد إلى إخوانه ما أخذ منهم، فإذا كنت قد رأيت منه ما حملته على محمل آخر كالغش مثلا فهذا تأوليه ولو كانوا يلعبون جادين لكان إخفاؤه الورق وإبداله خفية غشا لا شك فيه، وكنت أنا قد لمحت يده تنزل تحت المائدة بورق ولكني لم أعر الأمر التفاتا لجهلي بالأمر كله فجاء هو يعترف لي أنه كان يغش زملاءه ويزعم أن هذا كان مزاحا والفضل في اعترافه للابتسامة التي لم يكن معنيا بها.
والحوادث التي من هذا القبيل كثيرة وهي جميعا تبدأ باللجلجة والتلعثم وتنتهي بالاعتراف وسردها جميعا لأن الابتسام يكون مقرونا بوقوع العين في العين وطول التحديق والنظرة القوية الطويلة تسبب الارتباك والاضطراب للمرء، وكون المرء غير مقصود بها هو يكسبها القوة ويطليها لأن المرء يخجل في العادة أن يحدق في وجوه الناس ولكنه يتفق أن يكون ناظرا إلى شيء وراءهم وان يكونوا هم في طريق النظرة فتقع بكل قوتها في عيونهم والناظر إليهم غير شاعر بذلك أو دار بما يصنع أو متنبه للأمر ويطول ذلك على الذي تقع في عينه النظرة فيرتبك ويضطرب ويجد الناظر يبتسم فيدور في نفسه أن شيئا فيه هو الذي يبعثه على الابتسام وأن الناظر لابد أن يكون قد وقف على أمر أو فطن إلى شيء أو أدرك حاله فأغراه ذلك بالابتسام ويقوم في ذهنه أن الابتسام ابتسام سخر وعلم في آن معا وإلا فلماذا يطول ويظل مرتسما على الشفتين، والمعهود أن الإنسان إذا رأى غيره ينظر إليه نظرة من يلاحظ عليه شيئا قدر أن يكون ما لاحظه هو العيب أو الخطأ الذي يعرفه هو من نفسه ويشعر به ولو كان تافها أو خفيفا فأنا مثلا إذا وجدت واحدا ينظر إلى الأرض قريبا مني لم أشك في انه يتأمل ساقي المكسورة العرجاء، وإذا كانت نظرته إلى فوق توهمت مثلا أن عينه على الزرار الناقص من القميص أو الربطة التي قلما تستقيم حول رقبتي أو تكون غير مائلة إلى اليمين أو اليسار هكذا.
والابتسام يكون من العين لا على الشفتين وحدهما، ولمعته في العين هي التي تفيد المنظور إليه معنى الضحك منه أو السخرية به، وميض السرور يحمل على الظن بأن المبتسم وجد ما يبعث على الضحك من النقائص أو الحالات التي لم تكن له في حساب، ولولا هذه اللمعة في العين لصارت النظرة مع طولها قوية جافية وعنيفة صارمة، ولكان الأرجح أن يكون أثرها غير إشعار المرء بنقص فيه أو عيب أو مأخذ، ولكان من المحتمل أن تؤدي إلى تنويم المنظور إليه إذا كان ممن يسهل التأثير فيهم على هذا النحو، وإذا لم تؤد النظرة إلى التنويم في هذه الحالة فقد تفضي جفوتها وعنفها إلى الفزع والرعب. حدث مرة أني كنت جالسا أفكر، وكنت ذاهلا عما حولي وكنت أنظر أمامي لا إلى شيء والحملاق يكون في مثل هذه الحالات ثابتا، وكانت أمامي فتاة من أقربائي ولم أكن أشعر بها أو أراها ولكن عيني كانت على ما يظهر في عينها، فتنبهت على صوتها وهي تلوح بيديها وتدعوني أن أكف عن النظر لأنها تشعر بالخوف، فدهشت أولا ثم أدركت ما حدث ولا احتاج أن أقول إني حولت عيني فقد تحولت من تلقاء نفسها وبغير جهد مني لأن الأمر كله كان عفوا لا عمد فيه. ومعروف أن قوة النفس كلها تتدفق من العين، ومن هنا كانت العين هي أداة التنويم المغناطيسي، ولن تجد منوما أعمش أو ضعيف البصر أو فاتر الحدقة، لأن ضعف العين يحول دون نفاذ القوة منها والعين مفتاح النفس، فيها تقرأ أكثر المعاني أو الخواطر أو الخوالج أو الإحساسات التي تدور في الرأس أو النفس، ومن العين تتلقى النفس أكثر ما تتلقاه من وقع الحياة، فتأثير العين في العين يكون كأنه تأثير في النفس مباشرة بلا واسطة. فلا تستغربوا أن يكون الابتسام في وجه إنسان مع طول النظر إليه ولو عن قصد مؤديا إلى ارتباكه واضطرابه ومغريا له بأن يتقدم إليك ويبدأك بالكلام فإن هذا أشبه بأن يكون وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس ليخلص من حالة تثقل عليه ولا يكاد يطيق الصبر عليها والثبات لها وليكسر من حدة النظر بتحويلها، ولا عجب إذا انتهى الأمر به إلى شيء من الاعتراف.
وكما يتفق أن أضايق الناس بنظراتي وابتساماتي وانا غير مدرك لذلك يتفق أيضا أن يضايقني الناس بمثل ذلك، ولكن وسيلتي إلى الدفاع عن نفسي والتخلص من ثقل هذه النظرة والابتسامة ليست الاعتراف، بل وسيلتي أن أقابل المثل بالمثل. فإذا كان ينظر إلي ويحدق في عمدت إلى وجهه فأوسعته تحديقا وحملقة حتى يخجل ويرد عينه ويقعد كسائر خلق الله، وإذا كان يبتسم لي ابتسمت لد وزدت وبالغت وذهبت أوسع له شفتي حتى أبلغ بطرفيهما شحمتي الأذنين فيستغرب وينكر هذا المنظر القبيح الذي أقابله به ويتجهم ويزوي ما بين عينيه، فاضطجع في مقعدي وأقول لنفسي هذا أحسن، وأرضى عن نفسي. والمثل يقول إنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وأنا أعمل بهذا المثل فالذي يبتسم لي أبتسم له والذي يحملق في وجهي أو عيني أحملق في وجهه أضعاف ما يفعل فمن كان لا يريد أن ينتهي به الأمر إلى الاعتراف للناس بما فيه فعليه بتقليدي فسيحمد النتيجة ويرضى عن العاقبة.
الفصل العاشر
Shafi da ba'a sani ba