Hanyar Rayuwa
سبيل الحياة
Nau'ikan
1 - بلدتي القاهرة
2 - أمي
3 - أساتذتي
4 - بركة العجز
5 - سبيل الصحافة
6 - في طريق الحياة
7 - من ذكريات عابر سبيل
8 - حي ولا كالأحياء
9 - الابتسام
10 - لعب الطاولة
Shafi da ba'a sani ba
11 - الأدب وتحصيله
12 - هل كانت أسعد لحظة
13 - ظمأ النفس إلى المعرفة
14 - الإيحاء والسرقة الأدبية
15 - قرائي الذين يحبونني
16 - اللغة والقوالب الموروثة
17 - الكتابة وحالات النفس
18 - خواطر في مرقص
19 - الرجل والمرأة
1 - بلدتي القاهرة
Shafi da ba'a sani ba
2 - أمي
3 - أساتذتي
4 - بركة العجز
5 - سبيل الصحافة
6 - في طريق الحياة
7 - من ذكريات عابر سبيل
8 - حي ولا كالأحياء
9 - الابتسام
10 - لعب الطاولة
11 - الأدب وتحصيله
Shafi da ba'a sani ba
12 - هل كانت أسعد لحظة
13 - ظمأ النفس إلى المعرفة
14 - الإيحاء والسرقة الأدبية
15 - قرائي الذين يحبونني
16 - اللغة والقوالب الموروثة
17 - الكتابة وحالات النفس
18 - خواطر في مرقص
19 - الرجل والمرأة
سبيل الحياة
سبيل الحياة
Shafi da ba'a sani ba
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازنى
الفصل الأول
بلدتي القاهرة
كان ينبغي أن تكون بلدة «كوم مازن» - مركز تلا، على ما أظن، من أعمال المنوفية - مسقط رأسي. فإن فيها أهلي وعشيرتي.. ولكن المقادير بخلاف ذلك. فلا رأسي سقط في كوم مازن، ولا كتب لي قط أن أزورها أو ألم بها.
وشاءت إرادة الله - لحكمة ولا شك - أن أكون قاهريا، مولدا، ونشأة، وإقامة، وأنا أطوف ما أطوف ثم آوي إلى القاهرة، ولا يخطر لي أن أرى هذه البلدة - الطيبة على ما سمعت - التي نزل فيها أجدادي ونسبوها إليهم وكنت أظن لفظ «كوم» محرفا عن «قوم»، ولكن الدكتور زكي مبارك - وهو أدرى - يقول إن الصواب «الكوم» بالكاف، وأنه لا تحريف هناك، لأن أهل القرى التي تقع على النيل، كانوا يؤثرون الأرض المرتفعة حتى لا يغمرها الماء في موسم الفيضان..
والقاهرة التي عرفتها - أو قل الرقعة التي عرفتها منها - في صدر حياتي، شيء مختلف جدا عن هذه القاهرة الحديثة التي أشابتني.. والرقعة التي أعنيها هي التي لا تزال معروفة بأسمائها وإن كانت معالمها القديمة قد عفى عليها الزمن، وهي تشمل أحياء الجمالية، والأزهر، والسكة الجديدة، وغيرها مما يتفرع عليها.
وكانت طرقها ضيقة، وأرضها غير مرصوفة، ودورها واسعة ذات أفنية رحيبة، وفي بعضها شجر ذو ثمر وزهر ونافورة جميلة، ومصلى. وفي إحدى هذه الدور الجميلة - وكانت لزوج عمتي لا لنا - ولدت.. ولكن أبي كان قليل الاستقرار، فكان لا ينفك ينتقل بنا من دار إلى دار، حتى لأحس أني أكلف ذاكرتي شططا حين أحاول أن أتذكر صور هذه البيوت كلها.. ولكن شيئا واحدا أتذكره بوضوح وهو فناء كل بيت، أو «الحوش». أما المسكن نفسه - حيث يأكل الناس، وينامون - فإن أمره يعييني. وأحسب أن هذا غير مستغرب، فإن «الحوش» هو ملعب الطفل ومرتعه، وفيه يقضي معظم نهاره فصورته خليقة أن تثبت ولا تبرح ذهنه.
وكان بعض الطرق مسقوفا، مثل شارع «القرنية»، ليحجب الشمس، والبعض درب ضيق فوقه بناء: فهو أشبه بالسرداب، مثل الذي كان، ولعله مازال بين «بيت المال» وساحة مسجد الحسين، رضي الله عنه، وفيه تكثر الوطاويط.. وكانت «الحارات» في الأغلب ضيقة جدا، والبيوت فيها متقاربة، فالطريق لا يتسع لأكثر من اثنين يسيران جنبا إلى جنب.
وللبيوت «مشربيات» جميلة دقيقة الصنع، من خشب، تبرز من المنازل المتقابلة وتكاد تتلاصق، وفيها توضع القلل ليتبرد الماء. ومازلت أذكر كيف كنت أمد يدي إلى مشربية الجار، فأشرب من قلله إذا وجدت قللنا فارغة، أو ماءها غير بارد، أو لمجرد العبث والشيطنة!..
Shafi da ba'a sani ba
وكان الترام قد ظهر في قلب المدينة، ولكني لم أره إلا بعد أن اجتزت مرحلة التعليم الابتدائي، ودخلت المدرسة التوفيقية الثانوية - أقول لم أره قبل ذلك، ويحسن أن أضيف أني لم أركبه إلا بعد ذلك بسنوات، لا لأنهم خوفوني منه - وقد حاولوا تخويفي فعلا - بل لأننا كنا افتقرنا بعد موت أبي، واستطاع قريب لي أن يحصل لي على «أبونيه» مجاني «لعربات سوارس»، وهي مركبات طويلة ضيقة تتسع لعشرة ركاب أو خمسة عشر، ويجرها بغلان أو ثلاثة بغال، وتستطيع أن تسبقها وأنت راجل!
وكانت الحمير والبغال، و«عربات الكارو»، التي لا تزال لها بقية لا يستهان بها، هي وسائل النقل والتنقل. فأما البغال فكان يركبها «الذوات» والموسرون من طلاب العلم في الأزهر.
وأما الحمير فيتخذها «أولاد البلد» وبعض أهل الوجاهة. وكانوا يعنون بتدريبها ويحرصون على أن يبدو الحمار في حفل من الزينة، فالسرج بديع الفرش واللجام محلى بالفضة. فإذا كان يوم الأحد، وهو يوم الزيارة الأسبوعية لمسجد السيدة نفيسة، أو يوم الخميس وهو يوم زيارة «المحمدي» بالعباسية، لبس أصحاب الحمير أفخر ما عندهم من الثياب الحريرية، وامتطرا هذه الحمير المضمرة المحلاة، وخرجوا في موكب باهر يتسابقون، ويعرضون مزايا دوابهم. ونقف نحن الصغار على جانبي الطريق نتفرج، ونعجب، ونتمنى على الله أن يرزقنا حميرا كهذه.
وكانت الحارات الواسعة - نسبيا - ملعبنا نحن الصغار. وكنا نعرف ونزاول من الألعاب أربعة ضروب. فأما الصغار جدا فيلعبون «البلي» - وهي كرات صغيرة في حجم الفولة إلا أنها مستديرة - وأما الأوساط فيلعبون «النطة» وهي القفز من فوق أحدهم وهو منحن، وأما الكبار فيلعبون الكرة أو يتسابقون وكانت الكرة هي «كرة الشراب» أما الكرة «الأمبوبة» أي المنفوخة، فما كانت لنا قدرة على اقتنائها، لأن «مصروف» الواحد منا كان لا يزيد على خمسة ملاليم، وكانت كافية للب، والحمص، والفول السوداني. ولم نكن قد سمعنا في ذلك الزمان بالشكولاتة!
والمهرة من الصغار كانوا يتبارون في الرماية، وسلاحهم «الرايقة» وهي حجر دقيق جدا ومستدير، كنا نجمعه من التلال المحيطة بحي الأزهر، فيقف الفريقان أحدهما في أول الحارة. والآخر في آخرها، وبينهما أكثر من ثلاثين مترا، لأن الإصابة بهذه «الرايقة» - كالإصابة بحد السيف - تقطع وتدمي!
وكان لكل حي «فتواته»، وكل جماعة من الفتوات تهاجم كل جماعة أخرى، أو تثأر لنفسها، وكنا نحن الصغار نستطيع أن نعرف سلفا أنباء الغارات المنوية، فنحذر فتوات حينا، ونخرج لنتفرج. أو نتفرج من النوافذ، على العصى وهي تهوي على الرؤوس، ونشترك في المعركة «بالرايقة» من النوافذ، والجريء منا ينزل إلى الشارع ويخوض القتال، على ألا يصيب إلا خصوم حيه.
على أن حياة الصغار لم تكن كلها لهوا، فقد كنا نصلي الفجر في مسجد الحسين، ونقيم الصلاة في مواقيتها في البيت، ونحضر الأذكار، ونحفظ الأوردة ونذكر مع الذاكرين، وفي الصيف - في الإجازة المدرسية - يرسلنا أهلنا إلى «الكتاب» في الأزهر لنحفظ القرآن الكريم.
وكانت على بعضنا واجبات عجيبة ، فكنت أنا - مثلا - مكلفا أن أعلف لجدي حماره، وكان - جدي لا الحمار - ضعيف النظر، فكنا نجئ له بالحمار مسرجا ملجما فيركبه ويتوكل على الله، ويخرج من جيب القفطان «التغييرة» أو الملزمة ويدنيها من وجهه ويقرأ، حتى يبلغ به الحمار باب «المزينين» وهو أحد أبواب الأزهر فيقف، فيعرف جدي أنه وصل، فيترجل، ويترك الحمار لمن يعني به، ويلقي درسه أو دروسه ثم يعود كما جاء!
فحدث ذات يوم أني أهملت إطعام الحمار، فجاع، فلما ركبه جدي لم يذهب به إلى الأزهر، بل كر به راجعا إلى الاسطبل، فلما ترجل جدي لم يجد ما ألف، ولم يدر أين هو؟ فما دخل الاسطبل قط!
وقد ضربت في ذلك اليوم علقة - لا من جدي، فقد كان أحنى علي من أن يضربني - بل من أخي الأكبر رحمه الله!
Shafi da ba'a sani ba
هذه هي القاهرة كما عرفتها في حداثتي، وهي صورة مجملة، وموجزة ناقصة للحياة فيها. أما القاهرة الحديثة فلا حاجة بي إلى وصفها لأن كل قارئ يراها ويعرفها.
الفصل الثاني
أمي
لا أعرف الأمهات كيف يكن، ولكني أعرف أمي كيف كانت، وأجمل التعريف بها وأوجز الوصف فأقول: أنها كانت «رجلا» وأحسب أن النساء لا يرضيهن ثناء كهذا يسلبهن أنوثتهن، وإن سرهن ما فيه من معنى الاكبار ولكن أمي لم يكن لها بال تجعله إلى شيء من هذا؛ فقد اضطرت أن تمحق أنوثتها في سن يبدأ فيها النساء - أو معظمهن - يعرفن معنى الأنوثة الكاملة؛ فقد مات أبي وهي في الثلاثين من عمرها؛ وأذاقها في حياته ما سود الدنيا في عينيها وأنساها أنها امرأة كالنساء، وكان أبي - رحمه الله - مزواجا، وكان حبه للتركيات وافتتانه بهن عجيبين، ومن فرط حبه لهن كرهتهن أنا؛ وكان يذهب كل بضعة أعوام إلى الآستانة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى ثم يعود بزوجة من هناك يعايشها سنوات ثم يملها ويشتهي غيرها، فيسرحها بإحسان ويردها ويجيء بغيرها، وهكذا.
وتركنا أبي ذوي مال فأكله أخي الأكبر - أعني أنه أنفقه باليمين وبالشمال حتى أتى عليه - فلولا لطف الله لتسولنا، أو على الأقل لما أمكن أن نتعلم، ولكان المازني الآن - على الأرجح - نجارا غير حاذق، أو شيئا من هذا القبيل، ولكن أمي كانت حازمة مدبرة، فوسعها بالقليل الذي أسعفها به حسن الحظ أن تربينا وتقينا المعاطب.
ولست أذم أبي أو أنتقصه، وما يسعني أن أفعل ذلك وقد كانت أمي تثني عليه، ولا تني تذكره بالخير؛ ولم تنقطع قط عن زيارة قبره في اثنتين وثلاثين سنة عاشتها بعده؛ وكنت ربما مازحتها فأقول لها: «وماذا كان يعجبك في هذا الرجل؟»
فتبتسم وتزجرني بلطف، ثقة منها بأني أهزل ولا أتكلم جادا؛ فأتعمد الإثقال عليها وأقول: «صحيح والله! - ماذا كان يعجبك فيه؟»
فتقطب وتقول: «عيب يا ولد!» وتنظر إلى سبحتها بين أصابعها.
فأقول: «ولكنه كان مزواجا».
فتقول: «يا بني هذا قضاء الله وقدره؛ وما كنت أكره له هذا إلا خوفا عليه».
Shafi da ba'a sani ba
فأقول معبثا: «أو غيرة منهن؟»
فتقول: «يا قليل الحياء - اذهب عنى اذهب».
فأبقى ولا أذهب؛ وأقول: «لقد رأيت آخر زوجاته تلك؛ وأشهد أنها كانت جميلة وأبي كان معذورا».
فيضيق صدرها وتقول: «ألا تنوي أن تستحي؟»
فأسألها: «من أي شيء؟»
فتقول: «إنه أبوك..».
فأقول لأهيجها: «سلمنا يا ستي..».
فتصيح بي: «سلمت! يا قليل الحياء.؟»
وتتناول الحذاء لتضربني به ولكني أكون قد ذهبت أعدو؛ فتقذفني به وتعلن إلي أنها لا تريد أن ترى وجهي بعد اليوم.
ولكني لا ألبث أن أسترضيها واستغفرها وأقبل يديها ورأسها. فما كنت أطيق أن أدعها عاتبة أو ساخطة أو متألمة، ولو وسعني أن أجعل حياتها نعيما خالدا وسرورا دائما وجذلا لا تنضب ينابيعه ولا تجف موارده لما قصرت ولا كنت صانعا إلا بعض ما يجب لها فتعفو عني وتدعو لي وتدنيني منها وتمسح لي رأسي كأني مازلت طفلا.
Shafi da ba'a sani ba
ولما نجحت في امتحان الشهادة الابتدائية جاء أخي وابن عمتي مهنئين، وأشارا عليها بأن تكتفي من تعليمي بهذا القدر، لما كنا فيه من العسر، فأبت، فألحا فأنكرت ذلك منهما وزجرتهما عن اللجاجة فيه، فلم ينهزما. وأنذرها أخي - وكان غير شقيق - أنه قابض يده عن كل معونة. وكانت معونته متقطعة لا خير فيها ولا اعتماد عليها لضآلتها وقلة الانتظام فيها، فلم تعبأ بذلك وأصرت على المضي في تعليمي إلى نهايته المقدروة.
وكانت أمي - على صغر سنها - زعيمة الأسرة. وكان أهلي جميعا يلجأون إليها يطلبون رأيها فيما يعرض لهم، وفصلها فيما يقع بينهم من المشاكل. وقد كان موت أبي؛ وأنا في التاسعة من عمري. وكنت - ومازلت مع الأسف - أكبر ابنيها، فصارت تعاملني على أني رب الأسرة وسيد البيت وتعودني احترام النفس والتزام ما يقتضيه مقامي في البيت وتستجوبه زعامتي للأسرة. وتنتهي إلى «مسئولياتي» وإلى التبعات التي يحملها «رجل» مثلي. وكانت حاذقة كيسة في سلوكها فلا نهر ولا زجر، ولا أوامر ثقيلة ولا نواهي بغيضة. ولا شطط أو إسراف، ولا تقصير أو تفريط، ولا إشعار بأن لحريتي حدودا ضيقة غير معقولة أو محتملة وإن كانت الرقابة على هذا دقيقة وافية، أذكر وأنا في المدرسة الثانوية أني عوقبت مرة بالحضور إلى المدرسة في منتصف الساعة السابعة صباحا (السادسة والنصف) وكان هذا عقابا جائزا في ذلك الوقت وكان البيت في حي السيدة زينب والمدرسة في شبرا، وبينهما «أبعد مما بين بصرى والحرم» فأخبرتها وخرجت من البيت قبيل الفجر وأنا أخشى أن أكون قد تأخرت، فقلقت وذهبت بها الظنون كل مذهب، ولكنها لم تقل شيئا. فلما كان الضحى ركبت إلى المدرسة وسألت البواب فأخبرها أن تلميذا جاء في الفجر وأيقظه ليدخل فرده فظل يتمشى حتى طلع النهار، فعادت مطمئنة ولم تخبرني بما فعلت إلا بعد عدة أعوام لمناسبة عرضت.
وكنت وأنا صغير أدخن. خفية، وكانت على غير علم مني تراقبني. فإذا نمت تأخذ ما يكون معي من السجاير، فإذا أقبل الصباح لم أجد شيئا وظللنا على هذا المنوال أياما - أشتري السجاير كلما ساعفتني الموارد، وهي محدودة جدا وهي تسرقها بالليل ولو أخفيتها في بئر، ثم خفت أن تسألني فلا أستطيع أن أكذب وخجلت أن أعترف بهذه الحماقة الصبيانية وحالت رقة الحالة دون الاحتمال، فأقلعت. حتى كبرت .
ومن حنانها العجيب أنها كانت إذا مرضت ووصف لي الطبيب دواء لا تدعني أجرع منه إلا بعد أن تجرع هي منه. وكثيرا ما كنت أقول لها: «يا أمي كفي عن هذا!»، فتقول: «يا بني إنه قلب الأم» فأقول: «ولكنه عمل لا نفع منه» فتقول: «نعم، ولكن ليطمئن قلبي».
ولما أتممت التعليم الثانوي، حرت إلى أي مدرسة عالية أذهب. فسألتني أيها أوثر، فقلت: الطب، قالت: «فاذهب إلى مدرسته وقدم أوراقك» ففعلت ولكن ناظرها المستر كيتنج رمى بأوراقي إلى الشارع لأني يوم الكشف الطبي دخلت قاعة التشريح فرأيت جثة منتفخة تفوح منها رائحة نتن خبيث، فدار رأسي وأغمي علي، وكان الناظر مقبلا فرآني فقال هذا لا يصلح. فاطردوه.
وعدت إليها فأخبرتها الخبر. فلم تجزع كجزعي وهونت علي الأمر وقالت: «لم يبق إلا «الحقوق» فاذهب بأوراقك إليها» ففعلت وضمنت القبول ولكن الوزارة زادت «المصروفات المدرسية» من خمسة عشر جنيها إلى ثلاثين. فاسترجعت أوراقي فما كان لي قبل بهذه الثلاثين كل عام. وشاء الله أن تفتح مدرسة المعلمين العليا فدخلتها.
واستقلت من وزارة المعارف بعد أن اشتغلت بالتدريس فيها خمسة أعوام، وكانت الحرب الكبرى قد استعرت. فجئتها يوما بقراطيس فيما مرتبي نقودا فضية فألقيتها في حجرها وقلت: «هذا آخر ما أقبض من مال الحكومة».
قالت: «يعني؟» قلت: «إني استقلت» قالت: «على بركة الله».
ولكني أرقت ليلتي. فقد كانت الدنيا قائمة قاعدة. والأحوال مضطربة. وكانت الحكومة قد أعلنت «الموراتوريام» - أي تأجيل الدفع الجبري - فجاءت تسألني عن سر هذا الأرق فأفضيت إليها بما يساروني من المخاوف وندمي على الاستقالة وجزعي من هذا الغمار الجديد الذي أقدمت على خوضه فقالت: «لا تقدر البلاء قبل نزوله. قم فنم وتوكل على الله لقد كنت أنا مستعدة أن أعمل بيدي في سبيل تربيتك، فكن أنت مستعدا أن تعمل حتى بيديك إذا احتاج الأمر، وثق أنك لن تخيب، فإني داعية لك راضية عنك». فوالله لقد صرت بعدها إنسانا ثانيا.
وكانت - عليها رحمة الله - تتوخى أن تعفيني من المنغصات وتتجنب أن تحملني الهموم فتستقل بها دوني وتتحرى ما يدخل على نفسي السرور ويشيع فيها الغبطة والرضى، ويفيض على البيت الايناس والبهجة. وكانت ذاكرتها قوية، فكانت إذا جلست للسمر تتدفق بأحاديث الأيام السوالف وكأنها تحياها من جديد، فلا يغيب عنها حرف ولا يفوتها لون. وكانت لقوة ذاكرتها سجلا عاما للأهل والصواحب، فمن نسي شيئا فما عليه إلا أن يلجأ إليها. وكانت صديقاتها يستودعنها حسابهن، وكثيرا ما كان يحدث أن تجئ الواحدة منهن فتقول لها: «إن فلانة الدلالة تزعم أن علي لها مبلغ كذا، فما هي الحقيقة؟» فتخبرها الحقيقة فتقوم عنها ويكون هذا هو القول الفصل.
Shafi da ba'a sani ba
وكانت قوية الشكيمة فلا رأي إلا رأيها في الأسرة كلها، وإن كانت صغرى أخواتها، وكثيرا ما كانت نفسي تحدثني أن أنازعها السيادة، ولكنني كنت لا أكاد أهم بذلك حتى أرتد، وكان يكفي أن ترمي إلي نظرة وتقول: «استح يا ولد»فيتحلل العزم وأهوي على راحتها باللثمات.
وكانت تكتفي بالنظرة الأولى إذا أمكن أن تستغني عن الكلمة، فكنا نتفاهم بالعيون والذين حولنا غافلون لا يفطنون إلى شيء، فمن ذلك أنها لما حضرتها الوفاة قالت: «أعطني ثلاثين قرشا» ولم تكن بحاجة إلى ذلك.
وكنت قد أعددت عدتي لذلك اليوم، فأدركت أنها تريد أن تطمئن على أن معي ما يكفي لنفقات المأتم، وكانت جريدة السياسة معطلة والأزمة مستحكمة فأخرجت ما معي وقلت لها: خذي ما تشاءين، فأخذت جنيها دسته تحت الوسادة فظل حيث وضعته حتى ماتت.
وكانت قد أصيبت فجأة، وفي منتصف الليل، بذبحة وكانت من شدة التمزيق الذي تحسه في صدرها تخبط بيديها في الهواء كالذي ألقي به في الماء وهو لا يعرف السباحة، وظلت تقاوم الداء تسعة أيام بقوة إرادة الحياة. ولم أر منها ما يدل على التضعضع والانهزام إلا قبيل الوفاة بدقائق. وكنت أناولها الدواء، فأشاحت بوجهها عنه، فألححت، فقالت: إرضاء لك فقط». وشربته، ثم نامت فوضعت يدي على فمها فلم أشعر بنفس.
وقد ظل أخي زمنا لا يغفر لي أن خدعته وكذبت عليه.
تلك هي أمي، أو تلك هي بعض خطوط الصورة. وإني لجليد في العادة، ولكن موتها هدني. فقد كانت لي أما وأبا، وأخا وصديقا.
الفصل الثالث
أساتذتي
أكبر أساتذتي. وأولاهم بالتقديم، وأحقهم باستيجاب التعظيم، اثنان. وقد علمني غيرهما أشياء كثيرة بعضها نافع، وبعضها لا أعلم - ولعلي مخطئ - أني انتفعت منه، من مثل القراءة والكتابة والحساب والتاريخ والرطانة بلسان أجنبي. إلى آخر هذا وقد نسيت أكثره لأني لم أحتج إليه بعد أداء الامتحان فيه أما دروس هذين الأستاذين الجليلين فإنها مما لا ينسى.
ولابد من تمهيد للتعريف بهما فإنهما أسمى مقاما وأجل شأنا وأعمق أثرا في حياتي من أن أضن عليهما بكلمة تقديم وجيزة.
Shafi da ba'a sani ba
كان أبي في سعة من الرزق، وكان محاميا ومكتبه في بيته، على عادة أهل ذلك الزمان وكنت أخرج إلى الطريق ومعي أخي الأصغر لنلعب، فننفق ما معنا ونحتاج إلى سواه، فأدخل على أبي في مكتبه وهو مكب على الورق فأقف ساكنا ساكتا حتى يرفع رأسه، فأغتنم الفرصة وأقول «أبويا! أبويا. هات قرش» - وكان «بابا» لفظا لا نعرفه ولا سمعنا عنه فيدخل أصبعين في جيبه ويخرج ما يقعان عليه، وقد يكون قرشا، أو نصف فرنك، أو «واحدة بخمسة».
ثم مات عليه الرحمة، وأنا مازلت طفلا في السنة الأولى الابتدائية وخلف مالا ليس بكثير ولكنه فوق الكفاية، ومضى عام أو نحوه، ونحن لا نشعر بأن شيئا تغير من حياتنا سوى أن أبي خلت رقعته، وجاء يوم دعتني فيه أمي إليها وكانت على الرقة المفرطة في قلبها تستطيع أن تكون صارمة الجد حادة قاطعة كالسيف، غالبة كالقدر. وقالت لي وهي تغالب التمزيق الذي في قلبها وصدرها التمزيق الذي قضت به نحبها بعد ثلاثين سنة وزيادة لم تخلع فيها السواد إلا قبل وفاتها بشهور - قالت: «يا إبراهيم! لا كرة بعد اليوم».
وكنت مغرى بلعبها في الحارة مع لداتي، من أبناء الجيران، وكنت أنا الذي يشتري الكرات للعبنا وكنت أوثر الملونة المخططة لا لألوانها بل لأنها أغلى. فدهشت وسألتها عن السبب، وقد كبر في وهمي أني لعلي أسأت الأدب أو أتيت ما يعاب، ولكنها قالت: «أخنى علينا الدهر يا إبراهيم وان الدهر يا ابني لمظلوم، ولكن لا داعي لكثرة الكلام فما في ذلك فائدة، والذي أريد أن تعرفه هو أننا افتقرنا». •••
فكان أول ما خطر لي هو أن أسألها: (هل معنى هذا أننا سنجوع؟) فطمأنتني وقالت: (لا أظن! إن عندي أشياء لا حاجة بي إليها - مصوغات، وأثاثات وما إلى ذلك - وسأبيع منها ونقتات، والله المسئول أن يسترنا، وأن يلهمنا حسن التدبير).
واختفى شبح الجوع الرهيب، فتنفست الصعداء ووسعني أن أرتد طفلا فأسألها: (كيف ألعب إذن؟)
قالت: يا ابني إن الكرة ليست أكثر من مشجع على النط والجري والحركة على العموم، فنط، واجر وتحرك بغير كرة».
وهو كلام معقول، ولكنه لم يعجبني وكيف أكف فجأة عن اللعب بالكرة وأنا الذي كان يزود بها أترابه؟ ورأت سهومي وتقطيبي فلم تترفق بي، على فرط حنوها بل زادت علي شدة وقالت: (واسمع يا إبراهيم. إنك لم تجاوز العاشرة، ولكني أحب أن تعد نفسك من الآن، رجلا فتسلك سلوك الرجال لا الأطفال). •••
في هذه اللحظة قطعت الطفولة كلها وثبا - وما كنت إلا ابن عشر، ولكن أمي تقول لي إني أصبحت رجل البيت وسيده والمسئول عنه - عن أخي الصغير وعن أمي وجدتي لأبي. كل هؤلاء مسئولون مني أنا الذي لا يزال يتعلم الجمع والطرح والضرب وكلمات من الإنجليزية لا يحسن أن ينطقها! مسئول عن هؤلاء وبي حاجة إلى من يتعهدني، ويبرني ويسرني ويهذبني ويؤدبني!
وكان هذا أول أستاذ لي - أعني الفقر - وإنه لأستاذ السواد الأعظم والجمهور الأكبر من الخلق ولكنه كان يلقي علي دروسه كما تهوي العصى على أم الرأس! •••
فقدت الثقة بالناس، وانطويت لهم على سوء الظن، والتحرز، وإذا كان أخ أكبر - غير شقيق - يستطيع وهو آمن، أن يجني على إخوته وأمهم وجدتهم، فما ظنك بالغريب، وصار همي بعد ذلك أن أتوخي الستر، ورضت نفسي على الاحتشام، وجنحت إلى العزلة. شيئا فشيئا، وتوخيت الأدب حتى لا يسيئه معي أحد. وأبيت أن أرفع الكلفة مع الإخوان لتظل العلاقة قائمة على المودة والاحترام. وجعلت للساني لجاما من نار، حتى لا يجري بكلمة يجرؤ غيري علي بمثلها. وأوجز فأقول؛ إن الفقر المباغت أورثني عقدة نفسية ما زلت أعالجها إلى اليوم، فأقول لنفسي فيما أقول إن هذا الفقر حماني تطري المدللين، وأكسبني جلدا، وأفادني قوة نفس، وجرأة في الكفاح، وصبرا عليه. وإني لفخور بما قدرت عليه من الوقوف على قدمي بلا معين سوى الله، وأمي بعده، ولكن الضعف يعروني أحيانا فأتساءل: ما ضر لو زادت الدنيا مرفها مدللا متطريا آخر؟؟ أكانت تخرب أكان لابد لصلاحها أن أشقى وأتعذب هذا العذاب الغليظ. •••
Shafi da ba'a sani ba
يدور بنفسي هذا المعنى إذا تخلل بي الإعياء، ثم أتذكر أني لما كبرت، وتخرجت، وصرت معلما يتقاضى في الشهر اثنى عشر جنيها مصريا ذهبا لا ورقا تصوروا هذه الثروة الضخمة في سنة 1909! - وطبعت الجزء الأول من ديوان شعري - تالله ما كان أحمقني! - أخذت أول نسخة منه أخرجتها المطبعة وزرت أخي الأكبر الذي جنى علينا ما جنى، وكنت - على نقمتي عليه - أحبه وأحترمه ولا أجرؤ أن أناديه باسمه، فإذا احتجت إلى النداء قلت: «أخويا! أخويا!» ذلك كان أدبنا قديما - فأخذها مني وفتحها، وقرأ الإهداء، وهو أبيات ليست فيه ولا له، وإذا الدموع تتساقط على خديه ولحيته. فجزعت، وكنت وأنا أقدم له هذه الهدية. وعليها كلمة بخطي، أشعر بشماتة مضمرة أو بأني أدركت ثأري كأنما أقول له، هذا أخوك الصغير الذي أفقرته، وكدت تلصق بطنه بالتراب قد استطاع أن يغالب الفقر وأن يصبح شيئا له حساب وقدر، وأن يكون شاعرا، وأما أنت فماذا؟ ضيعت مالنا، وكسبت مالا غيره. ولكنك مع هذا لست بشيء: من يعرفك من يذكرك؟».
ولكني خجلت حين رأيت دموعه. والدم لا يكون ماء، فنهضت إليه وقبلته بين عينيه، ولثمت لحيته، وانصرفت بلا كلام. لقد غفرت له دموعه فما رأيته يبكي قبل ذلك قط، ولو كان لي دمع يراق لبكيت في ذلك اليوم. •••
أي نعم أستاذي الأول الفقر - هو الذي آتاني القوة والمقدرة على الكفاح وعلمني التسامح والترفق، والعطف، وإيثار الحسنى وعودني ضبط النفس وتوخي الاتزان، وجنبني العنف والقسوة والفظاظة، وحبب إلي الفقراء، وفتح عيني على القيم الحقيقية للناس والأشياء والحوادث، ودربني على نشدان الخبر من وراء المظهر، وجنبني أن أحترم المال لذاته، وحماني أن أغمط الفضل والحق، والحمد لله! •••
أما الأستاذ الثاني - بورك فيه - فهو الضعف، وأقول بإيجاز - فقد أطلت - إنه علمني أن الإنسان ليس حمارا أو بغلا أو فيلا، وإن المعول ليس على قوة بدنه ومتانة أسره، فتلك قد تكون مزية الحيوان، ولكنها ليست مزية الإنسان، وإنما قيمة الإنسان بعقله وفضله، وسعة حيلته، وحسن تأتيه وسداده وتدبيره، وقدرته على الابتكار، وعلى أن يستطيع أن يقول في غير زهو - إنه لم يعش عبثا، وإنه نهض بعبء الحياة، وأدى فرائضها. على قدر ما تيسر له والحمد لله مرة أخرى.
وإني الآن لأعرض على عيني ما كان في حياتي، فأقول إني لو كنت خيرت، لكان الأرجح أن أضل وأسيء الاختيار، وإن حياتي كانت كما ينبغي أن تكون ولهذا تراني راضيا شاكرا لله فضله ومنته.
الفصل الرابع
بركة العجز
أرجو أن لا يظن القراء أني أتواضع أو أقول غير الحق حين أقول إني أخيب صحفي على ظهر هذه الأرض، ومازلت بعد ثلاثين عاما من اشتغالي بالصحافة عجز خلق الله عن استقاء خبر، وليس أبغض إلي ولا أثقل على نفسي من الاضطرار إلى مقابلة أحد ممن يظن أن عندهم العلم بأمر من الأمور، ولقد احتجت مرة إلى زيارة وزير العدل - وكان يسمى وزير الحقانية - فلما قابلت «الوزير» وحادثته فيما جئت له، تبينت أني خلطت، وأن هذا وزير «الداخلية» وحسبي هذا في بيان جهلي حتى بدور الوزارات!
ولكني على جهلي وخيبتي فزت مرة بثناء طيب من المغفور له سعد زغلول. رأيت سعد باشا أول مرة وأنا طالب في مدرسة المعلمين، وهو وزير أو «ناظر» للمعارف، وقد زار المدرسة، ودخل علينا وراءه المستشار الإنجليزي (دنلوب) وغيره من كبار الموظفين، فخلفهم وراءه - واقفين في أدب - وتقدم إلى الصف الأول وأقبل علينا يناقشنا في معنى «الحرية» ومأخذها. وأحسب أن هذا كان أول درس لي في «الحقوق» و«الواجبات»..
وقد رأيت بعد ذلك - وأنا معلم - وزراء للمعارف كان المستشار (دنلوب) يزور المدارس فينحيهم، ويؤخرهم، ويتقدمهم غير عابئ بهم، حتى لقد كبر في وهمي مرة أن أحد هؤلاء الوزراء» «سكرتير» أو موظف صغير فلم أحفل به! ولم يسوئه سوء أدبي!
Shafi da ba'a sani ba
ودارت الأيام وقامت الثورة، ونفي سعد زغلول، ثم أطلق سراحه وذهب إلى باريس ثم عاد إلى مصر، فأوفدتني جريدة «الأخبار» التي كان يصدرها المرحوم أمين الرافعي بك إلى الإسكندرية، لأكتب لها وصف استقبال سعد.. وعدت في القطار الخاص معه، واضطررت أن أحمل حقيبتي من محطة مصر إلى ميدان الفلكي، لأني ل أجد لا سيارة ولا مركبة خيل، ولا رجلا يجملها عني، لأن الدنيا كلها مضت وراء ركب سعد..
ومضى الليل، وطلع النهار فحدثت معجزة.!
ذلك أني كنت قبل ذلك بعام قد نزل بي مصاب رجني رجة شديدة، وأتلف أعصابي، فآثرت أن أتخذ مسكنا لي بين المقابر، وكان موقعه موحشا، والقبور حوله تقبض الصدر، وكانت لي قريبة كلما زارتني تقول لي: «يا ابني ما هذا؟ كلما نظرت من النافذة اضطررت أن أقرأ الفاتحة! ولكنني كنت أجد في هذه الوحشة أنسا، وكنت لا أكاد أطيق رؤية الناس، وبلغ من تلف أعصابي أني كنت إذا تناولت الصابون لغسل يدي مثلا، أشعر أن فيه «شعرا» فخفت على نفسي وطلبت الراحة والسكون، وأي سكون أتم من سكون الموت؟ وطبيعي أني كنت أعرف «التربية» - بضم التاء - وفي صبيحة اليوم التالي لعودة سعد، خرجت من بيتي في نحو الساعة العاشرة لأستقل الترام إلى جريدة «الأخبار» على عادتي كل يوم، ووقفت أنتظر الترام، وإذا بشيخ «التربية» المرحوم الشيخ عبد الخالق الطحاوي يخرج في سيارته مسرعا، فلما رآني تمهل وأخبرني أن سعد باشا آت لزيارة مقابر الشهداء وأنه ذاهب لاستقباله عند القلعة وان هذا الخبر سر لا ينبغي أن يذاع، وهذه رغبة سعد.
وتركت الترام وانتظرت، وبعد قليل أقبلت سيارات في الأولى سعد وواصف غالي باشا، وفي الثانية أمين بك يوسف والمرحوم سينوت بك حنا، فأشرت إليهما وركبت معهما، وزرنا مع سعد مقبرة المرحوم مصطفى باشا فهمي صهره ثم مقبرة الشهداء المسلمين. وفيها ألقى سعد خطبة وجيزة كتبتها على ركبتي، فما كان ثم مقعد أو حائط، ثم انطلق الجمع إلى مقبرة الشهداء الأقباط في شارع الملكة نازلي، وهناك خطب سعد أيضا مترحما على الشهداء، حاضا على الجهاد بالمال والنفس في سبيل الوطن، وهناك أيضا. سلم علي سعد، وشكرني ولم يزد، وعاد إلى سرادق مضروب بجوار بيت الأمة وخطب أيضا، ثم ذهبت إلى «الأخبار» ودخلت على المرحوم أمين بك الرافعي اعتذر من التأخر فضحك رحمه الله وقال: «لقد أبلغني سعد باشا أنك رافقته في زيارته لمقابر الشهداء، وهو يستغرب جدا أنك علمت بأمر هذه الزيارة مع أنه أخفاه حتى عمن رافقوه، وهو يثني عليك ويقول أنك أبرع صحفي، وإن ما كان منك يشبه السحر!».
وضحك أمين بك وقال: «طبعا لم أفضح السر، ولم أقل له إن بيتك بين المقابر!».
وهكذا فزت بثناء لا أستحقه، ولا فضل لي فيما استدعاه وإنما الفضل لمجاورتي يومئذ لأهل القبور!
وأذكر أن سعد قال لي فيما قال: إن الرقيب قد حذف من خطبة له في الإسكندرية بعض الكلام فقلت له: إن هذا غير صحيح، والحقيقة أني أنا الذي حذف العبارة التي ظهر في مكانها بياض، وذلك لأن «فلانا» - ولا داعي لذكر اسمه الآن - أخبرني أنك أنبته عنك في مراجعة خطبك لأنك ترتجل الكلام وقد تقول ما لا يحسن نشره الآن، أما الرقيب فقد أخبرني أن رئيس الوزراء - وكان عدلي باشا - أمره أن لا يقرأ خطبك أو أحاديثك أو تصريحاتك، قبل نشرها.
فقال سعد رحمه الله. لقد أحسنت إذ أنبأتني بهذا، لأنه يكون مستغربا أن يحذف موظف صغير من كلام سعد.
ودعينا إلى الغداء عند سعد باشا - أمين بك الرافعي والعبد لله - جزاء لي على براعتي في «سكني القبور»! فأدهشني وأنا جالس إلى المائدة أن يعود سعد باشا إلى سؤالي عما حذف الرقيب من كلامه! وخفت أن يكون قد شك في صدق ما رويته له فاضطررت أن أقص عليه الحكاية مرة أخرى، وأن أعيد أن «فلانا» - وكان حاضرا - طلب مني حذف ما حذف، لأنك - أي سعد - كلفته أن يراجع خطبك.
فالتفت سعد إلى «فلان» هذا، وقال له فيما قال «مجنون مثلك يكون رقيبا على عاقل!»
Shafi da ba'a sani ba
فشعرت بندم وأسف وخجل، لأني عرضت «فلانا» هذا لغضب سعد أمام نحو عشرين على مائدته! ولكن ماذا كان يسعني غير ذلك؟ لقد حذفت من كلام سعد نحو سطرين بأمر «فلان» هذا الذي ادعى أن سعدا وكله وأنابه عنه ي مراجعة خطبه، وكان لابد أن أذكر الحقيقة، لأن سعدا كان يهم بأن يؤاخذ الوزارة - وكانت تسمى يومئذ «وزارة الثقافة» - بهذا الحذف، ويتخذ من ذلك سببا لمجافاتها، وله الحق، ولكنها كانت غير ملومة، وإنما كان الملوم عضوا من أعضاء الوفد.
بعد ذلك أم أقابل سعدا إلا مرة أخرى يطول الكلام فيها، لأني خالفته في سياسته وإن كانت الغاية واحدة، ولم تمنعني مخالفته قط من إجلال صفاته وعرفان قدره والاعتراف بفضله.
وأحسب أن مما جعلني أخيب الخياب أني عملت في أول عهدي بالصحافة في جرائد أصحابها من ذوي المنازل الملحوظة وممن لهم مشاركة كبيرة في الحركة الوطنية والمساعي القومية.
فقد كان كل ذي رأي ومقام في هذا البلد يومئذ، يزور «الأخبار» مثلا فلا نحتاج أن نسعى إليهم لنقف على الحقائق، ونطلع على الأسرار حتى لقد كنا نمسي بعضهم مازحين «مدير مكتب إفشاء أسرار مجلس الوزراء»، وكانوا يحتشدون في غرفنا وفيهم الوفدي والدستوري والمستقل، ويتناقشون ويتجادلون ويذيعون المطوي، بالتفصيل الوافي الشافي، فنحيط بكل شيء وما تكلفنا جهدا ولا نهضنا عن مكاتبنا واعتدت أن يسعى الناس إلينا ولا نسعى إليهم، فنفرت - أو زدت نفورا - من السعي والبحث والتقصي.
وأضرب مثلا آخر لما يصح أن أسميه «بركة العجز»، ذلك أني كنت أتولى تحرير جريدة لا داعي لذكر اسمها، فتلقى صاحبها رسالة بالبريد بغير إمضاء يسرد فيها كاتبها قصة تعد من الفضائح بتفصيل يوقع في الروع أنها صحيحة، فأبيت نشرها معتذرا بأن الواجب هو أن نتحرى «تحري الرجل الرشيد» قبل النشر، فقال صاحب الجريدة أنه لو كان هو المحرر المسئول لنشر الرسالة فإنه مقتنع بصحتها، فقدمت له استقالتي ليكون حرا في تصرفه فأباها ووكلني إلى رأيي.
وكان اليوم التالي يوم عطلة، فركبت سيارتي وانطلقت بها إلى طنطا وفي نيتي السفر إلى الإسكندرية، واسترحت قليلا في مقهى وإذا بمحام من أصدقائي يقبل علي ويدعوني إلى الغداء معه فاعتذرت، فألح، وكان يعرف صاحب الجريدة ويحبه فقصصت عليه ما جرى بيننا، وقلت إني آسف لسوء التفاهم ولكنه لا يسعني إلا ما فعلت، فهون الأمر علي؛ ومضى بي إلى مكتبه، وفتح خزانة وأخرج منها ملف قضية دفع به إلي وقال «هنا تجد الموضوع كله» وكان هذا صحيحا، فقد كان في الملف كل ما يثبت صحة الرسالة التي أبيت نشرها..
ولا أحتاج أن أقول أني كنت أرقص من الفرح بهذا التوفيق العجيب الذي يسر لي أن أقوم بحملة شعواء أدت إلى خروج الرجل من مصبه!
وهكذا ترى أن العجز له بركة فاللهم أدمها علينا!
الفصل الخامس
سبيل الصحافة
Shafi da ba'a sani ba
فرغت من عملي، فوضعت القلم، ونهضت عن المكتب ورحت أتمشى، فلقيني زميل فسألني: «كيف ترى الخبر الفلاني؟»
قلت: «عظيم. وقد جعلته موضوع مقالي اليوم».
قال: «أنا جئت به».
قلت: «أهنئك. فمن أعطاكه؟»
قال: «قد والله سرقته!»
فضحكت وقلت: «اللص الشريف!»
وهممت بالانصراف عنه، بعد أن أثنيت عليه بالذي هو أهله. فقال: «بودي أن أعرف رأي الوزير فيما صنعت، وما أظن إلا أنه مغيظ محنق».
فقلت: «إن الخبر للنشر على كل حال، والخلاف بينك وبين الوزير على موعد النشر، وليس هذا الخلاف بالذي يثير الغضب».
وأقبل في هذه اللحظة زميل آخر فألقيت إليه خلاصة الحديث وقلت: إن الجريمة ليست في ارتكابها، بل في افتضاحها. ونحن اليوم نحرم السرقة، وتقول قوانيننا إنها محظورة، وإن عقابها كيت وكيت، ولكن (ليكرغ) في إسبارط القديمة كان يذهب مذهبا آخر فيقول بأن لك أن تسرق على ألا ينكشف أمرك، فإذا انكشف كان عقابك صارما. والنتيجة واحدة، فإن السارق الذي يستطيع أن يستر فعله لا يصيبه شيء. وما يعاقب إلا الذي يعجز عن إخفاء ما صنع، ويثبت عليه ارتكاب الفعل.
ووجه آخر للمسألة: زميلنا هذا قد سرق شيئا، لم يسرق خبزا ليأكل، ولا مالا لينفق على نفسه وعياله، أو يوسع رزقه، ولكنه مع ذلك سرق شيئا في سبيل رزقه، فإن رزقه يتطلب منه أن يوافي الجريدة بطائفة صالحة من الأخبار التي تعني القراء، وصاحب الجريدة لا يكلفه السرقة، ولو فعل لكان هذا منه شططا غير مقبول، وأمرا لا يطاع، ولكن الزميل مع ذلك رأى أن قيامه بواجبه يبيح له استقاء الأخبار بهذه الطريقة العوجاء، وهو - كما تعلم - سني متدين، غير أن كونه سنيا ومتدينا لم يمنعه أن يقدم على سرقة صريحة لا سبيل إلى المكابرة فيها، من أجل الرزق. ولو أنه كان قد سرق رغيفا أو بيضة لكان جزاؤه ما بينه قانون العقوبات. وعذر الذي يسرق الرغيف ليسكت «معدة ثعلبها لا حس، وتارة أرنبها ضاغب» كما يقول ابن الرومي في قصيدته المشهورة لابن الحاجب، أوضح ممن يسرق ولا جوع له ولا خلة، وإنما يريد أن يستديم الرضى من صاحب عمله. ولو جئت بسارق الرغيف، أو سارق المذكرة من الوزير أو أعوانه وسقتهما إلى القضاء لكان للمحقق أن يحكم على سارق الرغيف، وأن يبرىء سارق المذكرة. وقد نرى القاضى أن الفاقة «ظرف مخفف» - كما يقول رجال القانون - ولكن لن يكون عنده «ظرفا مبرئا».
Shafi da ba'a sani ba
وسارق المذكرة يستطيع وهو آمن أن يباهي بعلمه، وأن يتخذ من قدرته على مثله شهادة مزكية له، ووسيلة للرفع من شأنه. وكل صاحب جريدة يسمع بجريمته يتمنى لو أن أخانا المجرم كان يعمل له؛ بل يتمنى لو كان كل من يعمل في جريدته على مثاله. ولكن سارق الرغيف بماذا يباهي؟ أبفقره؟ أم بعجزه عن الكسب؟ أم بما وصمه به القانون؟ أم بما نزل من السجن؟ وكل صاحب عمل يزهد فيه ويخاف منه ويتقي أن يكون عند مثله، وقد يدركه عليه العطف، ولكنه لا يطمئن إليه. وإنه ليعلم أنه ما أرغاه بالسرقة إلا الجوع وقلة الحيلة وانقطاع الوسيلة؛ وإنه ما كان ليفعل ما فعل لولا ذاك؛ ولكن الشكوك مع ذلك تظل تساوره وتقاوم شعور العطف وتغالب رحمة القلب، بل منطق العقل.
وأحسب أن الصحافة مدرسة لتعليم هذا الضرب من السرقة، ولست أعرف صحفيا واحدا أتيحت له فرصة سرقة وأحجم عنها أو تردد. وما أبرئ نفسي ولا أنا أستثنيها. هذا وليس عملي في الصحافة - ولا كان قط - أن أستقي الأخبار، ولكن كل عمل في الصحافة رهن بالأخبار، فصلته بها أوثق مما يبدو للمرء، وإن خيلت غير ذلك. وإنك لترى الصحفي «حنبليا» في كل شيء إلا حين يحتاج إلى الوقوف إلى خبر، وإذا بالذمة تتسع، وإذ كل شيء جائز في سبيل الوصول إلى هذا المستور أو المكتوم، ثم لا أسف ولا ندم ولا توبة. وأكبر الظن أن تسقط الأخبار في الطباع، وأن الإنسان فضولي بفطرته. فإذا كان هذا هكذا فإن الصحافة لا تصنع أكثر من تنظيم الأمر وتوجيهه وجهة المصلحة العامة لخير الجماعة. والصحافة من ثمرات الحضارة، فهي تصنع كالحضارة - أعني أنها تعمد إلى الغرائز والفطر الساذجة فتصقلها وتهذبها وتنظمها وتجريها في مجار معينة فيصلح أمر الجماعة ويستقيم حالها. مثال ذلك أن الرجل كان يخطف المرأة التي كانت تروقه أو يسبيها، ثم يحتازها مادام راغبا فيها ويحارب دونها، وهوالآن يتزوجها، ولا يحتاج إلى الخطف أو الحرب دونها، وإن كان ربما احتاج أن يعانى متاعب المناقشة من الخاطبيها، أو الراغبين فيها غيره. ومثاله أيضا أن الأثرة والأنانية قد اتخذا مظهر الوطنية أو القومية، ولم تذهب الأثرة ولم يبرأ منها الفرد، ولكن المدنية استطاعت أن تنتفع بروحها في الفرد وتسخرها لخير الجماعة.
كذلك تفعل الصحافة، حين تستغل فضول الإنسان فتتولى جمع ما يعنيه وتنشره على الناس.وقد خرج الأمر عن أصله، حتى لصار يبدو كأنه منقطع الصلة به. ومن الذي يجرؤ أن يقول: إن الصحافة لا هم لها إلا إرضاء فضول الإنسان بعد أن أصبحت تسمى «السلطة الرابعة»؟ ومن ذا الذي يذمها من أجل أنها تصل إلى أخبارها بما يسع رجالها من حيل، ويدخل في طوقهم من وسائل وإن كان بينها السرقة، بل شراء الذمم بكل ما تشتري به من طيب وذميم، أي بالخداع، والملق، والمدح، والصداقة، وتبادل المنافع، لا بالمال وحده كما قد يتوهم البعض، فإن الرشوة الصريحة وسيلة يندر الالتجاء إليها ...
وهكذا جعلت الصحافة من السرقة عملا محمودا، ومن مرتكبها لصا شريفا! ولا عجب فإن خدمة الأمة تكلف أبناءها تعاطي ما يعده العرف رذائل وآثاما، وتحمد منهم ذلك، وتجزيهم عليه أحسن الجزاء.
الفصل السادس
في طريق الحياة
كانت عادتي - إلى بضع سنوات - ألا أبرح بيتي إلا وفي يدي كتاب، وكنت لا أكاد أستقر في «الترام» حتى أفتح الكتاب وأقبل عليه وأنصرف عن الدنيا التي حولي حين أخرج للرياضة. كنت أتخير الطرق المهجورة فأميل إليها ليتسنى لي أن أقرأ في كتابي وأنا آمن، وقلما كنت أقرأ مؤلفا حديثا، أو كتابا أو ديوانا لست على يقين جازم من جودته، فكان علمي بالدنيا ومعرفتي بالحياة قاصرين على ما يفيده المرء من الكتب، وكنت أشعر - من أجل ذلك - كأني مغرب عن الناس وأن الذي بيني وبينهم خراب لا عمار فيه.
وكنت أتصور الحياة معنى لا ألمس له حقيقة ولا أضع يدي على صور لها محسوسة، وكان فهمي للحياة وإحساسي بوقعها عن طريق النظر في جوانب نفسي، وذلك لأني اعتدت أن أرد عيني عن النظر إلى ما هو أمامي وأن أديرها في سريرتي، وكانت تجاربي هي ما تمثله الكتب لإحساسي وتحضره لذهني وتكشف لي عنه من وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم.
وعشت خير عمري لا أعرف حقيقة الفزع والهول ولا السرور واللذة وإنما أعرف ما يوصف لي من وقعها، فكان قلبي أبدا يخفق بالوهم على جناح الخيال ولا يزال يفتنه سحر العواطف والخواطر المدونة، وكنت أزهى بذلك وأخادع نفسي فيه وأقول: وما حاجتي إلى التجريب الشخصي لتتحرك في هذه العواطف؟
وهبني جربت وجربت فهل أطمع أن أجرب كل شيء؟
Shafi da ba'a sani ba
ومادام أن بي حاجة إلى الكتب لتسد لي النقص في تجاربي فمالي لا أجعل هذه الكتب معولي كله ومعتمدي في التجريب؟
إن الغرض من التجريب العاطفة والمعرفة، وليس أقدر من الكتب على إثارة تلك العواطف التي تجعل حوادث الحياة أشد تحريكا للنفس وتجعلها - أي النفس - أتم استعدادا لقبول المؤثرات على اختلاف أنواعها ودرجاتها، فبحسبي «ظاهر» التجريب الذي تهيئه لي القراءة، وسواء على كل حال أن تؤثر في المرء الحقيقة الواقعة بالذات، أو يأتي التأثير من طريق آخر كالرموز اللفظية التي تمثل صفات هذه الحقيقة وتصور وقعها.
كذلك كنت، فما أغرب ما حدث! لست أحمل الآن الكتب معي حيث ما أكون ولا أنا أغالي بقيمتها أو أستغني بها عن حقيقة التجريب الشخصي، فقد ظلت الحياة تصدمني وترجني وتدفع في وجهي وصدري حتى ردتني إليها وفتحت عيني على مظاهرها، ثم أفقت من دهشتي وأجلت بصري في نفسي وفي الدنيا ثم ذهبت أتساءل: كيف حدث هذا؟ لقد كانت قدمي ثابتة وأنا أقطع طريقي في الحياة، ولم يكن يخالجني شك في دقة علمي بالطريق وكفاية إحاطتي بطبيعته فمن أين جاءت هذه الزحاليق؟ ماذا جرى حتى رحت أتدحرج وتتلقفني الصخور؟؟
وأردت أن أعرض على ذهني ما أمدتني به الكتب من الهداية وأن أبسط تحت عيني المصور الذي رسمته لنفسي بمعونتها، فإذا الذي في رأسي من الكتب ضباب وإذا المصور تتداخل دروبه ومسالكه وتختلط حتى لا سبيل إلى التمييز بينها. وإذا «ظاهر» التجريب لا يغني عن التجريب، وتوهم الفهم ليس معناه الفهم الصحيح، وإذا بي قد شارفت الأربعين ومازلت في مبلغ علمي بالدنيا وفهمي للحياة وإدراكي لحقائقها، طفلا يمد أصابعه إلى الجمرات يحسبها لعبة أو طعاما.
وأنا الآن أعلم نفسي من جديد، وأعالج تنشئة ابني معي. كلانا طفل يتخبط ويجرب، وكل ما بيني وبينه من الفرق أن ورائي تجربة مرة لا تنفك تزجرني عن الكرة إلى مثل ما أوقع فيها، وأن ذهنه جديد لم يزحمه شيء وأن نفسه صافية لا يشوبها رنق ولا كدر؟ ووالله ما أدري وأنا أسير معه في الحياة - ويده في يدي - أينا الذي يسير بصاحبه أو أينا الذي يأخذ بيد رفيقه.
وكثيرا ما يخيل لي إذ أراه مقبلا علي في الطريق وفي يسراه حقيبته التي يحمل فيها كتبه وكراساته، كأنه يعالج أن يحل مسألة حسابية أو يتذكر حقيقة جغرافية فأصافحه وأقول له: «فيم كنت تفكر؟»
فيقول: «لا شيء» فأقول له: «ليت هذا يكون صحيحا. وماذا أبصرت في الطريق؟»
فيكرر كلمة «لا شيء» فأدعوه أن يرجع معي ويرافقني مسافة، وأحمل عنه الحقيبة تخفيفا عنه وإنصافا له، وأروح ألفته إلى أن الناس لا يحسنون السير في الطريق. وأبين له بعبارة يسهل عليه فهمها أن أكثر من نرى في الطريق من عابريه تبدو عليهم مظاهر القلق والعجلة. حتى الذين لا يدعوهم شيء إلى العجلة ولا موجب لاضطرابهم أو قلقهم، كأنما يعديهم سواهم بذلك، وهناك آخرون يجتلي المرء في وجوههم ضربا من الكسل المرذول والفتور الثقيل لا يدلان على سكون النفس ولا ينمان عن استقرار واطمئنان. فهذان طرفان متناقضان تؤدي إليهما حالة نفسية واحدة. كلا الفريقين مضطرب، ولكن واحدا يجعله اضطرابه كالذي يساق في حياته بالسياط، والآخر يفتره الاضطراب ويرخي أعصابه.
وهذا الرجل الذي يتهادى ويختال في مشيته ويدق الأرض بعصاه ولا يفتأ يرفع يسراه إلى ربطة رقبته ليثبت «الدبوس» في الظاهر وليلفتنا إلى بريق الزجاج الذي يريد أن يوهمنا أنه ماسة كريمة، والذي يتظاهر بعدم الاكتراث لأحد، لا يزال مع ذلك ينظر إلى الناس خلسة - تأمله.. ألست تحس أن تحت قناع السكون وقلة المبالاة حمى قلق تشي بها اختلاجات جفونه وشفتيه وجانبي منخريه؟ أتعلم ماذا هو؟ إنه سمسار. وهو لا يتمشى وإنما هو يتحفز! يتحفز للوثوب على فريسة.
ولست أعرف ظاهرة للمدينة الحاضرة أبرز من هذا القلق أو إذا شئت فقل من افتقار عناصرها المكونة لها، إلى السكون، فالناس يذهبون إلى المسارح ويخرجون منها، ويدخلون المدارس وينصرفون عنها. ويزاولون أعمالهم ثم يكفون - وكأنهم جميعا معجلون، وتراهم يؤثرون الركوب ويفضلون أن يخطفوا بسياراتهم، لأن الركوب أسرع من المشي، ولأن الوقت ضيق. فلماذا هو ضيق؟ يجب أن نعده واسعا غير ضيق. وأن نشعر أنفسنا هذه السعة وأن نقنع عقولنا بانتفاء الضيق لتستقر أعصابنا وتهدأ وليتيسر لنا بعد ذلك أن نجود عملنا وأن نخرجه ناضجا. إن فكرة ضيق الوقت وهم ليس إلا، وهي تؤثر في أعصابنا وتفسدها، وما على الإنسان إلا أن ينحي عن نفسه خاطر الزمن وإلا أن ينسى هذا الوقت وثق أن عمله حينئذ يكون أسره وأجود، لأن رأسه في هذه الحالة يكون خاليا من التفكير في وجوب العجلة فلا يعود يزعجه شيء، فيطرد الفكر ويستقيم وتتسق الخواطر.
Shafi da ba'a sani ba
ويتفق أحيانا أن نرى في الطريق رجلا يستوقف آخر لا لأنه يريد أن يفضي إليه بشيء ولا لأنه أوحشه - فلعله كان معه أمس أو قبل ساعات - بل لغير سبب ظاهر، ويقول أحدهما وهو يهز يد صاحبه: «كيف الحال؟» وكأنه يرجو أن يكون قد حدث شيء. فيقول الآخر: «الحمد لله» أو «لا بأس» أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وهو يشعر بأن للفراغ الذي في رأسه مشبها لما في رأس سائله. وتعلو ذلك فترة صمت وجيزة تتلاقى في خلالها العيون متكلفة الابتسام وتتضاغط في أثنائها الأكف إذا كانت لم تفترق، ثم يرسل أحدهما نفسا طويلا وينظر إلى يمينه، ويذهب صاحبه ينظر إلى الناحية الأخرى وتكون الكفان قد ارتدتا إلى الجانبين، والرأسان مشغولين بالبحث عن كلام يصلح أن يقال وإذا بأحدهما يقول فجأة، وكأنه ذكر شيئا: «أستأذن» فيقول الآخر: «تفضل» ويفترقان ليكررا هذه السخافة كلما التقيا. وقد اتفق لي أنا مثل ذلك. ولكن سوء حظي كان يطيل الوقفة حتى كان يخيل لي أن الأمر قد صار يتطلب أن يدعى «البوليس» ليفصلنا. وقد علمتني التجربة أن خير وسيلة للفكاك من هذا الأسر في وسط الطريق العام أن تلقي إلى آسرك بنكتة، ولا تجعل بالك إلى قيمة النكتة ولا تعن نفسك ببراعتها أو موافقتها فإنه يكفي أن تقول شيئا وأن تضحك ليضحك صاحبك فتخلص يدك وتستطيع بعد ذلك أن تفر.
على أن هذه العادة مغتفرة إذا لم تكن متخذة سلما إلى غرض خفي، فقد وجدت البعض يستوقفني ويمطرني وابلا من الأسئلة يشغلني بالإجابة عنها، ولاحظت في كل مرة أنه كان في أثناء تجشمي تعب الإجابة، يلقي بالنظرة تلو النظرة إلى نافذة أمامه ويحني رأسه ويستر هذا الإحناء بحركات شتى، فلما أيقنت أنه يتخذ من وجودي مسوغا لوقوفه قبالة النافذة صرت أتعمد كلما لقيته هناك أن أحاوره وأداوره حتى أواجه أنا النافذة وأتركه هو بظهره إليها، وبذلك استأثرت بالنظر دونه.
وعلى ذكر العيون والنظر أقول إني بينت لإبني أن في وسع الإنسان أن يعرف حظ من يلقاهم في الطريق، من حسن التربية والتهذيب، وذلك من طريقة نظرهم إليك أو اجتنابهم النظر. فالرجل المهذب تراه هادئ النظرة ساكنها، وهو ليس شاردها ولكن في عينه ما ينم على شخصيته وما يكفي للدلالة على قدرته على الانصراف إلى التفكير في النفس، من غير أن يمنعه ذلك من أن يلاحظ كل ما يجري أمامه. وهو لا يحدج الناس بنظره ولا يتكلف أن يتهرب من مواجهتهم. إنما يحملق في الوجوه المتنطع أو المغرور، ولا يهرب من النظر سوى الحيي أو الخبيث. ومن الناس من إذا لقيته تغيرت نظرته عما كانت قبل بضع ثوان، ولعل هذا راجع إلى فرط الشعور بالذات أو إلى توهم المرء أن نظرته السابقة تشي بما في نفسه وهو يؤثر أن يكتمه.. ومنهم من يرد على نظرتك متحديا، وهذا أيضا ينبئ بالشعور بالذات.
ومن الناس من يأبى أن يسير إلا في منتصف الطريق غير متق أن يصادم أكتاف المارة فهذا رجل لا يتحرج أن يأكل ما أمامك. ومنهم من يمشي متحككا بالبيوت مؤثرا المواضع السهلة اللينة أو الخالية، فهذا ممن يعالجون أن يسيروا في حياتهم على هذا النحو مجتنبين فرائضها المتعبة. وآخرون لا يزالون يتلوون في الطريق وقد يقف أحدهم في وجهك وهو موليك ظهره فترتد حتى لا تصطدم به فيلقيك ارتدادك المباغت على صدر من يكون سائرا خلفك فيضطرب نظام الشارع كله. فهذا على الأرجح رجل لا يبالي أن يصنع مثل ذلك في ميدان السياسة أو الاجتماع.
وثم أناس يحلو للواحد منهم إذا رأى اثنين يتحادثان في الطريق ن أن يتلكأ ويقصر خطوه ليسترق السمع فهذا امرؤ ألفت عينه ثقوب الأبواب ولا يستغرب منه أن يتنزى إلى كل سوء. وهناك الصاخب الذي يتكلم في الطريق وكأنه يخطب حشدا عظيما، فهذا الأناني المقتحم، وأخيرا هناك الذين يكلمون أنفسهم وهم لا يشعرون، ولهم مع الكلام تلويح وتشوير. وقد حدث لي أن كنت سائرا فإذا برجل يقول في وجهي: «يا حفيظ! يا مغيث!»
فبهت ولكنه مضى عني كأن لم يرني.
بحسبي أن أفتح لابني عينيه لينظر، فإذا كان في رأسه خير فأخلق به أن ينفذ إلى الأعماق.
الفصل السابع
من ذكريات عابر سبيل
كان أحد الأخوان يصحح قول الشاعر: «وسافر ففي الأسفار خمس فوائد» فيقول - بعبارة لا أستطيع أن أرويها بحروفها - إن الفوائد ثلاث فقط: البعد عن المرأة، والنوم كيفما اتفق، وتكليم الناس بلا معرفة. فأما البعد عن المرأة - أي الزوجة - فإني لم أعد أدري أهو مزية وخير أم ضرورة وعيب وشر؟ ولكن الذي أدريه أني حاولته مرة بلا لف أو مداورة، ثم عدلت عن التماسه ووطنت نفسي على اليأس منه، ورضتها على السكون إلى القرب والمودة. وتجاربي في هذا الباب تخولني أن أنصح لمن يريد أن يسافر وحده أن يجازف ويلح على زوجته أن تكون معه، فإذا أبت كان هذا هو المراد من رب العباد، وإلا فلن يصيبه إلا ما كان مكتوبا عليه. على أنه يجب أن يكون مفهوما أن المعول في هذا الأمر على أسلوب الحوار وطريقة الكلام. والزواج - كما هو معروف - من مزاياه أنه يكسب الإنسان مرونة في التعبير، وقدرة على الاحتياط، وبراعة في التحرز، وسعة في الحيلة. وإني لأذكر أني كنت في سوريا مع أسرتي منذ نحو سنتين، فذهبنا مرة إلى بيروت لنشتري أشياء نهديها إلى أهلنا ومعارفنا عند عودتنا، فرأت زوجتي معطفا من الفرو ثمينا جدا فأعجبها واشتهت أن يكون لها، ولكني نظرت إلى ثمنه فدار رأسي، وأيقنت أنا إذا اشتريناه سنضطر إلى الاستجداء والتسول، فأصابتني نوبة عصبية حادة لم ترها زوجتي قط من قبل، ففزعت ودعت أصحاب المحل أن يدلوها على طبيب بارع في الأمراض العصبية. فقد خيل إليها أن هذا الذي أصابني لابد أن يكون ضربا من الصرع أو التشنج أو لا أدري ماذا غير هذا، فحملوني إلى طبيب فرنسي قالوا لها إنه هو الإحصائي الوحيد هنا، وإنه من آيات الله ومعجزاته في طب الأمراض العصبية، فأدخلوني عليه فاتضح له من استجوابي ومما عرفه من تاريخ آبائي وأجدادي من قبلى أن أهلي - في حداثتي - خوفوني مرة بدب صناعي له فرو كثيف، وكانت صدمة الفزع الذي انتابني في صغري شديدة جدا، فأنا من ذلك الحين أضطرب جدا جدا إذا وقعت عيني على الفرو ... فسألته زوجتي التي لم تكن تعرف هذا الجانب من تاريخ حياتي الحافل بالمفاجآت - سألته عن العلاج فقال: «أوه.. لا شيء.. لا داعي للقلق.. ولكن يجب ألا يرى الفرو أبدا..» والحق أقول إنه كان طبيبا بارعا جدا، فغن مرضي العصبي لم يعاودني بعدها أبدا.. والفضل بعد الطبيب هو بلا شك لزوجتي التي حرصت أعظم الحرص على ألا أرى الفرو..
Shafi da ba'a sani ba
وأما النوم كيفما اتفق فهذا أشهد انه صحيح.. وأذكر بسرور أن قطارا سافرت فيه مرة كان غاصا بالركاب. وكانت المسافة طويلة والشقة بعيدة تستنفد الليل كله ولابد من النوم ولو كانت الجلسة مريحة لنمت وأنا قاعد، ولكني كنت كالبلحة في قفة عجوة. فحرت ماذا أصنع. ثم فتقت الضرورة لي حيلة فنحيت الحقائب عن الشبكة الممدودة لها فوق رؤوسنا ورقدت مكانها، ونمت أهنأ نوم إلى الصباح، ولو كنت ضخم الجسم لما تيسر لي ذلك فالحمد لله على الضآلة.
وأما تكليم الناس على غير معرفة فهذا هو قانون السفر، ولست تحتاج أن يعرفك أحد بأحد في رحلة، وما عليك إلا أن تبدأ من تشاء بالكلام كأنما كنت تعرفه من عهد آدم، وكل هذا لا يخلو من خطر، فقد تقع على ثقيل أو ثرثار فينغص عليك وقتك ويحرمك كل متعة يمكن أن تفوز بها وأقلها متعة الراحة وخلو البال من المنغصات؛ ولكثرة ما أصابني من ذلك صرت أكره السفر بالقطار وأوثر السفر بالسيارة؛ فإذا اضطررت إلى القطار عمدت إلى الحيلة وهي أن أضع حقيبتي في أي مكان حتى يتحرك القطار ثم أتركها وأذهب أبحث عن مكان آخر أتوسم في أهله الظرف والإيناس، وهذا يتطلب فراسة صادقة، والفراسة استعداد ولكنها تكتسب إلى حد ما بالتجربة.
ومن الفوائد المجربة في الأسفار أن يستصحب المرء معه كتابا في فن الطبخ، ولست أعني أنه قد يحتاج أن يصنع طعامه بيده وإن كان هذا محتملا، ولكني أقص ما وقع لي في هذا الباب - أو بعضه على الأصح - فقد كنت مرة في فلسطين وكنت ضيفا على صديق لي. فأصابني برد شديد من كثرة التنقل بين البلاد فوق الجبال بالسيارة في الليل وعاودني مغص الكليتين، فلم يبق بد من الرقاد والحمية وانتظار مشورة الطبيب، وإن كنت عارفا بدائي ودوائه.
ومضى يوم ثان وثالث وطلع الرابع وأنا لا آكل إلا الموصوف من الأطعمة الخفيفة المأمونة، وهذه لا طعم لها ولا لذة لآكلها، وكل طعام يفرض على المريض يكون بغيضا إليه، فاشتهت نفسي أشياء قالوا لي إنه لا سبيل إليها لأن الطبيب منع أن تقدم إلي، فاعترضت على هذا وقلت لهم إن الألم قد زال وإن الصحة قد عادت ولله الحمد، وإني أستطيع الآن أن أفعل ما أشاء وآكل ما أحب فقالوا «حتى يراك الطبيب» فقلت إن هذا طعن في ذمتي لا أقبله ولاسيما في أمر يعنيني وحدي، وأنا على كل حال أدرى من الطبيب بنفسي بل أدرى من أطباء الدنيا جميعا. وهل كان الطبيب قد أحس بالألم حين جاءني المغص.. عل عرف أني ممغوص إلا مني.. إذن انتهينا.. أنا أنبأته أني مريض ولولا ذلك لما عرف.. وأنا أيضا أنبئه أني شفيت وانه صار من حقي أن أتمتع بمزايا الصحة.. وإذا كان الطبيب قد صدقني في واحدة فيجب حتما أن تصدقوني في الثانية، فروحوا هاتوا كذا وكذا من الآكال، وكيت وكيت من الأشربات..
فضحكوا وأبوا أن يجيبوني إلى ما طلبت قبل أن يأذن لي الطبيب، فلم يسعني إلا أن أذعن للحرمان - فإني في بلد غير بلدي - ولكني طلبت أن يجيئوني بكتاب في فن الطبخ فاستغربوا وسألوني عما أنوي أن أصنع به فلم أعبأ بهم، فجاؤوني به فقلت لهم: «ألا تستطيعون أن تذهبوا عني إلى حيث تشاؤون فحسبي هذا الكتاب وكفى به أنيسا في وحدتي ومسليا لي في غربتي».
وفتحته في موضع الفهرس وانتقيت الألوان التي أشتهيها وانطلقت أقرأ بنهم. وصدقوني حين أقول إن ريقي كان يجري وإني كنت أنعم بأقوى من لذة الشره المبطان وأنا أقرأ فيه. «كفتة الدجاج» - تسيح الزبدة ويضاف الدقيق ثم اللبن بخفة مع استمرار التقليب حتى يصير المزيج في قوام القشدة، ثم يضاف الملح والبقدونس والفلفل، ثم تغلى مدة ثلاث دقائق، ويضاف لحم الدجاج ويخلط جيدا، ثم يضاف هذا فوق طبق مسطح حتى يبرد ويؤخذ من المخلوط بملعقة كبيرة ويوضع في دقيق ويعمل على هيئة كور أو أقراص أو أشكال بيضاوية وتوضع في مكان بارد حتى تتجمد تماما، ثم تتبل في فتات خبز، وتغطس في بيض مخفوق مخلوط باللبن، ثم في فتات الخبز ثانيا وتقلى في سمن ساخن جدا حتى تحمر ثم تنشف على فرخ ورق غير مصقول. تنبيه - هذه الكمية تصلح أن يعمل منها أربعة عشرة قطعة «ولكني نسيت أن أذكر الكميات والمقادير. لا بأس.. فليس هذا كلاما عن الطبخ. ولا عجب أن أذوق بالوهم والخيال مثل لذات الحقيقة فإن هذه حياتنا معشر الأدباء وما أكثر ما نترك الحقائق ونروح نجري وراء الظلال! ثم نحاول أن نعزي أنفسنا بأن الحقائق المشتهاة كثيرا ما أثبتت التجربة أنها دون ما كان متوقعا، وأن الخيال أفسح رحابا وأوسع آفاقا؛ فهو أقدر على إمتاعنا. وأن الحقيقة نفسها إنما تكون ممتعة وجميلة بفضل الخيال، ولولاه لما كان لها طعم ولا فيها متعة فعمل الخيال لابد منه للإمتاع على كل حال سواء أكنت أكلا بالفعل أم متوهما أنك تأكل؛ والفضل والمزية للخيال لا للمادة فإنها بمجردها لا شيء، وإنما تكون شيئا بما يفضيه عليها الخيال من السحر والفتنة وما يضفيه عليها ويفضيه إليها ويزينها به.
ومن الغرائب التي لا أظن أن كثيرين وقع لهم مثلها أني كنت مرة في جزيرة مع إخوان لي، فقلنا: نصيد سمكا نشويه ونأكل منه يومنا هذا، فاخترنا شر ما يضرب الماء فيه ويمعن في البر لأنا قدرنا أن يكثر فيه السمك، وجئنا بديدان اتخذناها طعاما وجلسنا ننتظر أن يخدع السمك، فمضت ساعة وأخرى ونحن لا نظفر بشيء، فنفد صبر أحدنا فتركنا وغاب شيئا ثم عاد بفونوغراف أداره وهو يقول مازحا: لعل السمك يحب الموسيقى.. من يدري. أليس له حاسة فنية؟» فسرنا أنا وجدنا شيئا نتسلى به في هذه الجلسة المملة. وإذا بالسنارة التي كانت معي تضطرب وتنجذب إلى الماء، فشددتها فخرجت سمكة حسنة، فصحت بصاحبي (أعد! أعد. أعني للسمك فما جاء إلا على الموسيقى) كنت أنا أيضا أمزح، ولكنا ما لبثنا أن وجدنا هذا حقيقة، فكان السمك يكثر ويشتد إقباله على الناحية التي نكون فيها إذا أدرنا الفونوغراف، ويقل ويذهب عنا إذا سكت ولو كانت معنا مجموعة وافية من الاسطوانات لا استطعت أن أجرب أي الأدوات أحب إلى أي أنواع السمك. ولعرفت أي الأسماك تحب التانجو وأيها يؤثر الفوكس تروت وهكذا. وقد اتفق وأنا في العراق أن كنا مدعوين إلى الغداء في بيت على نهر دجلة - والعراقيون يسمون كل مسكن على النهر قصرا أو سراي ولو كان كوخا - وكان بيت صديقنا هذا ضخما فخما وفيه جهاز للراديو، وكانت الساعة الأولى مساء - وهي بحساب الوقت في مصر الساعة الثانية عشرة - فخطر لي أن أجرب تأثير الموسيقى في السمك، فرجوت من صديقنا أن يفتح الراديو وأن يسمح لنا بالانحدار إلى الحديقة، وهي متصلة بالنهر، واتفق أنه كان مغرما بالصيد ولكنا لم نسمع من مصر إلا شريطا مسجلا لأحد المغنيين، ويظهر أن السمك لا يحب المعاد أو لعله لم يعجبه الغناء وإن كان يطربنا نحن الآدميين فقلت أعود في المساء وأرى. غير أني لم أستطع أن أعود إليه قبل الساعة التاسعة مساء - أي الثامنة بحساب الوقت في مصر، واتفق أن كان الذي يذاع حديثا فنفرت الأسماك جميعها نفورا ظاهرا. وفي اعتقادي أن محطة الإذاعة تستطيع أن تساعد على ترقية المصايد المصرية - فتخدم السمك والناس - إذا هي عنيت بأن تدرس طبائع الأسماك وأمزجتها وما يوافقها من ضروب الموسيقى، وفي وسعها بالإذاعة المتخيرة أن تنظم صيد السمك، وأن تجعل لكل نوع منع وقتا معينا. فإذا كان المراد مثلا صيد ما يسمى البوري وما يماثله أذاعت للصيادين بعض الأغاني الشجية التي تفتر النفس. وإذا كان المطلوب صيد ثعابين الماء أو حياته أسمعتها أغنية (هاتشي بشي) وهكذا فيكثر المحصول بلا عناء وينتظم الأمر كله. ويعرف الناس ماذا يستطيعون أن يأكلوا من السمك في كل يوم بمجرد الاطلاع على برنامج الإذاعة ومن غير خوف من أن يغشهم التاجر ويدخل عليهم صنفا باسم صنف آخر.
والحجاز وانجلترا هما - فيما أعرف - البلدان الوحيدان اللذان تستطيع فيهما أن تترك حقائبك أو أشياءك في الطريق فلا تمسها يد غير يدك ولا يسطو عليها سارق فأما في الحجاز فذلك خوفا من قطع يد السارق فقد سقطت مني عصا في الطريق بين جدة ومكة فتعطل السير من الجانبين وانقطع المرور حتى اهتدى الشرطة إلى أني صاحبها فخاطبوني في التليفون وأنا في الشمسية - قرب مكة - فرجوت منهم أن يردوا العصا إلى جدة مخافة أن ترتكب إثما آخر فيأخذوني بذنبها وأما في انجلترا فقد تركت حقائبي ساعة وصلت إلى لندن على الرصيف أمام البيت الذي اختاره صديق لي لأنزل فيه وذهبت معه - أي مع الصديق - إلى بيته حيث اغتسلت وحلقت ذقني وشربت القهوة واسترحت ثم عدت إلى الحقائب بعد ساعتين فوجدتها في مكانها كما كانت. وأغرب من ذلك أني راهنت صديقي هذا أن أقضي يوما في لندن لا أتكلم فيه إلا اللغة العربية فخاف أن نتورط فيما لا يحمد واقترح أن نقتصر على السعي للوصول إلى وستمنستر من غير أن ننطق كلمة بغير لغتنا. فوافقت وتوكلنا على الله وخرجنا من البيت - هو وزوجته وأنا - وكنا نعرف الطريق ولكنا تجاهلناه، فراقني منظر رجل واقف بجانب حانة ينتظر على الأرجح وقت السماح ببيع الخمر - فإن لذلك وقته المعين حوالي الظهر وفي المساء - فدنوت منه وحييته التحية المصرية - أي برفع يدي ثم مدها إلى يده لمصافحته وسألته - بالعربية طبعا - عن وستمنستر، وتعمدت أن أحرفها تحريفا شديدا فنطقتها «وستمنصته»، وأقول الحق إن الرجل فزع واعتدل بعد الميل ونسي الخمر التي يحلم بها وينتظر أن يسعد باحتسائها، فأعدت السؤال برفق فلم يفهم طبعا على الرغم من صدق رغبته في ذلك، فلما يئس قال تعالى معي، وقادني إلى الشرطي وهو شيء ضخم جدا وأنا شيء ضئيل جدا أو كما يقول ابن الرومي:
أنا من خف واستدق فلا يث
قل أرضا ولا يسد فضاء
Shafi da ba'a sani ba
وقال إن هذا الغريب يبدو لي أنه يسأل عن شيء لا أستطيع أن أتبينه، فمال على العملاق الإنجليزي وقال يستحثني: نعم؟! فسألته عن «وستمنصته» فجعل يهز رأسه ويستعيدني وأنا أهز له رأسي أيضا كأني غير فاهم وألح في السؤال عن «وستمنصته» فأحس أن في الكلمة شيئا يمكن أن يهديه إلى مرادي وقال: «قل هذا مرة أخرى» ولكني تغابيت وجعلت أتلفت ثم قلقت وخفت، فقد رأيت صديقي وزوجته قد تركاني وذهبا فوقفا على الرصيف.
وليت هذا كل ما حدث إذن لما كان فيه بأس ولكنهما كانا يضحكان حتى خيل إلي أنهما سيقعان على الأرض. وكان ضحكهما عال فخفت أن يفطن إلى أن في الأمر مزاحا فيستثقله أو يعده سخرية منه فتسوء العاقبة، فخففت التحريف فلم يلبث أن فطن إلى مرادي فاستوقفني حتى مرت سيارة أمنيبوس معينة، فأمرني أن أصعد وتبعني صديقي، وأمر الكمساري أن يأخذ منا الأجر إلى وستمنستر وأن يحرص على أن ينزلنا هناك فأخرجت نقودا ومددت بها يدي إلى الكمساري ليأخذ منها ما يشاء تظاهرا بالجهل باللغة الإنجليزية . وهكذا كسبت الرهان.
وأعود إلى فلسطين فأقول أن في عكة مسجدا كبيرا وقد بناه - على ما أظن - أحمد الجزار باشا الوالي التركي في ذلك الزمان وهو رجل مشهور فلا أحتاج أن أتحدث عنه ولكني أقول إني وجدت مكتوبا على باب المسجد من الداخل هذا البيت العجيب في مدح الجزار باشا: «ذاك الوزير الشهم أحمد من غدا
جزر أعناق العباد كما يجب»
وأظن أن هذا البيت يستحق التدوين ...
وفي بغداد دعانا شيخ عربي إلى أكلة على الطريقة البدوية، فاستحسنا ذلك جدا، وآثرناها على وليمة أخرى؛ فلما ذهبنا ألفينا السماط ممدودا.. وأصف ما رأيت فأقول إن السجادة غطيت بملاءة بيضاء وضع عليها جفنة ضخمة فوقها صينية عظيمة لا أدري من أين جاءوا بها وقالوا إن عندهم ما هو أكبر منها بكثير، وفوق الصينية طشت هائل مليء أرزا مخلوطا بالزبيب واللوز والفستق وعلى الأرز خروف عظيم مشوي - هذا في الوسط، وحول الجفنة وعلى مستدارها أطباق عديدة لا يأخذها الحصر، فيها أنواع شتى من الطعام ... كالدجاج والخضر والعصيدة والولائق المختلفة، وهي من دقيق وسمن ولبن، وقد عرفوا أننا لن نستطيع مجاراتهم، فأعدوا لنا أطباقا وملاعق وسكاكين وأشواكا. فجعلنا نحن نأكل على طريقتنا، أي أن نأخذ ما نشتهي في أطباقنا. أما هم فأكلوا على الطريقة البدوية الصرف، وهي أن يتناول الواحد قبضة من الأرز ويطوي عليها أصابعه ويضغطها حتى تصير كالكفتة؛ وبعد أن يفتلها على هذا النحو يقذف بها في فمه. وهذا يبدو هينا سهلا، ولكن المصيبة أن الطعام يكون كالنار فيحرق الكف. فكيف بالفم واللسان؟ أما اللحم فيهبر منه ما تستطيع أصابعه أن تقطعه أو تمزقه ويرمي به في فمه وما يرمي في الحقيقة إلا جمرا مضطرما، وعلى ذكر الجمر أقول إن للعرب - أو على الأصح للبدو - طريقة عجيبة في علاج الجروح وقد جربتها فأنا أتكلم عن خبرة ويقين، ذلك أن راحتي أصابتها النار، فجعلت أوحوح وأنفخ فيها ولا أدري ماذا أصنع لتسكين الألم على الأقل، فصاح أحد النجديين الذين كانوا حاضرين هناك فى الحجاز: «ملح ... ملح..» فجاءوه بقليل من الملح الخشن فمد يده إلي وقال «خذ قبضة» «فتناولت منه بيدي السليمة وأنا أضحك في سري وأقول لعله يظن أن الحروق يفيد فيها السحر، فصاح بي: «بيدك المحروقة»، ففهمت وأخذت قبضة بيدي المحروقة فقال: «اطو عليها أصابعك» ففعلت فقال: «ابق هكذا» فظللت قابضا على الملح الخشن دقائق ثم نظر في وجهي وقال: «استرحت الآن.. زال الألم..» ففتحت كفي وأنا أبتسم ولا أكاد أصدق، فما كنت أشعر بأي ألم ولا رأيت أثرا للحرق! فما قول الأطباء في هذا وليكن رأيهم ما يكون فإني أنا لا أنوي أن أداوي الحروق التي تصيبني - وعسى ألا يصيبني شيء - إلا بالملح..
وفي لبنان أنقذتني فتاة لا أعرفها من هلاك محقق، وهذه الفتاة من أعاجيب الخلق، فإن لعينها نظرة تنيم الحية - كما عرفت بالتجربة المرعبة - وأنا قوي النظرة حادها وفي وسعي أن أحدق في قرص الشمس، ولكني لم أستطع أن أحدق في وجه هذه الفتاة العجيبة. وكنت كلما وقعت عيني عليها لا أزال أطرف ثم لا أجد بدا من تحويل عيني إلى ناحية أخرى.
وكنا قد لقيناها في الصباح ونحن نصعد في جبل في رأسه ينبوع أردت أن أرى الموضع الذي يتفجر منه ماؤه. وكانت تحمل جرة فيها من ماء هذه العين، وكنا نخاف أن نضل، فسألناها عن الطريق واستملحناها فاستسقيناها وأردت أن أنقدها بضعة قروش فأبت، وأنبأتها أني أريد أن أرى مفجر العين فنهتني عن ذلك. فسألتها عن السبب فقالت وهي تهز كتفيها. «هيك» ولم تزد ولما ودعناها عادت فحذرتني، فضحكت وشكرتها وأبيت إلا أن أصعد إلى حيث ينبثق الماء، وصعدت وحدي فقد رأى إخواني وعورة الطريق فانصرفوا عن مرافقتي، فوجدت كهفا على بابه عشب ونبات طويل ورأيت الماء يخرج من الكهف، فقلت أدخل لأرى فنحيت النبات وإذا بي أرى عينين لامعتين فظيعتين ثابتتين تحدقان في عيني وكانت نظرتهما من القوة بحيث لم أستطع أن أحول وجهي، وزاد فظاعة النظرة وعمق تأثيرها أن العين لا تطرف والجفون لا تتحرك وأن البريق شديد جدا في ظلام الغار. وكانت العينان ترتفعان عن الأرض شيئا فشيئا وتدنوان مني على مهل وأنا أنظر إليهما ويداي إلى جانبي وقد جمدت في مكاني وشعرت بالخدر في أعضائي. وكنت قد أدركت أن هذه حية وأنها من النوع الوثاب الذي تتحرك عيناه ولا تطرف جفونه. ومن هنا عمق تأثير نظرتها، ولم يخالجني شك في أني مقضي علي بالهلاك. وكيف أنجو وأن مسمر في مكاني لا أستطيع حراكا؟ ولو وسعني أن أتحرك لوثبت الحية علي وأنشبت في أنيابها قبل أن أدور على عقبي. وكانت نفسي تنازعني أن أصرخ مستنجدا ولكن شفتي كانتا مطبقتين لا تنفرجان. وإذا بالعينين المرعبتين تراجعان في الظلام وتهبطان إلى الأرض بعد أن كانتا ترتفعان عنها وتزحفان إلي، وأحسست أن نظرتهما تفتر وأن تأثيرهما في نفسي صار أقل وأصأل، وشعرت بأني صرت أملك أن أحرك أعضائي بعد طول الجمود، فتلفت فإذا الفتاة التي لقيناها في الصباح تحدق في عيني الحية بأقوى من نظرة الحية. ويكفي أنها ردتها بعينها. واختفت الحية فتشهدت وملت على الفتاة لأشكرها بقدر ما كان يسعني أن أفعل في مثل هذه الحالة. فلامتني على مخالفتها وذكرتني أنها حذرتني وقالت إنها أشفقت علي من المصير الذي كان لا مفر منه فأدركتني قبل أن أقضي نحبي فسكت ولم أقل شيئا.. وماذا أقول؟
الفصل الثامن
حي ولا كالأحياء
Shafi da ba'a sani ba