يدهشك في قطرات هذا الرجل أنها بجملتها في مستوى واحد، فلا تقع على قطرة منها تنحط في حلبة الجمال عن أختها، ولقد جبت جيوب «قطرات الندى» وقطعت المسافة التي تبتدئ ب «كيف أكتب؟» وتنتهي ب «إنني لأتساءل: في ذمة من ذهب الذين قضوا في سبيل الجهل قبل أن بلغ العلم شأوه الحالي؟» فاختلط علي؛ أية فكرة أنضج من الأخرى؟، فكأن هذه الروح قد طبعت من يوم مدرجها على عنصر سليم، وكأن الخيال السامي آلى على نفسه ألا يحول معها عن عهده ساعة واحدة.
و«راجي الراعي» محام حساس، ينظر إلى القضاء من الوجهة الإنسانية، وكثيرا ما يمزج الشريعة بالخيال؛ ليوفق بين اصطلاحات الناس وضمائرهم.
قال: «يجب أن يكون القاضي مع رصانته ممثلا، وتمثيله قائم بأن يكون له شخصيتان: الشخصية التي يظهر بها بين الناس، والشخصية التي يتجلى بها على منصة القضاء.»
وقال: «ولا يعيب مهن المحاماة والطب والهندسة إلا أمر واحد، وهو أنها لا تبني بناءها إلا على الأنقاض؛ المحامي يطلب قتيلا أو جريحا، والطبيب يطلب عليلا، والمهندس يطلب جسرا يتداعى.»
إذن ف «راجي الراعي» حكيم وشاعر حتى في مهنته، ولو قدر له أن يطلي القوانين بصباغ الشاعرية أو أن يلقحها بلقاح الحكمة لاستبدل بشرائع البشر «سفر سليمان» وبقوانينهم «إلياذة هوميروس».
ستسقط الأجيال رعاية الكثيرين من أدباء هذا العصر، وتظل فكرة «راجي الراعي» - على حد قول «البحتري» - أبقى على الزمن الباقي من الزمن.
إلياس فياض
تردى من رأس الكهولة إلى الشيخوخة، فهو في الستين أو أعلى سنة منها. دخل جسده في وقب، إلا أن بريقا من كوكب الشباب ما يزال يعصم مقلتيه من ظلمة العمر، وقد يكون هذا البريق صبغة الشاعرية التي لم يبرح لها في قلبه مشعلها الحي.
تدلى إلى كرسي في الوزارة اللبنانية وانحط على خشبة في مجلس النواب، ولكنه لم يرتفع بهما عن مستوى الشاعر «إلياس فياض»، فهو من المحافظين على مقامهم الحقيقي، لا يحادد فطرته أو يتآمر على تلثيمها بلثام المراكز شأن الذين لا يحفظون في نفوسهم حرمة لنفوسهم.
إن الشاعر الصادق ليتغنى بمقامه عن أي مقام، ويعلم حق العلم أنه ما من قمة في العالم ترتفع على القمة التي بوأته السماء ذروتها.
Shafi da ba'a sani ba