فأشارت إليه بالجلوس وقالت: إن قصري معد منذ أعوام لقبول الغرباء والتائهين، ولكل من يلتجئ إليه.
فقبل يدها باحترام، ثم عاد فقال: إنني ذاهب يا سيدتي إلى قرية مانوار لزيارة صديق يدعى البارون دي مادي، وقد ضللت الطريق.
فظهرت على وجهها علائم البشاشة، وقالت: أنت صديق البارون دي مادي؟ إنه ابن أختي وأنت الآن في منزلك. - لم أكن أعلم ذلك من قبل، وإنني أشكرك في كل حال، وأرجو أن تسمحي أن أتسمى لديك، فإني أيرلندي الأصل وأدعى السير فيليام.
فانحنت بدورها.
فقال أندريا بلهجة محزنة: إنني أضرب الأرض وأطوف الليل والنهار جائلا دون غاية ومن غير قصد. - عجبا! كيف تجول من غير قصد؟ - وا أسفاه! نعم يا سيدتي، إنني أخترق الهضاب والبطاح وأجوب الفلوات، وأتجول في البلاد كقانط لا يقبل العزاء، أو كمجرم يفر من القضاة وما أنا مجرم، بل أنا قانط لأني محب غير محبوب ولا يمكن أن أحب، وقد كنت منذ ساعتين تائها في هذه البراري ليس لي وجهة غير منزل صديقي البارون، وأنا أظنني بعيدا عمن أحبتها نفسي وهامت بها روحي، ولكني عدت فوجدت تلك الضالة المنشودة، فلم تكن رؤياها إلا ليهيج مكامن أشجاني. - كيف رأيت التي تحبها في هذه القرية؟ - نعم، وعندما رأيتها هربت منها، فلكزت بطن الجواد وأنا لا أعلم أين أسير ولا أصغي لصوت قلبي المنكود، فسار بي الجواد يسابق الرياح إلى أن جن الظلام، وسلك سواء السبيل، ثم وقف ذلك الجواد الكريم أمام هذا المنزل الكريم، فدلني بأنه أعقل مني، وأنا لا أعلم إذا كنت بعيدا عن قرية صديقي البارون أو قريبا منها، فالتجأت إلى هذا المنزل إلى أن أهتدي إلى وجهتي، وأنا أسألك صفحا وألتمس منك عفوا. - كفى يا سيدي لا تعتذر، فإنني أشكر العناية التي أضلتك الطريق، وأرسلت إلي هذا الضيف النبيل.
فانحنى أندريا وقبل يدها ثانية باحترام، ثم دار بينهما الحديث الآتي:
قالت: ألا تبالغ في حديث غرامك؟ - كلا يا سيدتي، فإن حبي لا أصفه إذ لست أنصفه، ولا أعده إذ لست أحده، وليس هو حب بل هو جنون بل هو داء قاتل لا يعمل فيه دواء ولا تنفذ فيه حيل الأطباء. - ولكن ألا يمكن لتلك المرأة أن تحبك؟ - ليس لي ذرة من الأمل. - إذن هي من غير قلب. - إنها من أشد الناس شعورا، وأعظمهن تأثيرا، وقد اجتمعت بها كل الصفات التي تجعل المرأة تعبد عبادة لا تحب حبا.
فتبسمت تبسما خفيفا، ثم قالت: أهي متزوجة؟ - كلا، فهي عذراء. - إذن أنت متزوج؟ - كلا يا سيدتي، فإني لا أزال عازبا، ولي من العمر ثمانية وعشرون عاما، ومن المال ما يقدر بالملايين. - وما يمنعك عن الاقتران بها؟
فأجابها بصوت نفذ إلى أعماق قلبها: إنها تحب سواي. - إن حديثك بمنتهى الغرابة، فإني منذ أربعين عاما في هذه القرية، وليس بها الآن من العذارى غير فتاتين؛ إحداهما السيدة ب. والثانية السيدة ر. ولا بد أن تكون إحداهما التي صادفتها بهذه الضواحي. - كلا يا سيدتي، فإني لا أعرف هاتين الصبيتين. - إذن أين لقيتها، وهل كانت في مركبة أم كانت تسير على قدميها؟ - كانت تمشي. - أكانت وحدها؟ - كلا، بل كانت مع أمها تسيران في طريق سانت مالو. - إلهي ماذا أسمع، أليست تدعى بهرمين؟
فوضع يده على قلبه وتنهد طويلا، ثم قال: أواه! نعم هي بعينها. - إنها نسيبة لي، وهي ابنة بيرابو رئيس قلم في الوزارة الخارجية.
Shafi da ba'a sani ba