وكانت علائم القنوط بادية في وجهه، فلما رآه روكامبول ذعر وقال له: ماذا دهاك؟ - لقد فشلت وأنا قادم فارا من الموت، ولم يكن بيني وبينه إلا لحظة.
ثم أخبره بجميع ما كان من خسارته للمليونين بعد أن وصلا إلى يده، وكيف أن فرناند قد نجا من الموت، وليون سلم من تبعة القتل، إلى غير ذلك مما عرفه القراء، فأجفل روكامبول وقال له: ألعل باكارا قد عرفت من أنت؟ - لا أعلم، فإن هذه المرأة أصبحت لدي سرا من الأسرار، والذي أراه أن جميع مساعينا ستخفق بسببها إذا لم تسرع إلى إهلاكها، فإنها تتصدى لنا في كل سبيل، وما راعني غير إنقاذها لفرناند.
فهز روكامبول رأسه وقال: أراك تأسف لنجاة فرناند فوق أسفك لفقد ملايينه. - هو الحق ما تقول، إني أكرهه كرها شديدا لا أحفل بعده بالملايين. - إنك رئيس جمعيتنا، فلا حق لي أن أعترضك في أمر، ولكني لا أجد بدا من القول إنك قد تماديت في الرغبة بالانتقام، حتى إنك بت تؤثره على مصلحتنا، ولا أنكر أن الانتقام مسرة الآلهة، غير أن الآلهة من أهل الخلود ولديهم فسحة من الأجل يستطيعون معها بلوغ الانتقام وغيره من أغراض النفوس، خلافا للإنسان، فإن مجال العمر لديه أقصر من أن يصرفه لغرض واحد، ولقد خلقت كونتا وربيت في أكناف النعمة، فلم تعد تكثرت للمال، أما أنا فلا أكتمك أن اسمي ولقبي عارية، وأني لا أخدمك وأعرض نفسي للأخطار إلا كي أظفر بمغنم أعيش بعده آمنا شر الفقر ونكد الأيام. ولكننا لا نكاد نظفر بغنيمة حتى يعرض لنا انتقامك فنخيب فيها، مثال ذلك ما جرى مع فرناند، فإنك لو لم تدخل ليون في روايته وتشركه في حب الفيروزة لما تنبهت لنا باكارا.
وكان أندريا يصغي إليه حتى أتم حديثه فقال له ببرود: لقد طالما قلت لك إنك لا تزال صبيا لا تدرك شيئا من خفايا الصناعة، ولا تصلح إلا أن تكون آلة صماء.
فكبر هذا القول على روكامبول وقال: كيف ذلك؟ - إنك لو تدبرت الأمر لعلمت أن جميع ما دبرته من المكائد لم يكن الغرض منه إلا المال أولا، ثم الانتقام ثانيا. أضرب لك مثالا على ذلك نفس حادثة فرناند، فإننا لا نستطيع سلبه المليونين إلا بتزوير الحوالات المزورة التي لا يمكن قبضها وهو في قيد الحياة لئلا يفتضح أمرها، وإذا كنت أنا وأنت لا نجرؤ على قتله، فلم أجد بدا من إغواء مزاحم له في غرامه على هذا القتل، أفأكون مخطئا إذا وضعت الخنجر بيد ليون وجمعت بين المال والانتقام؟ ثم إنك لو تمعنت قليلا لوجدت أننا نمثل الآن ثلاثة أدوار يبدو لك من بعضها ظواهر الانتقام المحض، أما الغرض منها في الحقيقة فهو المال؛ أما الأول فهو دور فرناند، وقد مضى البرهان عليه، وأما الثاني فهو دور الفتاة الهندية وهو مالي بحت، وأما الثالث فهو دور أخي أرمان، فإني لا أريد قتله والزواج بأرملته لمجرد الانتقام والشغف بامرأته، بل لأستأثر بملايينه من بعده. والآن فإني أرجو أن تكتفي بما ذكرته لك من الأدلة، ولنعد إلى حديث الأشغال.
فأطرق روكامبول واجما وقال: ليكن ما تريد. - لنبدأ بباكارا، فإني أصبحت أخافها، وأرى أنه لم يعد بد من قتلها. - لنقتلها، ولكن كيف تريد أن يكون هذا القتل بالخنجر أم بالخنق؟ - لا هذا ولا ذاك، إذ لا سبيل لنا إليها، فإن جميع خدمها مخلصون لها، وفوق ذلك فإن قتلها وقتل المركيزة ينبه أنظار الشرع إلينا، بل إننا نقتلها بالسم الذي أحضرناه من البلاد الأميركية، وهو سم غريب لا نعلم من خواصه سوى أنه يميت كسواه من السموم، ولكنه يقتل بالشم وباللمس وبالذوق، ومن غرائب أمره أنه إذا شربه المرء أو شمه أو لمسه تحدث له على الفور نشأة كنشأة السكر، وينطلق لسانه بمكنونات فؤاده، فلا يكتم سرا من أسراره، ثم يفاجئه الموت العاجل دون أن تبدو عليه آثار التسمم. - إنه فكر حسن، ولكن كيف السبيل إلى تسميم باكارا به، وليس لنا اتصال بها؟ - بواسطة شاروبيم، ألم تقل لي أنه يذهب إليها في كل ليلة؟ - هو ذاك، إن شاروبيم لا يروق له قتلها؛ لأنه يخسر الرهان بموتها وما يطمع به من كسب الرهان. - لكننا نضع في يده هذا السم دون أن يعلم ما يحمل، وذلك أنك تلبس في يديك قفازين من الجلد الثخين، وتضع على وجهك حجابا من زجاج كي لا تلمس السم ولا تشمه، ثم تأخذ قطرة من هذا السم وتضعها في زجاجة من العطر الفاخر، وبعد أن تختمها تدفعها إلى شاروبيم وتقول له: خذ هذه الزجاجة وأهدها إلى باكارا، فإنها إذا تنشقت رائحتها المنعشة هاجت فيها عواطف الحنان وبلغت من حبها لك ما تريد، فإن لهذا العطر خاصة في إثارة العواطف النفسانية يدفعها إلى الحنو.
فأظهر روكامبول سروره وقال: إنها خير طريقة للانتقام من باكارا والاطلاع على أسرارها. - سأرسل لك السم بعد ساعة، والآن فأصغ إلي كي أخبرك بما يجب صنعه بشأن الهندية.
وخلا به فاختط له خطة هائلة سنقف على تفاصيلها فيما سيجيء.
44
وفي اليوم التالي بينما كان شاروبيم مقيما في منزله، وردت عليه رسالة مكتوبة بخط نسائي فما شكك أنها من باكارا، وفتحها فإذا هي تدعوه إلى الحضور إلى منزلها عند منتصف الليل، غير أنها لم توقع على الرسالة، فلم يكترث لذلك وجعل يبني صروح الآمال ويعلل نفسه بكسب الرهان وقبض النصف مليون، وفيما هو على ذلك إذ دخل عليه روكامبول وقال: أبشر فسنظفر بالخمسة ملايين وتأخذ النصيب الأوفر. - كيف ذلك؟ - اجلس على مائدة الكتابة، واكتب ما أمليه عليك إلى المركيزة.
Shafi da ba'a sani ba