246

Rocambole

الإرث الخفي: روكامبول (الجزء الأول)

Nau'ikan

فأجابه الشحاذ بصوت مختنق: من هو أندريا ... إنه مات ولا أعرفه، وأنا أدعى جيروم الشحاذ. وقد نطق بهذه الكلمات بصوت يتلجلج، وحاول الإفلات ثانية من أيدي الخادم، فخانته قواه وسقط أرضا مغميا عليه، وقد صبغت هيئته باصفرار الموت.

فنسي أرمان جميع ما ارتكبه أخوه من الذنوب، ولم يذكر غير شيء واحد، وهو أن هذا الرجل البائس أخوه، وسرت هذه العاطفة الشريفة نفسها إلى قلب امرأته؛ فأمرت وأمر الخادمين أن يحملاه إلى المركبة، فلما نقلاه إليها أمر السائق أن يذهب مسرعا إلى باريس.

ولم يفق أندريا من إغمائه الطويل إلا وهو مسجى فوق سرير في غرفة أخيه، وحوله الطبيب وجميع من في المنزل، فدنا أرمان منه وقال له: طب نفسا ، إنك الآن عندي، أي في بيتك وبيت أخيك. فنظر إليه أندريا نظرة المنذعر، ثم قال له: كلا لست بأخيك، بل أنا رجل متشرد لا مأوى له ولا زاد، بل أنا رجل شقي ينتقم مني الله بعدل لفرط ما أسأت إلى الله وإلى الناس، بل أنا ذلك المذنب الأثيم التائه في بوادي الندامة يلتمس الغفران، ويقتله تقريع ضميره مرارا كل يوم.

وصاح أرمان صيحة فرح وقال: وا فرحتاه! إنك رجعت عن غرورك، وثبت إلى رشدك؛ فأسرع إلى أحضان أخيك، واعلم أن أمنا واحدة، وقد حملتنا في بطن واحد.

فقال أندريا بصوت أجش: أنسيت الذي قتل هذه الأم؟! ثم تنهد تنهد القانط وسأله: ألا تعدني يا أخي بإطلاق سراحي حين أثوب إلى العافية فأسير في طريقي. إن قطعة من الخبز وكأسا من الماء يكفيان، ولا يحتاج جيروم الشحاذ إلى أكثر من هذا.

وأشفق أرمان عليه، وقال: ما أصابك؟ وما هذا الشقاء الذي بلغت إليه؟ - إنه شقاء اختيار لا شقاء اضطرار، لقد مثلت لي ذنوبي بشكل رائع هائل فندمت ولم أجد بدا من التكفير عن تلك الذنوب، وذلك أنك أعطيتني حين مبارحتي باريس مائتي ألف فرنك، فما أنفقت منها فلسا، ولا تزال وديعة في مصارف نيويورك ليوزع رباها بأمري على المستشفيات؛ لأني لست في حاجة إلى شيء، وقد حتمت على نفسي أن أطوف الأرض، وأمر بالناس متذللا مستجديا؛ فلا آكل غير فضلات خبز المحسنين، ولا أبيت إلا على الطرق، فأفترش الأرض وألتحف السماء، وعسى أن يغفر الله لي بعد هذا التكفير، إنه لغفور رحيم.

فبرقت أسرة أرمان من الفرح باهتداء أخيه، وقال له: لقد كفى ما كفرت به، وأنا أضمن لك عفو الله، وأغفر لك جميع ما أسأت به إلي. ثم طوقه بذراعيه وقال له: كلا، إنك تعيش في منزلي كما يعيش الأخوان، ابق أيها الأخ الحبيب بيننا، إنك ستكون سعيدا مع أخيك وامرأة أخيك وابن أخيك.

2

مضى على ذلك شهران تعافى في خلالها أندريا، وكان لا يزال مقيما في منزل أخيه، ولكنه كان يتقشف تقشف الزاهدين أمام أخيه، ويجلد نفسه بالسياط، لا يطالع غير الكتب المقدسة، ويشتغل النهار كله في محل تجاري، فيعطي جميع ما يكسبه لامرأة أخيه كي توزعه على الفقراء، ولا ينام في الليالي الباردة إلا على الأرض، وهو يجري جميع ذلك دون أن يدع أحدا في المنزل يقف على ما يصنع بنفسه لشدة مبالغته بالتكتم في الظاهر، غير أن أخاه أرمان كان يراقبه مراقبة شديدة فيقف على جميع ما يصنعه، ويخبر امرأته بما يراه، فكانت تعجب بندامته إعجابا شديدا، حتى باتت تحسبه من الأبرار الصالحين وتشفق عليه إشفاق أخيه، وطالما طلبت إلى زوجها أن يلح عليه ويكرهه على تغيير خطته والإشفاق على نفسه، فكان يظهر لها عجزه عن إرجاعه، حتى وثق الزوجان أن حياته لا تطول.

وفيما هما يتباحثان ليلة في شأنه، قال أرمان لامرأته: لقد خطر لي رأي أرجو أن أتمكن به من إنقاذ حياة هذا الأخ التائب. - وما عسى أن يكون هذا الرأي؟ - تعلمين أني حين سفري وإياك إلى إيطاليا عهدت إلى أصدقائنا فرناند روشي، وليون رولاند والأخت لويزا أن ينوبوا عني بإغاثة البائسين، ودفع نكبات الفقر عن أولئك العمال والعاملات الذين تصدهم المروءة عن الالتماس وارتكاب المحرمات، ولا يجدون من رواتبهم القليلة ما يردون مكائد الدهر ويدفعون به غدر الزمان، أولئك هم الفقراء والفقيرات، وليس الفقير ابن السبيل الملتمس ما بأيدي الناس. - أعلم جميع هذا. - ولقد وفى أولئك الأصدقاء بجميع ما عهدت به إليهم، فوقوا كثيرات من البنات غوائل السقوط، وأنقذوا كثيرا من الفتيان من مخالب اليأس، فجرى ذلك مشروع الخير في مجراه، ولكن مشروع العدالة لم ينفذ بعد. - ماذا تريد بهذا القول؟ - أصغي إلي، لقد التقى منذ عشرة أعوام رجلان في مرتفع يشرف على باريس، فأشار أحد الرجلين بأصبعه إلى تلك العاصمة وجعل يقول: «يا مدينة باريس العظمى، ويا ملكة العواصم، بك اجتمع النعيم والهناء، وبساحتك استقر البؤس والشقاء، يا بابل القديمة إن الذنوب فيك تحثك بالفضائل، وأصوات الضحك تقترن بأنات البكاء، وأغاني الحب تمتزج بدموع اليأس، والقاتل السفاك يمشي على الأرض التي يمشي عليها الورع الزاهد، وقد عجزت شريعتك عن معاقبة المجرمين، وعجز أولو البر فيك عن إغاثة البائسين، فما عوقب مسيء، ولا كوفئ محسن، ومن لك برجل موسر شريف يغل يد الظالم، ويجتر قلب البائس، ويرثي لدمع الأرملة، ويحن لشقاء اليتيم.»

Shafi da ba'a sani ba