في برشلونة كان الربيع هو مهرجان الحب، جاءت أناجيل إلى الفتاة في صباح مشرق وقالت: هنا رجل يحبك اسمه جوردي، رآك وأنت تمشين على الشاطئ، أتؤمنين بالحب من أول نظرة؟ قالت الفتاة: الحب ليس له قانون عام، لكل قصة قانونها، ولكل رواية أسلوبها الخاص. وقالت أناجيل: جوردي شاب من عمرك، يحاول الكتابة مثلك دون جدوى، يدق الطبلة في الرامبلا أمام المطاعم ويغني، تتطلع إليه عيون النساء، يجذبهن الفن والفقر، كلاهما ساحر في عيد الحب. - وما هو عيد الحب يا أناجيل؟
هو عيد سان جوردي، كان شابا فقيرا حالما أنقذ الأميرة الجميلة من الغول، أو المارد المتوحش، الذي أحب الأميرة وأراد افتراسها، لكن الشاب انتصر عليه، انتزع منه الأميرة، حملها فوق حصانه الأبيض، وطار بها إلى شاطئ الحب في برشلونة، أهداها في عيد زواجهما وردة حمراء، وهي أهدته كتابا، كانت الأميرة تعشق القراءة والكتابة، وأصبح الناس في برشلونة يحتفلون بعيد سان جوردي، يسمونه عيد الحب، يتبادلون الزهور الحمراء والكتب.
وأقبل جوردي يحمل إليها الوردة الحمراء، يشبه فتى أحلامها وهي طفلة تمشي على شاطئ النيل، قال لها أنا جوردي، وأنت؟ قالت طفلتي اسمها نورية أخذتها يولاندا. وقال جوردي: الأطفال في كل مكان يولدون ويموتون ويولودون من جديد، أنت في غير حاجة إلى الولادة مثل الأرنبة، أنت في حاجة إلى شيء آخر، هل حاولت الغناء أو الرقص أو النحت أو الكتابة ...؟ - الكتابة؟!
ترن الكلمة في أذنها فتصحو من النوم، تراه واقفا أمامها يكاد يشبه سميح أو رستم أو فرانسيسك أو اسما آخر عالقا بذاكرتهما المنسية، يكاد يشبه كارمن ومريم وجمالات، ملامحهم جميعا تذوب في الوجه الواحد، يجمع بين الرجولة والأنوثة، أمه من برشلونة وأبوه من طنجة، طويل القامة نحيف، بشرته سمراء تشوبها حمرة، بلون الصخور الفاصلة ما بين شمال أفريقيا وجنوب إسبانيا، عند مضيق جبل طارق، يتكلم العربية والكاتالانية، يدرس النقد المقارن بين الأدب العربي والأدب الكاتالاني، يشتغل في المساء في المطعم «موروكا كاتالانا» يقدم الوجبات المغربية والكاتالانية، في زقاق صغير متفرع من الرامبلا كاتالونيا ... ويحدثها جوردي عن ابن بطوطة، وابن رشد، عن أدب الأندلس، وعن روايته الأولى يكتبها، بدأت الفتاة تتقن اللغة الكاتالانية، وهي أقرب إلى اللغة الفرنسية منها إلى اللغة الإسبانية، لأن فرنسا أقرب إلى كاتالونيا من مدريد. يشرق وجهه الأسمر بالابتسامة حين يراها، تذكر ابتسامة محمد الجرسون في النادي، تقول له: أحب ابتسامتك يا جوردي، كلمة «سومري»، بالكاتالانية تعني ابتسامة، قريبة من كلمة ابتسامة بالفرنسية «سوري» أنت تعيد إلي الأمل في الحياة يا جوردي، كلمة أمل بالكاتالانية هي «إسبرانسا» قريبة من كلمة أمل بالفرنسية، وتحتفل برشلونة بعيد الأمل في نهاية أبريل، بعد انتهاء عيد الحب.
في الاحتفال بعيد الأمل تسير الفتاة مع جوردي على شاطئ برشلونة، الرجال والنساء الأطفال والشباب والعجائز يتمددون على الرمال تحت الشمس، أجسادهم عارية تلمع برذاذ الماء، يتساوى الجميع بصرف النظر عن العمر أو اللون أو الجنس أو الجنسية، تمددت الفتاة فوق الرمل ترمقهم من بعيد، يمتلئ قلبها بالحزن الغامض، تبكي دون دموع على أمها الميتة، وأختها المحروقة في الحمام، وجارتها الملفوفة تحت الخيمة السوداء، ثم تنهض فجأة، تنفض عن جسدها الرمال، تقذف بنفسها في البحر، تسبح مع جوردي داخل العمق، يحوطها بذراعيه تحت الماء، يسألها عن الحزن في عينيها، لا تعرف الرد على السؤال، ربما هو الحنين الجديد المتجدد، رغم الألم والحزن يا جوردي، أحلم بالعودة إلى الأهل، وهل ينفصل الظفر عن اللحم؟
كان جوردي يسبح أمامها، يضرب الماء بذراعيه، يذكرها بسميح، الملامح تتشابه والحركة مع الرقة، يتسابقان تحت الماء مع مجموعة من الشباب والشابات، يضحكون ويلعبون مع الأمواج، يخرجون إلى الشاطئ ينفضون رذاذ الماء تحت أشعة الشمس، يجلسون في المطعم يأكلون الشرائح «المشوية»، شرائح من السمك اللذيذ يعيش بين الصخور، اسمه «لييورنا» وتعني السمكة المضيئة، تكسبها الصخور مع الماء المالح قوة ورشاقة، يرشفون النبيذ الكاتالاني، اسمه كريستين ديسروش نوبل كورت، يتبادلون الورود الحمراء والكتب والروايات ... ويسأل جوردي: ما العلاقة بين الوردة الحمراء والكتاب في عيد الحب؟ وهل هناك علاقة بين الحب والكتابة؟
تتذكر الفتاة لقاءها الأول مع رستم، كان ذلك في دار النشر في مصر الجديدة، كان جالسا وحده يقرأ، شعره أسود غزير تتناثر فيه شعرات بيض، يكسبه الشيب المبكر نوعا من السحر، جذبتها إليه خطوته الحائرة بين رفوف الكتب، كان شاردا حزينا وحيدا، رأسه مطرق مثقل بالأفكار، لم يكن هو رستم عضو مجلس الشورى، ولا هو الزوج ورجل الأعمال، كان شخصا آخر ضمن أشخاص آخرين يسكنون جسده، بدا لها روحا محلقة بين الكتب والروايات، لم تملك الشجاعة لتتحدث إليه، وهي فتاة مجهولة مغمورة بلا أب ولا أم.
لم يكن سميح مثل رستم، كان يفهمها أكثر، يعرف أن في أعماقها حنينا إلى شيء آخر أكبر من الحب، ليس الحب بين الرجال والنساء، شيء آخر في خيالها حبيس لا يخرج إلى الواقع، ويقول لها سميح: أنت تبحثين من خلال الحب عن نفسك، عن معنى الحياة، عن الحكمة الأبدية، ما يسميه الناس «الله»، هذا البحث الطبيعي، يفعله كل إنسان وكل إنسانة، بوعي أو بدون وعي، أنت لا تقعين في الحب من أجل الجنس، ولكنك تفعلين الجنس من أجل هدف آخر، ليس ولادة الأطفال، بل هدف آخر ربما يتعلق بالكتابة، أو ... - الكتابة؟!
أو شيء آخر تعرفينه أكثر مني، لا يمكن لرجل أن يملأ خيالك أو يشبع عقلك أو حتى جسدك، ربما لهذا السبب لا يمكن للحب أن يحولك إلى زوجة أو جارية أو عبدة، أو أن يتخلى عنك المنطق، عقلك هو الشاطئ الأخير حيث ترسو عواطفك الجارفة، أنت عشت الألم والحزن والفقر، تحاولين التعويض عن الحب والحرية بالكتابة، تدخلين أي تجربة حتى الموت من أجل المعرفة، لا تخلصين إلا لعقلك، ولا تشعرين بالطمأنينة إلا مع نفسك. - وأنت يا سميح؟ - أنا أعطيك حنان الأم الغائبة، لا تشعرين معي أنك في حاجة إلى سياج العقل، ولا السلاح الذي تشهرينه في وجه رستم، أنت ترينني مثل الحصن تحتمين فيه من الوقوع في الحب، فأنا لست فتى أحلامك.
تطرق الفتاة في صمت طويل، كان رستم أقرب إلى فتى أحلامها من سميح، يتكون فتى الأحلام في حياة البنات من قصص الأفلام، من القيم السائدة عن الذكورة والفحولة، يتكون خيال البنت من الشبق أو الحنين لرجل يغتصبها، تتراكم صور الخضوع في ذاكرتها منذ الطفولة كالمرض المزمن. - لكني أحبك يا سميح، يمكن أن أعطيك كل شيء، أن أهبك حياتي كلها، فأموت من أجلك كما يموت الشهيد أو الشهيدة فداء الله والوطن. - الحب ليس هو الموت فداء شيء آخر، نحن لا نموت حبا في الله أو الوطن بل خوفا منهما، لا أحد يذهب إلى الحرب إلا تحت سلطة التجنيد، ولا أحد يذهب إلى الكنيسة أو الجامع إلا خوفا من النار، لا يموت في الحروب إلا أبناء الفقراء، ولا تكتظ الكنائس والجوامع إلا بالعجائز والمرضى والمريضات.
Shafi da ba'a sani ba