اختنق صوت سوزان، حركت رأسها نحو النافذة وابتلعت الدموع، نهضت واقفة تشد عضلات جسمها الممشوق، رأسها مرفوع تهزه بقوة، كأنما تنفض عن نفسها لحظة الضعف، خرجت من الباب تدق الأرض بكعب حذائها من دون أن تستدير.
كانت الفتاة تلتقي بها أحيانا وهي تلعب الجولف، تجتاز المساحة الخضراء بسرعة لتخرج من الباب الخلفي، إن لمحتها تهز رأسها بالتحية، تهز سوزان رأسها بحركة سريعة لا إرادية، ثم تنثني بجسمها الرشيق لتضرب الكرة، تتبادلان الابتسام حين تلتقيان وجها لوجه، ذات يوم توقفتا لحظة على وشك الحديث، دون أن تملكا الشجاعة، لم يكن هناك ما تتحدثان عنه إلا سميح، وهو اسم تحاول كل منهما أن تنساه.
رأتها الفتاة مرة جالسة تحت ظل الشجرة، على أطراف ملاعب الجولف، تستريح بعد الجهد، جالسة على الحشيش الأخضر، فوق فوطة النادي البيضاء أطرافها خضراء، محنية على نفسها، جفونها مغلقة، كأنما ناعسة، نهدها الأيمن متهدل تحت قميصها الأبيض، ركبتها اليسرى مرفوعة يستند إليها كوعها، رأسها مطرقة يستند إلى كفها.
بدت وحيدة حزينة، أرادت الفتاة أن تربت على رأسها بحنان، أن تلقي رأسها فوق صدرها وتبكي، ما إن فتحت سوزان جفونها حتى ابتعدت الفتاة لتخرج من الباب الخلفي دون أن تراها.
تمنت الفتاة في يوم أن تحظى بالثقة في نفسها، أن تخطو على الأرض كما يخطو رستم وهو يمشي، يدخل إلى المطعم الصغير فوق هضبة الأهرامات، يشق طريقه بين الموائد الصغيرة ذات المفارش البيضاء، يجلس إلى المائدة عند الحافة العالية المطلة على المدينة، من خلال النافذة تشرد عيناه بعيدا، يحركهما نحو المدخل من حين إلى حين، يتوقع مجيئها كما وعدت.
كانت تفي بالوعد رغم قرار القطيعة، لا يؤدي التباعد إلا لمزيد من التواصل، شحنة من الطاقة في الروح، في الجسد، في العقل ... أو شيء آخر، تتجمع في بؤرة ما داخل الصدر، تضغط على القلب مثل الدم المحبوس، ثم تندفع في لحظة مفاجئة بقوتها الذاتية كالبخار يحرك القطار. تذهب إليه متأخرة عن الموعد، علمتها جمالات بعض فنون النسوة: «الحلوة تتأخر، كلما تأخرت اشتد شوق الرجل إليك، دعيه ينتظرك طول العمر، في أعماق الذكر تقبع غزيرة الصياد، لا تثيره الفريسة السهلة السقوط .» وتقول جمالات: لا تكوني غبية مثل الحور العين أو حبة العنب في جنة عدن، تسقط وحدها من الشجرة في فم الرجل الصالح، دون أن يبذل أي جهد! ثم تطلق ضحكتها المجلجلة المحملة بالجراثيم مثل الأمراض المعدية، ينتاب الفتاة الضحك رغم إرادتها كالمرض المفاجئ، تضحك معها دون وعي حتى تغرق عيونهما في الدموع.
يملأ رستم كأسيهما بالنبيذ، يملآن صدريهما بهواء الصحراء، تتملكها رغبة جارفة للحديث، يتبادلان الأفكار فيما يقع من أحداث، الحرب في العراق وأفغانستان، المذابح في فلسطين، مآسي المهاجرين والمهاجرات، الفساد والرشوة في جهاز الدولة، الأكاذيب المنشورة، انهيار الأخلاق وزيادة الجرائم تحت اسم الشرف، والانتخابات القادمة في مجلس الشورى.
يتحدثان مثل الصديق والصديق، يبدآن بأحداث السياسة والحرب، ينتهيان بأخبار الفن والأدب، كان يكتب رواية طويلة لا يعرف نهايتها، وهي تكتب روايتها الأولى لا تعرف بدايتها، لا تكاد تذكر من هذه الأحاديث شيئا، إلا ضوء القمر المنعكس على تلال الرمال البعيدة، تشبه موجات البحر الصغيرة، رائحة الصحراء المحملة برائحة النبيذ، مع نكهة كولونيا ما بعد الحلاقة، اللافندر، حين يقرب وجهه من وجهها، قبل أن يقبلها، محفورة هذه اللحظات في ذاكرتها رغم مرور السنين، تعود إليها تقتحم خيالها أكثر من لحظات العناق، والشبق المجنون في الفراش، راحت هذه اللحظات في العدم رغم ما كان فيها من عنفوان، لم يبق في الذاكرة إلا اللمسات الرقيقة، ونكهة النبيذ الخفيفة، وكولونيا اللافندر المتلاشية في الهواء، كأنما هي اللحظات الحقيقية الوحيدة.
تسترجع الفتاة هذه اللحظات وهي على الشاطئ الآخر من البحر الواسع، تحاول الإمساك بها تحت سن القلم، دون جدوى، تكسبها الحروف بريقا على الورق ثم تطفئها كما تنطفئ النجوم في ضوء الشمس، لتولد من جديد من رحم الليل، لتعود تنطفئ.
في غرفتها بشارع المبتديان كانت تنام بين ذراعي سميح فوق السرير الخشبي القديم، يئن تحت جسميهما مع تبادل العناق، يترامى إليهما من خلال الباب المغلق شخير جمالات، خافتا منتظما مثل دقات المنبه بجوار السرير، قبل أذان الفجر يصحوان على خرير الماء في الحمام، وصوتها يردد أسماء الله وهي تتوضأ، تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، يزحف شبشبها البلاستيك فوق البلاط، تشد سجادة الصلاة من تحت سريرها، تفرشها على الأرض في اتجاه الكعبة في مكة، ينطلق صوت يؤذن لصلاة الفجر، تتبعه آلاف الميكرفونات المعلقة على الجوامع القديمة والجديدة، تدوي في الجو مثل طلقات المدافع.
Shafi da ba'a sani ba