اسمعي يا اسمك إيه، أنا لا أسمح مطلقا إنك تنطقي كلمة أبلة بعبع دي تاني ... مفهوم؟
تظل شفتاها مطبقتين، لا تهز رأسها وتقول، أيوه مفهوم، لا تريد الاستسلام لجبروتها كما تفعل المرءوسات، يظل جسدها الضخم ينتفض تحت الخيمة السوداء ... مفهوم؟!
زوجها يشبهها على نحو مدهش، ضخم الجثة، يرتدي عباءة سوداء فوق جلباب أبيض، رأسه كبيرة يغطيه شعر أسود أكرت، يختفي وجهه تحت غابة سوداء من الشعر الكثيف، عيناه ضيقتان غائرتان داخل خضم السواد، لحيته كثيفة طويلة تتدلى فوق صدره، شعرها نافر منتصب كالأسلاك.
يجلس في غرفة مكتبها، ينتظرها حتى تنتهي من أعمالها الهامة، تتعمد أن تنشغل عنه بالأوراق المكدسة فوق مكتبها، تدق الجرس وتنادي على الشغالات والمرءوسات، تصدر إليهن الأوامر والنواهي، يرتفع صوتها بالتأنيب والتوبيخ، ترمق زوجها بطرف عين، تنتفض أحشاؤها بالبهجة، تمارس السلطة أمام عيني زوجها، يمارس عليها السلطة في البيت، لا تعرف كيف تنتقم منه إلا بهذه السلطة في مكتبها وبطريقة غير مباشرة.
اختفت الطفلة من الملجأ ذات يوم، عيناها انحفرت في ذاكرة الفتاة، البريق مثل لمعان النجم، تقاطيع الوجه الصخرية، كان اسمها صباح، سألت عنها المديرة، تذبذبت عيناها داخل الثقبين، شوحت بيديها داخل القفاز الأسود: هربت راحت في ستين داهية!
كان في الملجأ مئات الأطفال، يلفظهم العالم إلى الملجأ كما يلفظ الكلاب المشردة، لا أحد يزورهم، لا أحد يعالجهم إن مرضوا، لا أحد يدفنهم إن ماتوا، لا أحد يبحث عنهم إن هربوا، أو تم بيعهم في سوق الرقيق ... عصاباتها داخل المافيا، تحت الأرض وفوق الأرض، تشبه سوق السلاح والمخدرات والجنس، يتغير أسعار الأطفال مع تغيرات العملة والبورصة، ورحلات النساء العاقرات من الشمال إلى الجنوب، لشراء طفل أو طفلة، سمراء عيونها سوداء، تحت اسم الأمومة.
تقبض السيدة المديرة المبلغ بالعملة الصعبة، تشتري تذكرة إلى مكة كل عام، تطوف بالكعبة، تقبل الحجر الأسود، ترمي إبليس بالجمرات في منى، تشرب من بئر زمزم، تعود طاهرة الذيل، ذنوبها ممسوحة كالمولودة من بطن أمها.
قال سميح وهو يعانقها: الوظيفة في الملجأ لا تليق بك، تستحقين عملا أفضل. قالت: العمل الأفضل يحتاج إلى واسطة كبيرة! قال: سأبحث لك عنها.
كان رستم قد دعاهم لتناول الغداء في النادي حول المائدة في «الليدو»، حمام السباحة الصغير، جلست هي وسميح ورستم، كانت كارمن تسبح في البيسين، جسمها ممشوق داخل المايوه الأحمر فيه زهور بيضاء، تتحرك ذراعاها وساقاها تحت الماء كزعانف السمكة الذهبية.
ترفع الفتاة وجهها نحو الشمس وعيناها مغمضتان، تترك الأشعة الدافئة تمشي فوق جفونها، الهواء محمل برائحة الشجر والماء والكلور، أجسام النساء والرجال ممدودة فوق الكراسي، يتجاذبون أطراف الحديث، يدلكون بشرتهم بالكريم، يرشفون الليمون المثلج على مهل، أمامهم صحون الفراخ المشوية، مكرونة في الفرن، ريش ضاني محمرة، صلاطة خضراء يلمع فيها الخيار والخس والطماطم الحمراء، تتصاعد رائحة الشواء مع الضحكات، تنتقل الفتاة من زقاق السيدة إلى الليدو في النادي كأنما تسافر من بلد إلى بلد، يأتي الجرسون حاملا قائمة الطعام «المينيو»، شاب نحيف طويل، تلمع أسنانه البيضاء في وجهه الأسمر، يناولها رستم «المينيو»، مكتوبا بلغة لا تعرفها، وأنواع أطعمة لم تسمع عنها. تتطلع إلى سميح. مستغرق في الحديث مع رستم حول رواية بحر سارجوسا، للكاتبة «جين ريس»، من منطقة الكاريبيان.
Shafi da ba'a sani ba