وكان علي أن أكافح رغبتي في التطلع ودوامة المشغولية المبهمة التي تبتلعني كالآخرين؛ كي أستخلص نفسي وأستمع للهاتف وأعود أتابع صاحب الوجه الشاحب الصامت الرشيق.
الفصل الثالث
كانت ساعتي قد بدأت تشير إلى السادسة، وكنت قد بدأت أميز خلال المسطحات البشرية ذات الألف لون ولون والتي تنسدل كسجادة هائلة مزركشة فتغطي المدرجات دون أن تترك فجوة. كنت قد بدأت أميز أبواب الدخول، والمكان المخصص لرئيس «الفييستا»؛ إذ لا بد لكل احتفال من رئيس، وركن الفرقة الموسيقية، والمظلة التي تظلل نافخي الأبواق الثلاثة. والساعة كما قلت كانت قد أشرفت على السادسة، ولم يحدث في «الأرينا» ولا داخل الحلقة المغطاة بالرمل والمتناثرة فيها صناديق الإعلانات ما يدل على قرب البدء، ولكن جاري الإسباني الضخم الجثة العالي الصوت وقد لمح دهشتي وحدثني بإسبانية لا أفهم منها إلا أن أرد بقولي: لا أفهم الإسبانية. «نون كومبريندو إسبانيول». ولم يعقه هذا عن مواصلة الحديث وعن شرح ما يريد قوله لي باستعمال لغة الأيدي والإشارات العالمية، وفهمت منه أن كل الساعات غير معتمدة، وأن الساعة الوحيدة التي ستحدد الوقت هي ساعة «الأرينا» المطلة من برج عال منتصب في جزء من محيط الدائرة.
وكانت هذه الأخيرة تشير إلى السادسة إلا أربع دقائق، واسترحت فأمامي بعض الوقت أستطيع أن أوقن فيه مرة أخرى أني لست في حلم، وأن الظروف قد ظلت تتآمر علي حتى قادتني على الرغم مني إلى مدريد، وأني الآن في أكبر ملعب لمصارعة الثيران في إسبانيا ومن ثم في العالم كله، وأنه بعد أقل من خمس دقائق سيحدث أمام عيني ذلك الصراع الغريب الذي ألهب مخيلتي وأنا طفل في قصة دماء ورمال، والذي غذى خيالي شابا وأنا أقرأ لهيمنجواي. الصراع الذي انفعلت به قرائح فنانين وكتاب وشعراء ومخرجين. الصراع الذي صنعت منه مآس وأهوال، وفي خضمه هلك أناس واستشهد أبطال، ونمت قصص حب.
وكان علي أن ألقي نظرة على صاحبي. هذه المرة وجدته قد أصبح فردا في طابور المصارعين الثمانية الآخذين أماكنهم في الممر خلف «البيكادورز» (راكبي الخيل) في انتظار تحرك الموكب الذي يبدأ به العرض، وكان قد وضع فوق رأسه قبعة الميتادورز المستعرضة السوداء، وخيل لي أنها تبتلع جزءا كبيرا من رأسه الصغير وتخفي بعض وجهه. ولأمر ما تصادف أن رفع رأسه وتصورت أن نظراتنا التقت، ولكني كنت أعلم أنه مجرد خيال؛ فمن موقفه البعيد هو قطعا لا يرى نظراتي. إن ما أمامه مجرد نقط صغيرة سوداء تكون رءوسا لا تهمه معالمها بقدر ما يهمه أن تصدر عنها بعد قليل ضجتها التي تدوي. أوليه، تحييه وتستحسن عمله.
ولم يكن في مشهده ومشهد زملائه السبعة المصطفين أي روعة مما تجسدها السينما بألوانها وعالمها. كانت ملابسهم بديعة النقوش حقيقة تستوقف البصر، وتلمع زخارفها إذا تحركوا وتومض، والجاكتة معلقة فوق الكتف اليمنى كوضعها التقليدي، والسراويل الضيقة حتى تكاد تمنع الحركة، وكان هذا هو كل ما هنالك بلا تضخيم أو تهويل، بل هم بملابسهم أنظف وأجمل ما في الموكب المنتظر؛ فالخيل التي يركبها البيكادورز عجفاء عجوز ودروعها مهلهلة، وحاملو الأعلام أزياؤهم غير متشابهة كما يجب، وكما تظهر لنا العدسات التي ما أكثر ما تفتري على الواقع وتقلب الفقر روعة، والدنيا بكل عيوبها وقصورها جنة.
ولكني في اللحظة التالية كان إحساس غامر - وكأنما ادخرته لهذه اللحظة - قد طغى علي تماما.
وانتشيت به! الإحساس باللعبة. الإحساس أنك بسبيلك إلى أن تلهو وتختلس من وراء ظهر الزمن ساعتين تشبع فيهما متعة ومرحا وانفعالا.
نفس الإحساس الذي يراود الطفل حين يلمح اللعبة التي اشتراها له أبوه تطل من حافة الحقيبة أو اللفافة، ويتأكد تأكدا قاطعا من أن عينيه لم تخدعاه، وأنها فعلا لعبة جديدة اشتريت خصوصا له. هذه اللحظة «ما بين الإحساس بأنه حالا سيلعب بها وبين تسليمها له وبدء لعبة حقيقية بها»، نشوة كهذه غرقت مختارا فيها وأنا أقول لنفسي، لا فرق إلا أن هذه لعبة أكبر بكثير ومضمونة أيضا، وإلا لما جاء كل هذا العدد من الناس ودفعوا آلاف الجنيهات ليشاركوك في ممارستها، والأمتع أنها لعبة خطرة تحفها المفاجآت وتنخلع لها القلوب.
وحين شملت «الأرينا» تنهيدة عميقة وكأنما هي قادمة من تحت الأرض متصاعدة في شمول واتساع لتغطي وجه السماء. أول عمل جماعي يقوم به المشاهدون معا، عمل أوقف مشغوليتهم. تنهيدة كانت إيذانا بأن لم يبق على السادسة إلا أقل من دقيقة.
Shafi da ba'a sani ba