كلمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
Shafi da ba'a sani ba
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر «الفصل الأخير»
كلمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
Shafi da ba'a sani ba
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر «الفصل الأخير»
Shafi da ba'a sani ba
رجال وثيران
رجال وثيران
تأليف
يوسف إدريس
كلمة
حين عدت من الجزائر في صيف عام 1962م، كان يحدث كلما لقيت صديقا أن يسألني عن موعد صدور الرواية أو المسرحية التي لا بد سأكتبها وأستوحيها من أحداث الثورة الجزائرية، خاصة في أثناء تلك الفترة الحرجة التي أعقبت الاستقلال. كانت تلك هي المرة الثانية التي أعيش فيها مع الثورة الجزائرية؛ الأولى حدثت قبل الاستقلال بعام حين ذهبت مع بعثة والتحقنا بجيش التحرير وحضرنا بعض معاركه، والثانية كانت هذه المرة. وكنت لا أستغرب لهذا الإجماع الغريب على ضرورة أن أكتب رواية أو مسرحية عن ثورة الجزائر؛ إذ لا بد في نظر هؤلاء الأصدقاء الطيبين لشخص مثلي عاصر الثورة كفاحا مسلحا، ورآها إلى أن تجسدت على هيئة دولة بما صاحب التجسد من ميلاد أمة وخلق كيان، لا بد أن يكون أحق الناس بالكتابة عن هذا الحدث التاريخي، ومن ناحيته لا بد أن يجد هو أن من واجبه أن يكتب هذا العمل.
ولكن كل تلك اللقاءات والتساؤلات كانت تدفعني لمزيد من التعاسة. إن مشكلتي دائما أني لا أستطيع أن أكتب لأن من «واجبي» أن أكتب، ولم أجرب أبدا أن أفرض على نفسي موضوعا ولا أن أعطي لموضوع بالذات حق الأولوية في الخروج إلى حيز الوجود. ولقد انفعلت بكل ما رأيت في الجزائر قبل الاستقلال وبعده، ولكن يبدو كأن الانفعال لم يكن قد نضج إلى الدرجة الكافية لكسر القشرة الإرادية والخروج إلى الحياة. كانت الصورة الأساسية لأي عمل يكتب عن ثورة عظيمة كثورة الجزائر أنه يجب أن يكون في مستوى عظمة هذه الثورة، وأنى لي بهذا المستوى وأنا لا أزال بالكاد أتأمل ما رأيت ووعيت؟ وأنى لي به والمهمة شاقة؛ فالقضية لا تزال دافئة بالحماس، ولا يستطيع الإنسان فيها إلا أن يجاري الشعور العام المنفعل بها بحيث تبدو الموضوعية نوعا من السخف لا محل له؟
كنت أهز رأسي للأصدقاء وأقول: أجل سأكتب، حتما سأكتب. أقوله وأنا أول المدركين أني في تلك الفترة بالذات لن أستطيع، وأن إحساسي بنفسي يؤكد لي أني في حاجة إلى زمن أستوعب فيه كل شيء، والمواطنون أيضا في حاجة إلى الزمن نفسه لتثمر لهم الكتابة عن قضية حافلة كالقضية الجزائرية.
وفجأة - تماما كما تعودنا أن نقول في القصص - وجدت موضوع «رجال وثيران» يدق، مطالبا بالخروج، موضوعا كان مفاجأة تامة لي، فلم أكن أتوقع أبدا وأنا عائد من إسبانيا (لم تمض على عودتي أيام) أن يأتي بمثل تلك السرعة، ولا أن يجد لدي كل تلك الاستجابة وهذا الحماس.
وهكذا كتبت «رجال وثيران»، ليس بدلا من الموضوع الأول ولا هربا منه، ولا محاولة للرمز أو ربطه بصراع مرت به القوى الثورية في الجزائر، ولا أي شيء من هذا كله. إنها قصة مستقلة تماما، حوادثها وإن كانت تدور في إسبانيا إلا أن بطلها هو الإنسان، في إسبانيا أو في أي مكان. قصة كانت ولا تزال تثير دهشتي، فلم أكن أتوقع من مرة واحدة شاهدت فيها مصارعة الثيران بعد ظهر ذلك اليوم من أيام أغسطس المدريدية، وفي ملعبها الكبير، آخر ما كنت أتوقعه أن يختمر خلال ساعتين عشتهما مع المصارعة والثيران والمصارعين هذا العمل، أو أي عمل آخر حتى لو كان سلسلة من المقالات.
Shafi da ba'a sani ba
وبعد ...
كثيرا ما نسمع الناس يتساءلون: هل أدبنا أصبح عالميا؟ ومتى وكيف يصبح أدبنا عالميا؟ والسؤال بلا شك يدل على طموحنا كتابا وقراء، ولكنني أحب أن أؤكد أن اختيار إسبانيا أو أي بلد آخر من بلاد العالم مكانا تدور فيه أحداث قصة ليس هو الطريق أبدا لكي يصبح أدبنا إنسانيا عالميا؛ لأن هذه الإنسانية والعالمية ليس لهما إلا طريق واحد هو الكتابة بصدق ورأي وإحساس عن أنفسنا التي نعرفها، أو عن غيرنا ممن لا تقل معرفتنا بهم عن معرفتنا بأنفسنا، بل هو الطريق الوحيد لكي تصل الكتابة - أي كتابة - إلى مرتبة الفن - أي فن - لا يهم محليا كان أو عالميا، والمشكلة في رأيي أننا كثيرا ما نقحم مفهوماتنا العقلية أو الرياضية، أو في معظم الأحيان السياسية، إقحاما على ما نريد وباستطاعتنا قوله، فتكون النتيجة أن نفقد خيط الانفعال الصادق ونرقص على السلم. إنما هي في الحقيقة محاولة لكي نرى أنفسنا هنا في مصر والعالم العربي عن طريق غير مباشر في ظاهره، ولكنه في أحيان يعطينا رؤى أكثر صدقا ووضوحا وعمقا.
هذا عن علية (كما يقول الفلاسفة) كتابة هذه القصة، أما إذا تركنا الأسباب القابلة للنقاش والأخذ والرد جانبا، فكل ما أذكره الآن وبعد مضي أكثر من عامين على كتابتها لأول مرة أني كنت سعيدا جدا، لا أكاد أنتهي من مشاغلي اليومية حتى أسرع إلى المكتب حيث تنتظرني معركة أخوضها بكل ذرة من كياني، متحمسا منتشيا، أحس أني لأول مرة ومن خلال القصة أخوض صراعا حقيقيا عميقا وأنفعل بكل لحظة من لحظاته؛ الصيف في القاهرة، والحر في النهار، والنسمات رقيقة كشمس الغسق في الليل، والصراع دائر في خيالي؛ يتوهج أحيانا حتى ليبلغ قيظ يوليو، ويشف أحيانا حتى ليهب كسرب صغير من نسمات طفلة ترد رؤيتها الروح وتنعش القلب الخامل، وصور إسبانيا والإسبان - أرق وأعنف وأغلب وأشجع وأحكم وأجن شعب من شعوب العالم - وكأننا نحن العرب كنا هم، أو هم كأنهم كانونا، ذلك الشعب بلغته؛ بأغانيه، برقصه، بفقره، بصبره، بجماله، بحنينه إلى الماضي المجيد، بالحنين الأكثر إلى مستقبل؛ هذا الشعب بكل صوره وانفعالاته المتغيرة الدائمة التغير، تلون أشكال الصراع وتزكيه. لقد كانت أيام كتابتها جميلة حقا.
وأخيرا ...
فلا بد لنا أيها الأصدقاء الذين كنت - وأرجو أن أكون لا أزال - عند حسن ظنهم، لا بد لنا من لقاء آخر على أرض الجزائر، وأنا أشد الناس ابتهالا كي يأتي اللقاء أقرب ما يكون وأروع ما يكون.
أما هنا ونحن في شبه الجزيرة الأيبيرية، فإني أستسمحكم يا قراء العربية أن أقدم هذا العمل المتواضع - حقيقة لا قولا - وردة حمراء كبيرة، ليس التلوث بالدم سبب احمرارها، إلى الشعب الإسباني القوي المتفائل الرقيق.
القاهرة، يناير 1964م
يوسف إدريس
الفصل الأول
أعرف أن هناك صداقة مثلا وزمالة وعلاقات إعجاب. أعرف أن هناك عداوة أو محبة أو لا مبالاة، ولكني لا زلت لا أعرف كيف أضع اسما للعلاقة الإنسانية التي ربطتني به. من ناحيتي كنت واحدا من ثلاثين ألف آدمي لا تجمع بينهم إلا «الأرينا» الهائلة الحجم، ولا يلتقون إلا عند رغبة ملحة واحدة، رغبة من رغبات البشر التي تظل تلح وتصر حتى تفرض نفسها وتتحقق بطريقة أو بأخرى. فرد من آلاف، مجرد طرف سلبي، عملي طول الوقت أن أجلس وأشاهد، والجهد الإيجابي الوحيد الذي كنت أقوم به لا يتعدى بضع محاولات، معظمها فشل؛ لكبت انفعالي كي لا أنساق وراء المواء الجماعي إذا صدر عن الآلاف، أو إخفاء وجهي اشمئزازا أحيانا، أو خوفا، أو لضعف الأعصاب.
Shafi da ba'a sani ba
أما هو فقد كان بالنسبة لي مجرد وجه اختارته عيناي من بين الآلاف لتلمحه، وما تكاد تلمحه حتى تتوقف عنده كقطار سريع يبطئ ليعود يمضي، فإذا بإبطائه يتحول إلى وقوف. لم تتوقف عيناي لأن الوجه كان شاحبا. لم يكن أصفر، ولا كانت هناك نقاط عرق، ولا كان الشحوب بإرادته. الشعور الذي دهمني وأجبرني على التوقف أن نظرتي الأولى له أشعرتني أن هناك شيئا هو الذي أذهب لونه، وبيض قمحية وجهه. شيء وسط الزحام الشديد لا يمكن إدراكه أو ضبطه، ولكن كان باستطاعتي أن أقسم أنه هناك، وأنه المسيطر على كل تلك الآلاف وإن كانت ملامحهم لا تنجح في الكشف عنه، ولا يهديك إليه إلا نظرة لذلك الوجه. أجل هناك كعقاب خفي داكن رابض فوق سماء «الأرينا».
عقاب له ثلاثون ألف مخلب. في كل وجه ينشب مخلبا وطواطيا لا يمكن انتزاعه، ويفعل هذا دون أن يعي به أو ينتبه إليه أحد، أو يترك أثرا واحدا يشير إلى وجوده لولا ذلك الإحساس المبهم الذي تحسه وتشم رائحته تتسر. إحساس جامع شامل له دوي الجنازات القادمة من بعيد، والانقباض الذي يشمل البيت إذا نعقت في غنائه بومة.
وربما الذي استوقفني في الوجه أنه الوحيد المتميز الشحوب، وكأنه من نوع خاص ناتج عن إحساس خاص لا يشاركه فيه سواه، وكأنه وحده هو الذي يدري، ووحده الذي يتوقع. وحده الذي حين تراه ينتقل إليك علمه، وتبدأ أنت الآخر تدرك وجود شيء في الجو والمكان، شيء آخر غير الناس والازدحام وشمس ما بعد الظهر وضجة «الفيستا» والاحتفال، شيء حاضر خفي داكن رابض ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن حتما عن وجوده وينقض، وفي الحال، ودونا عن الثلاثين ألف إنسان، وبمثل شرارة التماس لا بد أيضا أن يدق قلبك دقة الخوف؛ إذ تدرك على الفور إدراكا غريبا مبهما وكأنما يهبط عليك كالإلهام أن ثمة شيئا غير عادي سيقع اليوم لصاحب ذلك الوجه، وأنه أبدا لن يغادر «الأرينا» بنفس الحال التي جاء بها.
هذه الدقة المفاجئة وما صاحبها من انزعاج صغير عابر، حددت لحظة خطيرة غريبة في حياتي، لحظة التقائي بإنسان جديد لم يكن منذ ومضة يعنيني أمره، فإذا بالدقة تبدأ معها علاقة، وتتعدى العلاقة بسرعة مراحل التعارف الأولى إلى مرحلة الصداقة، بل تتعداها إلى ما هو أكثر، إلى مرحلة القلق العظيم على الصديق والتتبع المشفق لخط مصيره.
وهكذا ألقيت النظرة الثانية على صديقي الجديد وكأن بين النظرتين عاما، وكأنني أعود أتفحص ملامح عزيز طالت غيبته محاولا أن أدرك ما حدث له ولشكله من تغيير. كان الوجه دقيقا نحيلا يصنع برأسه الأنيق الذي بدأ شعره من أمام يخف ويتراجع، ويستعد لتسليم الرأس - أو الجزء الأمامي منه على الأقل - لصلع قريب. كان يصنع مع وجهه النحيف مثلثا رشيقا صغيرا، كل ما فيه حتى أذناه رشيق صغير. ولكل وجه في الدنيا قصة يحكيها أو معنى أو صيحة يطلقها ويعلن بها عن جماله مثلا أو ذكائه، أو عما يكمن في أعماق صاحبه من دهاء. ذلك الوجه كان من الوجوه التي لا تتحدث عن نفسها، من الوجوه التي نحس بها دائما مشغولة بحدث خارج عنها أو بقضية. ولحظة رؤيتي الثانية له لم يكن وجهه يتحدث عن شيء بالذات أو مشغولا بشيء. كان صامتا، صمتا لو صبرت عليه لاستحال إلى حزن، حزنا لا بد شفافا كحزن الملائكة، أو ابتئاس الأطفال.
وكان يبدو في الثالثة والعشرين، ولكن مجرد النظر في وجهه ومراقبة صمته وهو يأخذ لون الأحزان البريئة يرغمك أيضا، ولا تدرك كيف، على أن تحس تجاهه - ومهما كانت سنك. ولو كنت أصغر منه - بأبوة لا تفسير لها ولا تبرير.
الفصل الثاني
كنت قد حضرت - كأي مقدم على عمل لأول مرة - مبكرا، وقضيت بعض الوقت أطوف ب «الأرينا» وممراتها ودهاليزها، وأراقب السوق السوداء لبيع التذاكر، وآلاف السياح والأوتوبيسات الفاخرة التي لا يكف عن التحديق فيها الأطفال الإسبان أشباه العراة وهي تقف ويهبط منها خليط عجيب من البشر من بين لغاته الكثيرة تميز بسهولة الخناقة الأمريكية الممدودة والغالبة، ومئات العربات الخاصة. أفخم وأحدث عربات من نوعها في العالم، وأبوابها تفتح لكي تنساب منها سيدات. أجمل سيدات، وأروع عطور، وأغلى وأشيك فساتين، ورجال بصلعات وكروش وأرصدة مكتظة، وشبان أثرياء بالكابورليهات، والجميع يمضون إلى مقاعدهم المحجوزة، بينما جمهور اللعبة الحقيقي - أفراد الشعب الإسباني - يتقاتلون حول التذاكر، ويتدافعون أمام باب الدخول، وفي الداخل لهم المدرجات المواجهة لشمس مدريد في الصيف، وما أحرها!
ومن متحف المصارعة عدت إلى مكاني في المدرجات حيث المتحف البشري الزاخر الوافد على مدريد، والساحة من كل أنحاء الأرض، وكيف تقبل أفواجه كالسحب المثقلة التي لا تلبث أن تبطئ حركتها وتتكاثف وتتساقط في أنحاء الدائرة الكبيرة على هيئة أجساد غير واضحة المعالم فوق مقاعد مقامة من الأسمنت المسلح. ساحة و«أرينا» لا تختلف كثيرا عن تلك الموجودة في روما التي أقامها الرومان من آلاف السنين ليتسلى الحكام الرومانيون بصراع العبيد العزل مع الوحوش. كل الخلاف هنا أن الإنسان زود بدلا من المسلة بقطعة أطول من المعدن على هيئة سيف، ولكن الصراع لا يزال هو الصراع.
وربما استدارة «الأرينا»، أو ربما هي الحلقة البشرية الهائلة المحيطة بالدائرة الرملية الفارغة. ربما الحيرة. ربما الدوري المستمر الذي لا ينقطع. ربما العقاب الرابض في مكان ما من سماء الساحة ناشبا مخالبه في الوجوه والملامح. ربما أي شيء، ولكن الذي لا شك فيه أن ثمة قلقا، وكأن أحدهم قد ألقى في قلب الساحة ببضع قنابل مثيرة للقلق واللهفة، لا على المصارعة وبدئها والرغبة أن تتم بسرعة، فكلنا نعلم أنها تبدأ في السادسة، وأن بيننا وبينها بضع دقائق لا تحتمل اللهفة أو الترقب. إنه قلق وترقب ولهفة المشغولين بشيء قاهر حاد، لا يدرون ما هو بالضبط وما الذي يشغلهم به تلك المشغولية العظمى، المشغولية التي تجعلك لا تستقر على وضع ولا تستسلم لموضوع، بحيث لا يحتمل منك الشيء أكثر من نظرة، وبحيث يبدو الحديث مملا بعد جملة حواره الأولى، وأجمل الفتيات تكفيها التفاتة. مشغولية عظمى غير محددة أو معروفة الأسباب، ولكنها قائمة وموجودة وذات أزيز.
Shafi da ba'a sani ba
وكان علي أن أكافح رغبتي في التطلع ودوامة المشغولية المبهمة التي تبتلعني كالآخرين؛ كي أستخلص نفسي وأستمع للهاتف وأعود أتابع صاحب الوجه الشاحب الصامت الرشيق.
الفصل الثالث
كانت ساعتي قد بدأت تشير إلى السادسة، وكنت قد بدأت أميز خلال المسطحات البشرية ذات الألف لون ولون والتي تنسدل كسجادة هائلة مزركشة فتغطي المدرجات دون أن تترك فجوة. كنت قد بدأت أميز أبواب الدخول، والمكان المخصص لرئيس «الفييستا»؛ إذ لا بد لكل احتفال من رئيس، وركن الفرقة الموسيقية، والمظلة التي تظلل نافخي الأبواق الثلاثة. والساعة كما قلت كانت قد أشرفت على السادسة، ولم يحدث في «الأرينا» ولا داخل الحلقة المغطاة بالرمل والمتناثرة فيها صناديق الإعلانات ما يدل على قرب البدء، ولكن جاري الإسباني الضخم الجثة العالي الصوت وقد لمح دهشتي وحدثني بإسبانية لا أفهم منها إلا أن أرد بقولي: لا أفهم الإسبانية. «نون كومبريندو إسبانيول». ولم يعقه هذا عن مواصلة الحديث وعن شرح ما يريد قوله لي باستعمال لغة الأيدي والإشارات العالمية، وفهمت منه أن كل الساعات غير معتمدة، وأن الساعة الوحيدة التي ستحدد الوقت هي ساعة «الأرينا» المطلة من برج عال منتصب في جزء من محيط الدائرة.
وكانت هذه الأخيرة تشير إلى السادسة إلا أربع دقائق، واسترحت فأمامي بعض الوقت أستطيع أن أوقن فيه مرة أخرى أني لست في حلم، وأن الظروف قد ظلت تتآمر علي حتى قادتني على الرغم مني إلى مدريد، وأني الآن في أكبر ملعب لمصارعة الثيران في إسبانيا ومن ثم في العالم كله، وأنه بعد أقل من خمس دقائق سيحدث أمام عيني ذلك الصراع الغريب الذي ألهب مخيلتي وأنا طفل في قصة دماء ورمال، والذي غذى خيالي شابا وأنا أقرأ لهيمنجواي. الصراع الذي انفعلت به قرائح فنانين وكتاب وشعراء ومخرجين. الصراع الذي صنعت منه مآس وأهوال، وفي خضمه هلك أناس واستشهد أبطال، ونمت قصص حب.
وكان علي أن ألقي نظرة على صاحبي. هذه المرة وجدته قد أصبح فردا في طابور المصارعين الثمانية الآخذين أماكنهم في الممر خلف «البيكادورز» (راكبي الخيل) في انتظار تحرك الموكب الذي يبدأ به العرض، وكان قد وضع فوق رأسه قبعة الميتادورز المستعرضة السوداء، وخيل لي أنها تبتلع جزءا كبيرا من رأسه الصغير وتخفي بعض وجهه. ولأمر ما تصادف أن رفع رأسه وتصورت أن نظراتنا التقت، ولكني كنت أعلم أنه مجرد خيال؛ فمن موقفه البعيد هو قطعا لا يرى نظراتي. إن ما أمامه مجرد نقط صغيرة سوداء تكون رءوسا لا تهمه معالمها بقدر ما يهمه أن تصدر عنها بعد قليل ضجتها التي تدوي. أوليه، تحييه وتستحسن عمله.
ولم يكن في مشهده ومشهد زملائه السبعة المصطفين أي روعة مما تجسدها السينما بألوانها وعالمها. كانت ملابسهم بديعة النقوش حقيقة تستوقف البصر، وتلمع زخارفها إذا تحركوا وتومض، والجاكتة معلقة فوق الكتف اليمنى كوضعها التقليدي، والسراويل الضيقة حتى تكاد تمنع الحركة، وكان هذا هو كل ما هنالك بلا تضخيم أو تهويل، بل هم بملابسهم أنظف وأجمل ما في الموكب المنتظر؛ فالخيل التي يركبها البيكادورز عجفاء عجوز ودروعها مهلهلة، وحاملو الأعلام أزياؤهم غير متشابهة كما يجب، وكما تظهر لنا العدسات التي ما أكثر ما تفتري على الواقع وتقلب الفقر روعة، والدنيا بكل عيوبها وقصورها جنة.
ولكني في اللحظة التالية كان إحساس غامر - وكأنما ادخرته لهذه اللحظة - قد طغى علي تماما.
وانتشيت به! الإحساس باللعبة. الإحساس أنك بسبيلك إلى أن تلهو وتختلس من وراء ظهر الزمن ساعتين تشبع فيهما متعة ومرحا وانفعالا.
نفس الإحساس الذي يراود الطفل حين يلمح اللعبة التي اشتراها له أبوه تطل من حافة الحقيبة أو اللفافة، ويتأكد تأكدا قاطعا من أن عينيه لم تخدعاه، وأنها فعلا لعبة جديدة اشتريت خصوصا له. هذه اللحظة «ما بين الإحساس بأنه حالا سيلعب بها وبين تسليمها له وبدء لعبة حقيقية بها»، نشوة كهذه غرقت مختارا فيها وأنا أقول لنفسي، لا فرق إلا أن هذه لعبة أكبر بكثير ومضمونة أيضا، وإلا لما جاء كل هذا العدد من الناس ودفعوا آلاف الجنيهات ليشاركوك في ممارستها، والأمتع أنها لعبة خطرة تحفها المفاجآت وتنخلع لها القلوب.
وحين شملت «الأرينا» تنهيدة عميقة وكأنما هي قادمة من تحت الأرض متصاعدة في شمول واتساع لتغطي وجه السماء. أول عمل جماعي يقوم به المشاهدون معا، عمل أوقف مشغوليتهم. تنهيدة كانت إيذانا بأن لم يبق على السادسة إلا أقل من دقيقة.
Shafi da ba'a sani ba
وفي ثوان كانت كل صناديق الدعاية قد أخرجت من الساحة، وسكتت الأصوات جميعا، وتحولت ضجة المكان إلى فحيح، واتجهت الأنظار كلها في ترقب دافق إلى نافخي الأبواق.
ولم نسمع دقات الساعة؛ فقد طغت عليها أصوات النفير والرجال الثلاثة يبذلون أقصى قواهم، ومع هذا لا تكاد أصوات أبواقهم تسمع في أنحاء «الأرينا» كلها، ولكنه كان قد أعطاها. متهافتة حقيقة لا تدوي أو تصم الآذان، وتوقع الرهبة في النفوس، ولكنها وهذا هو المهم إشارة البدء.
الفصل الرابع
وعلى مصراعيه انفتح جزء من سور الدائرة الرملية المواجه للممر الذي يلاصقنا. انفتح على هيئة باب. وبينما جزء الموكب الأمامي يدلف متأنيا إلى الساحة كنت بكل الشغف وحب الاستطلاع والقلق العظيم على الصديق أختلس نظراتي الأخيرة إلى طابور الميتادورز، وإلى صديقي - الثاني إلى اليمين في الصف الأول - والطابور صفان؛ أربعة من هنا، وأربعة من هناك، وبين كل ميتادور وآخر مسافة.
ومن المقاعد في أقصى اليمين تبينت أصوات الفرقة الموسيقية تعزف المارش، والطبول تدق والأنغام تهب علينا من بعيد باهتة المعالم مخنوقة بالحشرجة. وأبالغ إذا قلت إني دهشت؛ فالواقع مرت الحركة ساعة حدوثها ببساطة، نفس البساطة التي حدثت بها حين رسم كل منهم في آخر لحظة لوقوفه، اللحظة التي سيبدأ بعدها يتحرك، رسم كل منهم علامة الصليب على صدره.
ولم يدهشني أني رأيت صديقي يفعل مثلهم مع أنه لم يكن من النظرات الأولى إليه شديد التدين. أخذتها على أنها نوع من العادة الكاثوليكية لا أكثر، وكدت أقف من صاحبي في هذا الأمر موقف المحايد لولا أني لمحت أنه لا يؤديها كعلامة أو كواجب، في وجهه بالذات - في نصف وجهه الذي كنت أراه من مكاني - كان ثمة ابتهال حقيقي واضطراب، لا بد علت معه دقات قلبه، وخيل لي أن لونه ازداد شحوبا.
ولكنها لمحة سريعة. كان أسرع منها ذلك القناع الذي انتشر فوق وجهه، وكسا مثلث ملامحه الصغير بقشرة صخرية معتمة أخفت كل شيء حتى الشحوب، وما بقي ظاهرا كان قسوة مفاجئة مجهولة المصدر، وفي اللحظة التالية كان يتحرك ليدخل «الأرينا».
ورغم أن الموكب كان يأخذ طريقه على رأسه البيكادورز (حاملي الحراب)، ووراءهما طابور الميتادورز (المصارعين)، تتبعهم صفوف غارسي الأعلام (الباندريللوس)، وصبيان اللعبة وعمالها. موكب حافل ملفت للنظر يستولي على اهتمام الجميع ويصفقون له، وهو يأخذ طريقه إلى حيث منصة الرئاسة. ورغم انشغال الناس جميعا بالموكب كنت لا أزال أفكر في علامة الصليب، ومن زاوية جديدة غيرت الموقف في نظري تماما. إن مجرد تسمية الشيء باللعبة - حتى لو كانت اللعبة مصارعة ثيران أو وحوش - يعطيها في فهمنا لونا ما. معنى غير جدي جدية تامة حتى لو كانت خطرة؛ فهي ليست سوى لعبة، واللعبة لا تقترن في تفكيرنا باللعب فقط، ولكن أيضا بالهزل. ولسبب ما، هناك، فيما وراء كل ما كنت أراه من جدية وخطورة واستعدادات، كانت فكرة أن المسألة كلها ليست بالوعورة والخطورة التي صوروها لنا في السينما والروايات، ولا بد هناك من طرق متفق عليها ومتبعة للتقليل من خطورتها في الباطن مع إضفاء الرهبة عليها من الخارج.
هذه الحركة التي لمحتها في آخر لحظة جعلت الشك يبدأ يتسرب إلي في اعتقادي، وجعلتني أتساءل: أليس من المحتمل أن تكون المصارعة مصارعة حقيقية فعلا بلا أي عبث مما اعتقدته أو اتفاق، وأن الناس جميعا يأخذونها جدا ما عداي؟
تساؤل راحت الأحداث المتعاقبة تدعمه من ناحية وتنفيه من نواح، وظللت لا أجد البرهان الدامغ الذي لا يقبل الشك، ولم أكن أعرف ما ينتظرني يومها.
Shafi da ba'a sani ba
الفصل الخامس
بنفس الاستخفاف قابلت الخطبة القصيرة التي ألقاها قائد البيكادورز أو حاملي الحراب أمام رئيس الفييستا (الاحتفال)، وكذلك كل ما تلا هذا من تسليم الرئيس للرجل مفتاح الباب المؤدي إلى حظيرة الثيران والموجود على يسار المنصة، ثم تراجع الطابور إلى حيث احتل كل مشترك فيه المركز الخاص به. المصارعون وقفوا خلف الحواجز الخشبية الواقية، والبيكادورز خارج الحلبة عند بابهم، والصبية تناثروا على محيط الدائرة يحضرون العباءات وأعلام الغرس (الباندريلالاز)، والحراب.
وسكتت الحركة في الحلبة، وكذلك خيم صمت الترقب على المدرجات و«الأرينا»، واضطر أي متحدث أن يخفض صوته وأن يدفعه الصمت المتزايد إلى أن يكف عن الحديث ويسكت تماما.
وكالمفاجأة المتوقعة تصاعدت أصوات النفير! وفتح باب الحظيرة واندفع إلى الحلبة كائن أسود مدكوك القوام، ما إن رأى الساحة خاوية والناس حولها في احتشاد عظيم حتى توقف لبرهة، لبرهة! إذ ما كاد يلوح أحد المصارعين بعباءته من آخر الحلبة حتى بدا وكأن الثور ركبه ألف عفريت؛ إذ اندفع لا يجري، وإنما يثور أو يغلي أو ينفجر جاريا، كالصاعقة منقضا، كالقوة الغاشمة العمياء، لا يقيم وزنا لشيء، وليس له إلا طريقة واحدة للتعبير عن قوة الحياة المحشودة داخله في تضاغط هائل، إلا أن ينطح بقرنيه، وقرناه ليسا كقرني ثيراننا المستأنسة بارزين إلى الجانبين، إنهما قرنان رفيعان كأسياخ الحديد بارزان إلى أمام على هيئة مسمارين مستقيمين ممتدين في تواز، وهو لا ينطح بهما أو برأسه أو باستعمال عضلات رقبته؛ إنه ينطح بكل جسده. يندفع ككتلة سوداء أسطوانية مدكوكة باللحم والعضلات إلى الأمام في سرعة هائلة، وبكل جسده المندفع المحتشد يكتسح ما أمامه بقرنيه، ولا يهم أن يكون ما أمامه صخرا أو حديدا أو إنسانا دقيقا حساسا بينه وبين هذه الحياة الشرسة الخرساء العمياء ملايين السنين من التطور والترقي.
ولكن هكذا أرادها الإنسان؛ أن يواجه هذه القوة الغاشمة التي لا ترحم، ويحشد أمام العضلات المزدحمة الرهيبة كل مزايا عقله الإنساني من ذكاء وقدرة على التصرف، وقدرة على الخبث والخديعة أيضا، ولكن كما أن العضلات المحتشدة وحدها لا تقتل، الذي يقتل شيء أكثر بدائية من العضلات هو القرون؛ فللثور قرونه، وعلى الإنسان هو الآخر أن يستعمل حين يبلغ الصراع أعلى مراحله ويصبح لا بد أن يخلص أحدهما على الآخر، أن يستعين بآلة قتل؛ بسيف؛ ليصبح السيف في يده والقرن في رأس الثور، والنصر لمن يبادر بالطعنة.
انطلق الثور هائجا كزوبعة حيوانية هبت على الدائرة الرملية، واندفعت تعصف بكل اتجاه عصفا بعث الرعب في قلوب المشاهدين الذين تفصلهم عن الثور الهائج مسافات وحواجز، ولكن الغضب الوحشي الذي كان يجتاح الثور ويوشك معه أن يحطم الأرض ويخرق السماء، ولا يبقي أو يذر شيئا بينهما؛ حالة كانت الحواجز والمسافات فيها لا يمكن أن تؤدي إلى أي اطمئنان.
كتلة الحياة الهائجة السوداء تلك، المركزة المضغوطة في هذا الحجم الثوري المحدود، هذا الجبار الطاغي الواثق بنفسه وقوته ثقة كقوته عمياء، لا يتردد معها أن يقتحم أية قوة أمامه وأي كائن مهما كان. هذا المغرور الأحمق الذي يثير الرعب بكل خلجة من خلجاته، ولا شيء على الإطلاق يدفعه هو إلى الرعب أو حتى الخوف أو التردد.
هذا المبعوث الداكن يمثل كل ما في الحياة من قوة وتعطش للعدوان والرغبة في التحطيم والدم والتخريب. هذا الذي من فرط سرعته وتجبره لا يكاد يستقر في مكان، وينتقل من محيط الحلقة إلى محيطها الآخر قبل أن تدرك أنه انتقل. هذا الموجود في كل مكان، الضيق بكل مكان، المتحرك كالبرق كالضوء، كالوباء في كل اتجاه. حركة بلا هدف إلا الحركة نفسها، ورغبة في التخريب والتحطيم بلا هدف إلا التحطيم ذاته، والتغلب على كل ما يقف في طريقه صديقا كان أو عدوا بلا هدف أو حكمة إلا هدف التغلب ذاته. كتلة الحياة المركزة تركيز الجن في القمقم، المنطلقة المتفجرة بلا غاية أو هدف، تجسد لنا ذلك المعنى الذي كثيرا ما تداولناه حتى اعتدناه، تجسد لنا كلمة الوحش، وترينا السبب والدوافع التي حدت بأجدادنا الأول أن يطلقوها على بعض أعدائهم من الحيوان.
هذه الظاهرة التي من فرط حيويتها تجعلك تؤمن أن الحياة ليست أرقى الجماد وأوجه، بقدر ما هي شيء مرعب حقا، التي تجعلك تعيد تأمل سطح الأرض وما عليها، وتدرك أن الرعب شعور لا تحسه إلا الكائنات الحية، وأيضا لا تثيره سوى هذه الكائنات نفسها، لا شيء في الطبيعة يخيف إلا كائناتها الحية، ولا شيء يخيف إلا وهو أيضا يخاف. كلها ما عدا هذا الشيء الأسود الحي الذي أعتقد أنهم اختاروه للعبة لأنه الوحيد بين الكائنات الذي يخيف ولا يخاف.
ولكنني وإن كنت قد ظللت أتابع بانتباه طاغ حركة الثور وحركة مصارعيه، إلا أنني لم أستطع من أول مرة أن أفهم. كنت أعتقد أن واحدا هو الذي عليه أن يصارع الثور من أول دقيقة إلى أن يصرعه، وإذا بالموضوع أكثر تعقيدا وله هو الآخر قواعده وأصوله ونظامه.
Shafi da ba'a sani ba
فهذا التلويح الأول بالعباءة للثور، ذلك الذي يجعله يتفجر جريا وبحثا عما يمزقه بقرنيه، في تلك المرحلة يراقب المصارع خصمه ليعرف كيف يجري والسرعة التي يتوقف بها ويستدير، ومبلغ شجاعته، ومقياس الشجاعة أن لا يتردد الثور في مهاجمة كل ما يعترضه.
ثم تبدأ المرحلة الثانية مرحلة الفرس أو «سيوريت دي فاراس»، حيث ينفخ في النفير ويدخل راكبا الخيل «البيكادورز»، وحين يلمحهما الثور يندفع بلا تردد لمهاجمة أقرب الحصانين، وتبلغ قوته حينئذ حد أن يستطيع رفع الحصان وراكبه وإلقاءه خارج الحلقة. وحين يندفع لمهاجمة الحصان ينتهز الفارس الفرصة ويغرس في كتف الثور حربة سميكة تصنع جرحا غائرا ينزف منه الدم، والغرض من إحداث الجرح هو إضعاف الثور والحد من قدرته الهائلة على المهاجمة والحركة.
بعد هذا تبدأ مرحلة الباندريللاس أو الأعلام، حيث يقوم الباندريلوس أو غارس الأعلام برشق ثلاثة أزواج من الأعلام في ظهر الثور. مهمة لا تقل خطورة عن مصارعة الثور نفسها! فعلى الراشق أن يستفز الثور إلى درجة يقبل عليه بسرعة هائلة، وفي نفس اللحظة التي يتحرك فيها الثور مهاجما ينطلق الفارس مسرعا على نفس الخط القادم منه الثور. وفي الومضة الأخيرة وهما يوشكان أن يلتقيا وتوشك قرون الثور على اختراق جسد الرجل، في آخر لحظة ينحرف الفارس بساقيه فقط عن الخط، بينما يظل نصفه الأعلى ويداه الممسكتان بالعلمين في نفس الاتجاه بحيث حين يمر الثور يرشق الفارس علميه، وبعد هذا تبدأ مرحلة الصراع أو الميوليتا وهي المرحلة التي يحاور فيها المصارع الثور باستعمال العباءة الحمراء، وفيها أيضا يمتاز المصارع على المصارع؛ إذ هي المرحلة التي تتبدى فيها ألوان وأشكال من الحيل والطرق.
وتنتهي تلك المرحلة حين يكون الصراع قد هد كيان الثور إلى حد بعيد، بحيث لم يعد يهاجم من تلقاء نفسه، ولا بد من استفزازه كثيرا لدفعه للهجوم. حينئذ يستبدل المصارع العباءة بأخرى داكنة في لون الدم، ويستبدل العصاة المعدنية بسيف، ويستعمل السيف وسيلة لفرد العباءة في سلسلة محاورات أخرى ومداورات، إلى أن يحين الحين، وبنفس الطريقة التي يغرس بها الباندريلوس علمه، يغرز بها المصارع سيفه إلى المقبض في الجزء المقابل للقلب من ظهر الثور، كل ما في الأمر أن الغرس يتم والثور شبه واقف، ولكن خطورتها على المصارع أن يستعمل يدا واحدة للطعن، بينما الأخرى تمسك بالعباءة، وأنه يضطر للاقتراب كثيرا من جسد الثور بحيث إن أي خطأ صغير في حساب المسافة يجعل منه غنيمة سهلة للقرون التي طال تعطشها إلى الفتك .
الفصل السادس
وهكذا لم أفق من استغراقي في الانتباه ومحاولة التفهم إلا على الميتادور الأول وهو يستفز الثور الذي كان قد تبلد وفقد الكثير من طاقته على الحركة والمهاجمة. الثور الذي نزف كمية هائلة من الدم، وأنهكه الجري المجنون المتواصل، وأصبح يلهث بصوت يبلغ ارتفاعه أنه كان يصلنا ونحن في أماكننا بالمدرجات بعيدا عن الساحة.
الثور الذي أصبح مهما لوح أمامه بالعباءة الحمراء لا يأبه كثيرا لها، وبرغم تعبه كان الجبار لا يقوى على كبت رغبته المجنونة في الاستجابة للتلويح الأحمر، فما تكاد تتكون لديه أول دفعة قوة وأول قدرة على الحركة، حتى ينطلق مهاجما ويعاود الكرة بضع مرات يكون قد استنفد خلالها دفعة طاقته، فيعود يرغم على الوقوف. هذه الفترة عرفت فيما بعد أنها أنسب وقت «لقتل» الثور وهو في وهنه، وقبل أن يستريح بدرجة تكفي ليعاود الهجوم مرة أخرى.
وهكذا ظل الميتادور الأول يستفز الثور للحركة حتى تحرك وأقبل ناحية العباءة بأقصى ما في قدرته من سرعة، ورغم أني رأيت كل شيء إلا أني لم أدر ما حدث بدقة، ولا يكفي أن ترى لكي تدرك! أقبل الثور مسرعا وحدثت بضعة أشياء في وقت واحد؛ أبعد الميتادور العباءة وتنحى عن طريق القرون والرأس بنصفه الأسفل، ومن سرعة الحركة وخفتها لم ألمح السيف وهو يغمد، وحين انتهت الحركة رأيت مقبضه فقط هو البادي منه إلى يسار السلسلة الفقرية.
ويا للبساطة! ما كادت تمضي ثانية واحدة حتى وجدت الثور كالحائط القديم المائل يسقط هكذا فجأة وكأنه ممثل مسرح يؤدي دور الموت، وتحسبه لا يجيد التمثيل للسرعة التي يسقط بها نفسه ويموت. حقيقة وواقع يحدثان أمامك ولا تكاد تملك القدرة على تصديقها. لا يمكنك أبدا أن تصدق أن نفس هذا الكائن الذي كان يثير بحركته وجبروته الرعب حتى في الهواء وذرات الحصى، يرقد بعد أقل من عشر دقائق في نفس الساحة التي كان يحيلها بركانا من الحياة والحركة جثة يعف عليها الذباب. نفس الجسد بنفس العضلات والقرون، بنفس القدرة والطاقة وقد أصبح فاقدا كل القدرة وانتهت حركته إلى الأبد. ولماذا؟ لأن قطعة معدن صغيرة دخلت جوفه فاختل نظام الحياة داخله وتوقف. أجل نظام الحياة. إنه لشيء مضحك حقا أن تعرف أن تلك الطاقة الحيوية الهائلة التي كانت تبدو على هيئة فوضى كاملة تريد أن تعيث فسادا في كل شيء، وتخل نظام كل شيء، وتحيل كل شيء إلى مزق. هذه الطاقة الحيوية المتفجرة لتشيع الفوضى في كل ما حولها مصدرها نظام بالغ الروعة دقيق، لولاه ما استطاع أن يحرك ذيلا أو ينش ذبابا أو يأخذ شهيقا، نظام يكفي أن تخدشه بقطعة معدن أو دبوس لكي - من شدة إتقانه - يختل وينتهي كنظام حياة ليبدأ يعمل فيه نظام آخر. نظام الموت والتحلل والفناء.
ولا بد أننا نكره هذا النظام الآخر - نظام الموت - إلى درجة مقيتة، إلى درجة أننا نأسى لو حل حتى بأعدائنا؛ فما تمنيت شيئا وأنا أرى الثور يعصف هادرا ممزقا غارسا قرنيه بوحشية في كل شيء. ما تمنيت أكثر من أن ينجح الميتادور في الإجهاز عليه ويريحنا ويريح الدنيا منه، ولكن، ولكنني حين رأيت السيف مغمدا إلى حد مقبضه في صدر الثور، ثم رأيته على أثر الطعنة المصوبة بخبرة ودقة وشجاعة يسقط ميتا رافعا ساقيه؛ شعرت رغما عني - ولماذا أختار هذا الشعور لأقول رغما عني؟ ومشاعرنا دائما لا تتحرك بإرادتنا وإنما رغما عنا - شعرت بأسى، وأحسست أنا الواحد من الثلاثين ألفا الذين كان يشيع في قلوبهم الرعب من دقائق، أحسست أني أشفق عليه شفقة حقيقية صادقة، وأنه صعب علي. وليس في قدرتي أن أجد لهذا أوهى تفسير، فليفسره علماء النفس إذا استطاعوا. وحتى لم أتبين بالضبط من الميتادور الذي كان يصارعه والذي قتله؛ فكلهم يرتدون نفس الزي ولهم تقريبا نفس القامة. لم أعرفه إلا حين تهاوى الثور وسط حلقة الميتادورات التي تلتف حوله في تلك اللحظات وكأنما تحاصره حتى تتأكد من خمود أنفاسه مخافة أن يقدم في لحظة الموت واليأس الأخيرة على قتل الميتادور الذي صرعه. من وسط هذه الحلقة وجدت واحدا منهم يتلفت وينحني ردا على تصفيق الجماهير الذي تعالى، ثم حين تأتي الأحصنة الأربعة المخصصة لجر الثور الميت وتخرجه من الحلقة مشيعا بالتصفيق الشديد والهتاف، وإخراج المناديل والتلويح بها علامة الاستحسان الكبير للطريقة والشجاعة والشرف التي تمت بها المصارعة، وللميتة المتقنة التي صرع بها الثور بغير عذاب أو ألم. حين حدث هذا وجدت الميتادور يدور حول الحلقة يرد على تحيات الجمهور، وخلفه اثنان من زملائه يجمعان الزهور والسيجار والسجائر والشيكولاتة التي تلقى له إعجابا وتقديرا.
Shafi da ba'a sani ba
وظل الميتادور يجري بضعة أمتار ويتوقف ليتلقى تحية الجزء المقابل من محيط الدائرة، ثم يعود يجري بضعة أمتار ليختصر الزمن ويتلقى تحية الجزء التالي، حتى وصل إلى ذلك الجزء من الدائرة الرملية الذي يواجه مقاعدنا. وحين رفع رأسه بعد انحناءة التحية لم أكد أصدق عيني؛ كان هو بعينه صديقي الذي منذ أن تاه عني مع الميتادورات في الساحة والقلق يجتاحني في صمت من أجله. ودون أن أحس وجدت نفسي أصفق بحماس زائد وكأني ألقاه بعد غيبة طويلة في أدغال خطرة مجهولة، وأتمنى لو كان باستطاعتي أن أقفز إليه وأعانقه وأضمه - ذلك الابن الضال - إلى صدري، وأتأكد بنفسي أنه حقيقة خرج سليما ومعافى، قبل أن ينفجر إحساسي بخيلاء الأب لأنه لم يخرج معافى فقط، وإنما خرج بطلا أيضا.
وما كان أروعه وأنا أسمعه يلقي إلى الميتادور خلفه بأمر هامس ولكن في لهجة حاسمة، لهجة قائد لا يزال بريق انتصاره يخطف البصر! كان وجهه القمحي قد ابيض تماما، ولكن الأمر يختلط عليك هذه المرة، وتمنع نفسك أن تجزم إن كان هذا البياض شحوبا شديدا سببه تعاظم الرهبة أم تعاظم الفرحة، أم الاثنان معا.
وألقى جاري الإسباني إلى الساحة - خلافا للقانون - بالمخدة الجلدية التي تستأجر بقروش لتلين من صلابة الأسمنت المسلح، وانتزعت جارتي عقدا من الفل كان حول رقبتها وقبلته وألقته إلى الساحة، ومن بين مئات الأشياء التي ألقيت إليه والتي كان يترك مهمة جمعها لمساعديه وجدته يلحظ صاحبة العقد الفل، وبعد أن كان قد استدار ليكمل الدورة وقف وانحنى والتقط الأزهار والجزء الذي انفرط منها وقبلها، ورفع يده مشيرا بها إلى الفتاة. وهاج الجمهور في المدرجات وخاصة في ذلك الجزء الذي يجاورنا، وانطلقت صفافير وصيحات هتاف واستحسان، بينما الأبصار كلها مضت تحاول أن تشق طريقها بصعوبة بين الأجساد. مئات الأجساد المتشابهة المتلاصقة لتستطيع أن تميز الفتاة التي اختارها الميتادور ليرد تحيتها.
وكنت أسعد الجميع حظا وليس علي لكي أراها إلا أن ألتفت.
والتفت.
كانت الفتاة قد تجمدت في مكانها تماما حتى خيل إلي أنها كفت عن التنفس، وبعدما أرسل قلبها كل ما استطاع إرساله من الدم إلى وجهها حتى كادت خدودها تنزف من تلقاء نفسها، توقف عن النبض. وكانت عيناها تنظران إلى أسفل مفتوحتين، ولكن، وكأن غطاء داخليا أغلقهما، وسد أذنيها، وقطع كل صلة بين حواسها وبين هدير البحر البشري الصاخب المحيط بها.
وكنت أعتقد أنها مفاجأة لن تلبث أن تزول، ولكن، حتى بعد أن انتهى الميتادور من تلقي التحيات وغادر الساحة، حتى بعد أن انتهت نظرات الاستطلاع الثانية التي تريد أن تعيد تفحصها، حتى بعد أن كاد الناس ينسون الواقعة ويندمجون في المصارعة التالية التي كانت قد بدأت، ظلت هي بنفس وضعها ولونها وتوقفت حركتها كأن الحادثة قد حنطتها على آخر وضع كانت فيه، وهبطت عليها فترينة زجاجية عزلتها عن الدنيا.
أما جاري الإسباني الآخر فقد كان يبرطم ويحادث جيرانه ويحتج، ولم أعرف ما الذي كان يثيره، ولكني استطعت أن أخمن أن الطريقة التي تم بها تبادل الإعجاب لم تخضع تماما للقواعد والأصول، وما لبث أن أخرج كتاب مصارعة الثيران وراح يقرأ، وتولى ترجمته سائح أمريكي لا أعرف ما الذي جعله يجيد الإسبانية إلا أن يكون إسباني الجدود. راح جاري يقول بصوته الجهوري المزعج: لا يصح للميتادور أن يبدي إعجابه بهذه الطريقة. إن له الحق فقط في إهداء عملية قتله للثور إلى الحسناء التي يختارها، ولكن هذا لا يصح إلا بعد مرحلة الميوليتا حين تحين لحظة القتل؛ إذ له حينئذ - وأخذ يقرأ من الكتاب - أن يقف في مواجهة السيدة، ويرفع قبضته بالتحية، ثم يستدير إلى الثور ويبدأ عمله.
ولكن إسبانيا آخر تصدى له باعتراض، وبدأ نقاش فني على مستوى عال لم يلبث أن أخمد، ليعود يظهر على هيئة همس متقطع مصر، حين دخل الثور الثاني إلى الحلبة.
وعجبت حين صدر من الجمهور على أثر دخوله مواء. قطع الجار المناقشة ليفسر لنا سببه؛ إذ يبدو أن الجمهور استصغر سن الثور وحجمه. إن أصول اللعبة تحتم أن يكون الثور - «التورو» بالإسبانية (ومنها ترى أنها قريبة جدا من الاسم العربي، بل إن الإسبان أنفسهم يقولون إن العرب هم الذين ابتكروا مصارعة الثيران وعنهم أخذها الإسبان، وهم أيضا الذين وضعوا لها تقاليدها الأول وأصولها، ولا تزال بعض التعبيرات العربية باقية إلى الآن مثل «أوليه»، وهي نفس كلمة الله التي نقولها دهشة أو إعجابا) - تحتم أن يكون الثور من سلالة الثيران المتوحشة المسماة «أورو»، حيث يختار أفرادها بعناية، ويقدم لها غذاء خاص وتربى من أجل المصارعة فقط، ويجب ألا يقل عمر الثور منها عن خمسة أعوام. وقد بدا ذلك الثور الذي دخل أقل من ذلك، أو أنه ليس بالقوة المطلوبة، ومن هنا جاء مواء الاحتجاج. ولكن الثور نفسه ما لبث أن تولى الرد على كل هذه الاعتراضات، فما إن رأى تلويحة «الكابا» الحمراء من بعيد حتى انقلب إلى زوبعة وحشية أسكتت كل الأصوات.
Shafi da ba'a sani ba
وهذه المرة حين دخل الفارس ووجه الطعنة إلى الثور المشغول بدفع قرونه في بطن الحصان، ماء الجمهور مرة أخرى اعتقادا منه أن الطعنة طالت، وأن في هذا إضعافا للثور أكثر من اللازم، والجمهور أبدا لا يريد هذا. إن الجمهور في مصارعة الثيران ليس مجرد متفرج على اللعبة. إن هناك رئيسا للفييستا أو الاحتفال يتولى الحكم والفصل، ولكن الجمهور دائما يتدخل، أولا مع الثور يحتج إذا كان ضعيفا، وأحيانا يمضي في احتجاجه مطالبا بتغيير الثور بأقوى منه. إنه يريد أن يظفر بأقصى متعة، وهو لا يفرق حينئذ بين الطرف الإنساني أو الحيواني في هذه اللعبة. كل ما يهمه أن يكون الطرفان قويين، وأن يكونا أيضا متعادلي القوة بحيث لا يحظى أحدهما بانتصار سهل على الآخر، وبحيث تطول المعركة وتصعب، وبحيث يحشد كل طرف لها أقصى ما لديه من طاقة وفن. ومصارعة الثيران قد تبدو للأجنبي لعبة يقتل فيها الرجل الثور، أو تحدث الكارثة ويقتل الثور الرجل، ولكن الجمهور الإسباني لا يأخذها هكذا أبدا، إنها عنده مباراة بكل ما تملكه الكلمة من معنى. مباراة بين القوة الحيوانية الوحشية الغاشمة من ناحية، والذكاء الإنساني والرشاقة وسرعة الإدراك والفطنة وسعة الحيلة من ناحية أخرى. مباراة بين شجاعة الحيوان اللاواعية وشجاعة الإنسان الواعية. مباراة بين الحياة في بدائيتها القوية وبينها في رقيها الذي أضعف قدرتها العضلية وقوى قدراتها العقلية، باختصار مباراة بين العضل والعقل.
ولهذا فعلى عكس ما نتصور مصارعي الثيران هم ليسوا ضخام الأجسام أو رياضيي القوام. إن كل المطلوب من أجسادهم أن تكون سريعة الحركة سريعة الاستجابة لإشارات العقل؛ ولهذا تجد معظمهم نحيفا هشا يبدو كالشاعر أو عازف البيانو، رقيقا كالنسمة، ولكنه لا بد أن يكون شجاعا. والشجاعة كلمة لا يمكن تحديد معناها بسهولة. إن الشجاعة لدى الثيران أن لا تتردد في مهاجمة كل ما يقع تحت بصرها، سواء أكانت ندا له أم لم تكن، سواء أقضى عليها أم قضت عليه، وتلك هي الشجاعة العمياء اللاواعية. الشجاعة الجاهلة. شجاعة الإنسان، والميتادور بالذات من نوع آخر؛ فهو يخاف الثور مثلما يخافه أي متفرج، بل ربما أكثر، ولكنه مطلوب منه ألا يجعل هذا الخوف يتحكم فيه! المطلوب أن يتحكم هو في الخوف بحيث يستغله كمولد للإرادة والذكاء والقدرة على التصرف، بحيث يستعمله ليشحذ كل حواسه ويحيل جسده إلى مركز راداري حساس باستطاعته أن يلتقط أوهى البوادر ويتصرف تجاهها أسلم التصرفات. فالخطورة في مصارعة الثيران تأتي مثلا من تأخر في تلقي بادرة، أو تلقيها في وقت مناسب، ولكن الرد عليها رد ليس هو المطلوب. إن أي خطأ تافه في هذه الحالة قد يؤدي إلى مصرعه. إنها امتحان خطير للانتباه والقدرة على وزن الاحتمالات بميزان دقيق ، وموهبة اختيار أفضلها.
والناس لا يولدون هكذا. إن هذه الخصال لا بد لها من تدريب شاق طويل، ومع هذا فهو تدريب لا نهاية له ولا يمكن أن تصل فيه إلى درجة تصبح بعدها في أمان مطلق؛ فالمصارعة سلسلة مواقف يدركها المصارع ويتصرف إزاءها، والتدريب الطويل لا يفعل أكثر من أن ينمي لدى المصارع القدرة على ضبط أعصابه مثلا أمام الموقف، وعلى إدراك نوعه، وعلى السرعة في إيجاد الحل. إن التدريب لا ينمي سوى القواعد العامة، أما حلول كل موقف والتصرف إزاءه ببراعة، فصحيح أن التدريب الطويل يجعلك تلم بالكثير منها، ولكن المواقف في المصارعة نادرا ما تتشابه، بحيث إنك في كل جزء من الثانية تجد نفسك في موقف جديد لا بد أن تحله حلا جديدا نابعا من الموقف ذاته؛ لهذا فالمصارع يظل مهما بلغت شهرته وصيته محل اختبار في كل مرة تحتويه الساحة مع ثور. اختبار هو معرض فيه للفشل أو النجاح كما لو كان مبتدئا؛ ولهذا أيضا لا يوجد «كبير» في الميتادورات، كلهم صغار! واللحظة التي يكبر فيها أحدهم هي فقط اللحظة التي ينتصر فيها على هذا الثور أو ذاك، لحظة ينتهي كبره بانتهائها. حتى إذا ما دخل مباراة ثانية دخلها صغيرا من جديد، احتمالات نجاحه تتساوى مع احتمالات فشله! ولا بد له - مثله مثل الداخل للمرة الأولى - أن يتوقف قبل أن يدخل الساحة ويرسم - مبتهلا - علامة الصليب.
الفصل السابع
ارتفع المواء يلعن الفارس الذي كان لا يزال يدفع حربته أكثر وأكثر داخل ظهر الثور ويطالب بإنهاء عملية الطعن حتى لا تقل قوة الثور عما هي عليه كثيرا، وحتى يظل كامل السرعة والهياج؛ فكلما ظل هكذا أصبحت مهمة الميتادور شاقة، وتطلب الأمر منه أن يعتصر نفسه ليستخرج آخر قطرات فنه وقدراته.
وإحساس غريب ذلك الذي يتملك الجمهور في تلك اللحظات القصار التي تبدو طويلة كالساعات، اللحظات التي يستغرق فيها الثور في نطح الحصان، والتي في أثنائها يغرس الفارس وبكل قواه الحربة في ظهره. لحظات لا يسكت فيها الجمهور أبدا وكذلك لا يصدر ضجة، ولكن من بينه، ومن أفواه مجهولة وكأنما ليست أفواهه تظل تصدر طوال تلك اللحظات أصوات مكتومة فيها قلق وفيها ألم وفيها معاناة، فيها إحساس بالرفض وصرخات استغاثة لا تنبعث. بينما الأجساد جميعها وبلا استثناء تتململ وتتحرك في أمكنتها ضيقا ونفاد صبر. وبينا سيدات كثيرات يشحن بوجوههن بعيدا عن المشهد، تشترك عيون بقية السيدات مع الرجال في صب نظرات حنق وضيق واحتقار فوق الفارس الطاعن، ولا تنتهي هذه النظرات أو معانيها حتى بعد أن يكف الرجل عن فعلته، بل تظل الأصوات بلغتها المبهمة المكتومة تزجره وتطلب منه بكل ما تملك من اشمئزاز أن يغادر الدائرة الرملية إلى خارج الحلقة، مشيعا بكل ما تملك النظرات من استهجان. والرجل لا ذنب له، إنه كممثل دور الشرير في الرواية الذي يتحمل بلا جريرة وزر دوره، ودوره في المباراة لا يحسد عليه! ففي مهرجان البطولة هذا، بطولة الثيران وشجاعتها من ناحية، وبطولة الميتادورات وهي تقاتل الثيران وتحاربها وتحاورها وتصرعها من ناحية أخرى، يقتصر دوره هو على الاختباء داخل دروعه والتحصن فوق حصانه، وطعن الثور والإصرار على طعنه حتى تنهد قواه.
ومع هذا فهو يظل بعد خروجه يقطع الممر الفاصل بين الساحة والجمهور والحربة في يمناه، وقبعته الخطيرة فوق رأسه، بينما هو جالس في عظمة فوق سرج الحصان المنطوح العجوز (حثالة الأحصنة التي تختار لهذه المهمة؛ حتى إذا ما نفقت لا تكون الخسارة فيها جسيمة). يقطع الممر في عظمة دونها عظمة نابليون، ونظراته التي يواجه بها نظرات الجمهور في تحد وشموخ تدل على أن رأيه في دوره يختلف تماما عن رأي الناس فيه، معتقدا لا بد أنه المتباري الأساسي، وهو أول من يأخذ «حموة الموسى»، ويلتقي بالثور وهو في عنفوان قواه، معرضا نفسه رغم كل دروعه لأخطار جمة. كم يبدو شبهه في نظراته وتصوراته تلك قريبا - وبالذات ونحن في إسبانيا - من الخالد الذكر الدون كيشوت أو كيخوت كما ينطقونها هناك!
هذا الإحساس الغريب الذي يتملك الجمهور ساعة الطعن ليس تافه المضمون أبدا ؛ إذ كيف يتململ الجمهور ويحتج لطعن ثور هائج كان يلقي الرعب في قلبه، وكان يتمنى منذ اللحظات لو تتفتح الأرض عن قوة تستطيع مواجهته وكبح جماحه؟ إن معناه هنا أن الغاية في نظر الجمهور لا تبرر الوسيلة، وأن يحتمي فارس بالدروع ليطعن الثور المتوحش القاتل في ظهره وسيلة ليست شريفة من وسائل الحرب، والوسيلة في الحرب - في أي حرب - لا تقل أهميتها ومعناها عن الهدف من الحرب نفسها. إنه احتجاج ضد الخداع والجبن! إن للجمهور دورا آخر في المباراة، دورا مهما؛ أن يحافظ على «القيم» ويحرسها. ليس مهما في نظره لمن يكون النصر، المهم دائما وأولا كيف يأتي الانتصار.
والدليل هو ما حدث لهذا الثور نفسه حين مضت أدوار المصارعة التي وضح من خلالها أن الميتادور ليس بذي باع طويل في اللعبة. وحين جاءت اللحظة التي عليه أن يصرع الثور فيها، وصوب إليه الطعنة الأولى، لم يغمد السيف إلى آخره؛ ومعنى هذا أنه لم يحسن تقدير المسافة، أو صوب الطعنة وهو أبعد مما يجب خوفا على نفسه. وقابل الجمهور فشله الأول بالصمت مؤثرا أن يعطيه فرصة أخرى، وكان عليه أن يستخرج السيف من مكانه بواسطة سيف آخر له خطاف في نهايته ويعيد الكرة. وهذه المرة أيضا لم ينفذ إلى الصدر سوى نصف السيف، وبقي نصفه الآخر مع المقبض خارجا. وماء الجمهور ولكنه آثر أيضا أن يطيل في صبره. وطعن الميتادور الطعنة الثالثة، وغاص السيف هذه المرة إلى المقبض، وخرج الميتادورات يحيطون بالثور على هيئة حلقة في انتظار سقوطه وموته، ولكنه لم يسقط إذ يبدو أن الطعنة وإن كانت قد اخترقت الصدر إلا أنها لم تصب القلب أو أحد الأوعية الكبرى. وبدلا من هذا انطلق الثور فجأة مهاجما مندفعا في كل اتجاه، باحثا عما يصوب إليه قرنيه ويطعنه.
واهتزت «الأرينا» بتصفيق حاد، وعمتها موجة من الحماس الشديد للثور الذي رفض بإصرار أن يموت. وحاول الميتادور أن يستخرج السيف الغائب إلى المقبض ليعود يطعنه، ولكن محاولته قوبلت بمواء مستنكر عريض ، وصيحات غضب ، وصفير، جعلته يعدل عنها؛ إذ الجمهور حارس القيم وحاميها، لم يعد يهمه أن يصرع الميتادور الثور بطريقة فنية، أصبح المهم لديه أن الثور لا بد سيتألم ألما شديدا نتيجة للطعنات الثلاث الفاشلة، وليس من العدل أن يظل بطل كهذا يتألم، ولا بد من إراحته فورا وتخليصه من ألمه. بمعنى آخر كان على الميتادور أن يقتل الثور في الحال باستعمال طريقة «الديسكابيلو»، وذلك بطعنه في رقبته بسيف خاص، أو ببساطة أشد بذبحه، ولكنه ذبح بلا تكتيف أو اشتراك أحد، ذبحه وهو حي واقف شديد الخطر. وتتم العملية بأن يفرد الميتادور عباءته الحمراء فوق الأرض كي ينجذب إليها بصر الثور وانتباهه، ويستغل المصارع انشغال الثور بمهاجمتها ليصوب إلى رقبته طعناته بواسطة السيف الخاص، وهي عملية بشعة ما في ذلك شك، أكثر بشاعة من عملية الطعن التي يقوم بها الميتادور، والتي تثير تقزز الجمهور. فهنا لا يعود الأمر مباراة بين طرفين لكل منهما مؤهلات قوى مختلفة، هنا الأمر عملية قتل واضحة، الثور فيها منهك خائر القوى مطعون في صدره وظهره ينزف ويلهث، ولكن مع هذا لم يتنازل عن جرأته وإصراره على الحرب والمهاجمة والاستجابة لكل ما يثيره حتى وهو في أتعس حالاته؛ ولهذا فهو ينقض على العباءة مركزا فيها همه، بينما من وراء ظهره وبالخديعة يذبح ذبحا لا فن فيه ولا مهارة إلا مهارة الجزر والجزارين.
Shafi da ba'a sani ba
عملية قتل تجعل الجماهير تفيق وتختفي من أمامها العناوين البراقة والحجب وكل ما يجعل من مصارعة الثيران رياضة تجذب وتثير الانفعال، ويبدو الأمر في النهاية على حقيقته العارية البشعة. إنه ليس سوى عملية قتل، الإنسان فيها هو الذي يتولى ذبح الثور، ويفعل هذا على مشهد من ثلاثين ألف متفرج. عملية ترعاها الدولة وتنظمها وتدعو لها في كل أنحاء العالم ليأتي السياح آلافا وأفواجا وينفقوا الإسترليني والدولار، وتمتلئ خزائن البنوك الخاوية، وفي إسبانيا بنوك كثيرة أكثر من البنوك في أي مكان آخر من العالم، ومع هذا فهي على حسب إحصاءات هيئة الأمم المتحدة أفقر بلاد أوروبا . آلاف السياح وملايين الإسترليني والدولارات التي تضل لأمر ما طريقها إلى جيوب الفقراء، وتتكدس في خزائن البنوك ولدى أصحاب البنوك وزبائنها وروادها، ويحدث هذا كله بثمن أن يقوم إنسان يرتدي ملابس مزركشة وسط ضجة ومهرجان واحتفال وموسيقى بذبح ثور وإسالة دمائه، ذبحا مؤلما أشد الألم يتأوه له الرجال ويكاد يغمى على النساء! الشاب الذي كان يجلس أمامي أخفى رأسه كالطفل المذعور بين ركبتيه، والإسباني جاري انهمك في مسح عرقه الذي مضى ينزف بغزارة، وجارتي الحسناء أخرجها المشهد من كل تصلبها الخجل وجمودها، ومن الحمرة القانية شحب وجهها حتى أصبح في صفرة العلم الإسباني. وبدأت أسنانها تصطك، بينا سيدة سمينة أمامي بصفين مضت تحملق في المشهد وهي في حالة استسلام كامل. بدا هذا واضحا من طريقة مضغها للبانة حيث لم تتوقف عن المضغ، وكلما وجهت الطعنة إلى الثور ونخ بنصفه الأمامي ألما، وتفجر الدم يبلل الرمال ويصنع منها طين الدم البني، ويلوث بعضه ملابس الميتادور الأنيقة، أطالت الفترة بين مضغة اللبانة والمضغة التالية، وبينما سيد مهذب جدا في نفس صفها يبتسم وعيناه لا تتحولان عن المشهد، وبالأصح كانت ملامحه قد توقفت على هيئة وجه مبتسم استغرقته المشاهدة وشغلته إلى درجة لم يجد لديه وقتا أو بالا لمجرد تغيير ملامحه.
مشهد لا يحرك إلا الألم البشع! يحركه استنكارا وضيقا واحتجاجا عند أناس، وعند أناس آخرين يحرك المتعة بالألم. أدنأ الأحاسيس وأكثرها خسة وشذوذا. ذلك الاستعذاب للألم والرغبة في إطالته والاستزادة منه، وكل هذا بنقود كثيرة وبدعاية واحتفالات وتهليل، والشهيد في النهاية ثور، ذلك الثور مثلا، ذلك الذي لم يلبث تحت وقع الطعنات الكثيرة أن ارتمى على الأرض مجهدا وحسبوا أنه مات، ولكنه ما لبث أن وقف مرة أخرى وكأنه بسبعة أرواح، وحاصروه وبدأ الميتادور يلوح بعباءته استعدادا لجولة طعن أخرى. وبدأ الجمهور يتأوه مقدما وبصوت عال مسموع، ولكن الثور لم يلبث أن تهاوى على جانبه لآخر مرة، وبقي في مكانه صريعا لا يتحرك.
الفصل الثامن
ومن ساحة صامتة كئيبة مليئة بالخزي والتقزز والندم والاشمئزاز ، وكأنما الجميع حتى المشاهدين قد ساهموا منذ هنيهة في ارتكاب جريمة خلقية شاذة. انسحب المصارعون كلهم حتى ذلك الذي ذبح الثور، فلا انتظار لتحية هذه المرة أو زهو. حسبه أنه سيخرج قبل أن يفطن إليه الجمهور وينفجر قاذفا إياه بكل ما في متناوله. كان الجمهور لا يزال يحيا مع الثور المقتول وكأنما يقيم له جنازة تلقائية سريعة، يتذاكر فيها كل ما أبداه خلال المصارعة من ألوان القوة، وبطريقته الخاصة. الصمت، يؤنبه.
وجاءت الخيول الأربعة، وأحكم وضع الحبل على قرونه، وبدأت تجره خارج الساحة، ومن أعماق الصمت المخيم اندفع فجأة مواء، هذه المرة عميق وحقيقي لا سخرية فيه ولا صفير، وظل يشيع جثة الثور حتى غابت بخيولها خارج الساحة. كان المواء استهجانا لمقتله، الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الجمهور في وقت كهذا أن يبدي سخطه ويصدر حكمه، الحكم بانتصار الثور الميت على الميتادور الحي، طريقة خيل إلي من صراحتها وصرامتها وقسوتها أن الميتادور لحظتها لا بد فضل ألف مرة لو كان هو الميت بهذا التمجيد على أن يكون هو الحي بكل ذلك الاستهجان. وأي إنسان مكانه كان رغما عنه يتمنى أن يصبح الميت المنتصر، ولا يبقى للحظة واحدة ذلك الحي المهزوم.
إن الهزيمة علنا وأمام الملأ هكذا وبحكم جماعي يصدره الآلاف مرة واحدة ومباشرة، الهزيمة التي لا تقبل جدلا ولا تملك أن تبررها حتى لنفسك، وما يصاحبها من ذل وخزي أكثر إيلاما من أي شيء آخر على سطح الأرض، أكثر إيلاما من الموت نفسه. إن فقد الحياة أهون بكثير من الحياة مع معاناتها.
ويا للمصارع المسكين! إنه إذا لزم جانب الحرص على نفسه ليخرج من المباراة سليما معافى لم يرحمه الناس، وإذا أراد إرضاء الناس واقترب كثيرا من الخطر لن ترحمه قرون الثور وأظلافه. للصدف جاءت وقفة الميتادور المهزوم وراء العارضة الخشبية القريبة مني، ولمحته يمسك بأعلى العارضة وكأنما يعلق أو يشنق نفسه منها، بينما جسده قد تراخى وتثنى ورأسه شبه متدل على صدره. كان يبدو كالمطعون سواء بسواء ، طعنة قرون أقسى من قرون الثور وأمر، قرون جمهور غاضب أصابته في الصميم وجعلته يتألم، ليس ألم المجروح فلم يكن هناك جرح أو دم، ولكنه ألم أشد وأعتى؛ ألم الهزيمة!
كان ما يحدث وما أراه جديدا علي تماما مروعا، لكأني في عالم مسحور وبين قوم ذوي قيم وحياة غريبة على عالمنا تماما، أو على الأقل غريبة على بلادنا في شرق البحر الأبيض وجنوبه.
إن الحياة هنا لها معنى مختلف اختلافا جذريا. لقد ربينا على أن أصح وأهم ما يمكننا عمله هو أن نحيا ونظل نقاوم الظروف والأعداء كي نبقى على قيد الحياة.
ولعل الأمر كذلك في إسبانيا نفسها وفي كل الدنيا، ولكن هنا في هذه الساحة يحاول الناس أن يخلقوا عالما آخر مختلفا عن العالم في الخارج وفي كل مكان. عالم الهدف فيه ليس أن تحيا أو تحافظ على وجودك، الهدف أن تنتصر بحيث تحل كلمات النصر أو الهزيمة محل كلمات الحياة أو الموت، وبحيث تختلف كل المقاييس تبعا لتغيير هذه القاعدة الأساسية من قواعد الوجود. وكأن الناس هنا لم يستطيعوا أن يغيروا هذه المقاييس في حياتهم العادية، فابتكروا مصارعة الثيران أو تبنوها وجعلوا لها ساحة، و«أرينا» ومتحفا وعالما كاملا يدخلونه ليحيوا ولو لبضع ساعات كل أسبوع بهذه المثل والقيم، وبدلا من أن تقرأ كتابا يروي لك قصة بطل لا يهمه الموت أو الحياة بقدر ما يهمه الهزيمة أو الانتصار، وبدلا من أن تدخل دارا للسينما أو مسرحا تطفأ فيه الأنوار وتعيش أو تقنع نفسك أنك تركت عالمك المليء بالضعف والانهيار وملايين الناس المتشبثين بحياتهم - وأنت منهم - تشبث المستميت، وأصبحت في عالم آخر، عالم مخلوق من أناس أبطال لا يترددون أمام أي صراع أو خطر، يخوضونه وينتصرون فيه أو يهلكون دونه. بدلا من هذا أوجد الإسبان لأنفسهم هذا المسرح الحي الذي يضم كائنات من الأحياء. مسرحا لا يخدعونك بتمثيل الصراع فيه، ولكنك تجد نفسك أمام صراع حقيقي لا تمثيل فيه ولا تمويه. الجماهير المطحونة المهزومة في حياتها اليومية، المتمسكة بالحياة رغم تفاهتها تمسكا مستميتا لا يخلصها منها سوى قوة قاهرة جبارة كالموت، هذه الجماهير تدخل الساحة لتشهد أناسا يستخفون بالحياة إلى درجة السفه، إلى درجة البطولة في سبيل أن ينتصروا؛ ولهذا فالمصارع لا ينظرون إليه نظرة تمجيد منفصلة عنهم. إن كلا منهم يخوض الصراع المخيف من خلاله! ويرسل كل منهم خيطا من ذات نفسه وروحه لتتجمع آلافها وتلتقي عند المصارع، وبنفسه وبها يخوض المعركة، يخوضها أساسا لحسابهم وكأنهم أنابوه عنهم ليقوم بالعمل البطولي العاجزين هم عن القيام به؛ ولهذا أيضا فما أشد نقمتهم عليه إذا لم يقم بعمله كبطل، إذا عمل حسابا لكيانه المستقل، ومحافظة عليه تهاون في القيام بالبطولة التي وكلوا إليه أمرها.
Shafi da ba'a sani ba
إنهم لم يجيئوا ليتفرجوا على براعة شاب يصارع ثورا في حدود أن يظل حيا ولو لم يصرعه، إنهم جاءوا لينيبوا عنهم بطلا، بطولته أن يواجه المخاطر وينتصر عليها؛ ولهذا فمتعتهم الغامرة ليست هي أن ينقذ نفسه بتجنب المأزق الخطر، ولكن أن يضع نفسه في المأزق الخطر ويخرج منه سالما، أن ينتصر على الخطر بمواجهته وليس بتجنبه؛ فهم في حياتهم يفعلون هذا، هم دائما يتجنبون الخطر ويهربون من المأزق مؤثرين أن يوصفوا بكلمة الجبن أو الرعونة مع النجاة أو البقاء أحياء، وهنا يريدون أن يفعلوا ما يحلمون بفعله ولا يستطيعون، أن يوصفوا بالبطولة ولو كان فيها مواجهة متعمدة للخطر وتعرض أكيد للهلاك.
ولهذا فالمصارع في إسبانيا ليس مجرد نجم رياضي؛ إنه أولا وأساسا بطل شعبي وأداة الشعب للبطولة، وكما لا يمكن أن تقبل الناس من بطلها السياسي أن يساوم أو يهادن، فهي أيضا لا تقبل أبدا من مصارعها أن يقوم بعمل ليس فيه بطولة. يجب أن يرتدي أجمل الثياب ويبدي إعجابه علانية بأجمل السيدات، وأن يتصرف دائما وأبدا كبطل. هذه الوقفة التي ينفخ فيها صدره ويقذف برأسه إلى الخلف رافعا ذقنه في ترفع وكبرياء مستفزا الثور، هذه الوقفة التقليدية لم تأت عبثا، إنها وقفة البطل. هذه المرارة القاتلة إذا هزم أو فشل في إظهار بطولته لم تأت عبثا أيضا؛ فهي ليست هزيمة شخص عادي، إنها هزيمة بطل.
ومسكين ذلك الميتادور الذي كان لا يزال يعلق نفسه من ذراعه بحافة العارضة، حتى الإشفاق لم يكن يحظى به، بل ولا نظرة التشفي. لم يكن منك إلا الإهمال التام غير المتعمد وكأنه مسح من الوجود، وكأنه انتهى دون أن يخلف أثرا، كأنه مات، بل حتى الموتى يبقى لهم بعض الأثر، أما هذا فلم يكن قد تبقى له عند الجمهور شيء، لا شيء بالمرة تبقى.
الفصل التاسع
ونفخ في الأبواق ودخل الثور الثالث.
كانت «الأرينا» لا تزال تعاني من حالة الركود المخيمة، وظلت كذلك لا حيت الثور ولا حيت الميتادور، ومرت أدوار المصارعة الأولى كما يمضي الشيء الروتيني. انتباه حقيقة وتحديق ومتابعة ولكن دون حماس شديد، أحيانا تتصاعد آهة إعجاب بحركة من حركات «الميوليتا»، ولكنها أبدا لا تشمل الساحة كلها وتبقى دائما داخل حيز محدود.
إلى أن حدث شيء لم يكن يتوقعه أحد.
كان الثور مقبلا مهاجما، وفي آخر لحظة أزاح الميتادور العباءة الحمراء كالعادة من جانبه إلى أمامه لينتهي الهجوم إلى لا نتيجة، وكالمعتاد أيضا بدأ يدور حول نفسه ليواجه الثور الذي كان قد توقف عن اندفاعه واستدار ليعود، في تلك اللحظة انزلقت قدم المصارع فوق الأرض الرملية التي تكفلت المصارعات السابقة بإثارة تربتها، وسقط الشاب على الأرض.
وفي أجزاء قليلة جدا من الثانية حدثت أشياء كثيرة مهولة؛ فعلى أثر سقطته تصاعدت من الثلاثين ألف حنجرة شهقة هلع تثير وحدها الهلع في القلوب. وكان الثور يستدير، وما إن لمح خصمه ملقى على الأرض على بعد أمتار قليلة منه حتى أقبل نحوه ككتلة شر عاتية موجهة، بينما من خلف العوارض الخشبية أسرع أكثر من ميتادور يلوح للثور الهائج المقبل كي تتكاثر أمامه الألوان الحمراء وتصرف انتباهه عن الزميل المطروح أرضا، ولكنها محاولات فشلت في صرف انتباه الثور. وفقط حين أصبح بينه وبين الشاب أقل من مترين كان الأخير بالكاد قد نجح في الوقوف وتعريض العباءة له، وهكذا أنقذ في آخر لحظة، بينما الجمهور لا يزال واقفا على أطراف انتباهه وشعوره هلعا، وقبل أن يصفق أحد لنجاة المصارع أو حتى يعود إلى جلسته كان قد حدث شيء آخر!
فبعد مرة أو مرتين والثور يهاجم والميتادور يتنحى، حدث أن فقد الشاب توازنه مرة ثانية فتهاوى، وقبل أن يسقط على الأرض كانت رأس الثور هناك إذ لم يكن قد ابتعد، واعتقد الجميع أنها النهاية هذه المرة، وقبل أن تشيح أي سيدة بوجهها ويزدرد أي رجل ريقه، كان الثور قد دفع الشاب برأسه ليرفعه إلى أعلى وليسقط أمامه ويفترسه بعد هذا، ولكن بدلا من أن يسقط الشاب إلى الأمام، بدفعة حظ واهية سقط إلى الخلف فوق ظهر الثور، وما لبث أن انزلق إلى الأرض إلى حيث استدار الثور، وتجمع الزملاء في غمضة عين يحيطون بالمصارع ويدرءون عنه الخطر، ولكن الشاب حين سقط ما كاد يلامس الأرض حتى كان قد اعتدل وكأنما ب «زمبرك»، وحتى كان ممسكا بالعباءة في يده يحاور الثور مرة أخرى، ويداوره وكأن شيئا لم يحدث.
Shafi da ba'a sani ba
وارتجت «الأرينا» بتصفيق عال راعد وكأنما يتنفس الناس الصعداء تصفيقا، وما لبث الحماس أن انتقل إلى المصارع، ونجاته من ميتتين متتاليتين أذهبت عنه غشاوة الخوف من الموت، فمضى بكل إقدام يعرض نفسه إلى مسافة شعيرات من القرون المخيفة، وينجو كل مرة في تفاديها والخروج من المأزق، وهكذا بعد السكوت الطويل مضت الساحة تجلجل ب «أوليه» إثر «أوليه» نشوة واستحسانا.
وبدأت أدرك شيئا وأكاد أضحك من نفسي.
فبالرغم من كل ما ذكرته عن الخطر والخطورة والحياة والموت، بالرغم من إدراكي أن مصارعة الثيران ليست لعبة أو رياضة، بالرغم من كل ما قلته وفكرت فيه؛ ففي أعمق أعماقي كنت لا أزال غير مؤمن بجدية خطورتها. كنت أعتقد أن كل ما يدور أمامي ليس سوى استعراض للخطورة، أما الخطورة نفسها فهي شيء لم أكن قد أحسسته بعد أو لمسته أو رأيته رأي العين.
ما الذي يمنع أن تكون هناك احتياطات دقيقة وراء كل ذلك المظهر الخطر، بحيث يمكن في آخر وقت إنقاذ المصارع ودفع الأذى الحقيقي عنه؟ وحتى حين كنت أرد على نفسي بما رأيته في المتحف وبقائمة الشهداء الموضوعة في مكان بارز، كنت أقول: لا بد أن الأمر كان كذلك أيام زمان، أيام البطولة الحقة، أيام الفتوحات الإسبانية والأرمادا، أو حتى أيام المجد أيام لوركا والحرب الأهلية، أما الآن فلقد اخترقت البلاد طولا وعرضا دون أن ألمح بادرة بطولة غير عادية، فما الذي يجعلها تنحصر هنا فقط؟ لا بد أن التطور الذي حدث لرعاة البقر في أمريكا حيث تكفلت الأيام والحياة الحديثة بنقل بطولاتهم ومسدساتهم ومغامراتهم من الحياة والواقع إلى الشاشة والقصص، لا بد أن شيئا مماثلا قد حدث لمصارعة الثيران هي الأخرى، وأصبح الخطر الحقيقي خطرا مفترضا، والشهداء والأبطال مكانهم في المتحف وليس في الحلبة، وما يدور أمامنا الآن إن هو إلا «تمثيل» متقن للعبة بحيث تحياه وكأنه حقيقة تقنع نفسك وتقنعك الدعاية والقصص والأخبار أنها موجودة، في حين أنك لو دققت وأعملت عقلك لن تجد لها أثرا.
الحادثان اللذان وقعا من لحظات كانا قد تكفلا بقلب كيان أفكاري تماما؛ فلقد أكدا لي ولكل من راوده الشك إن كان الشك قد راود أحدا، أن المسألة لا هزل فيها ولا خدعة، وأنها مصارعة جادة حقيقية، الخطر فيها ليس موجودا فقط، أو له لحظات يتبدى فيها، ولكنه قائم في كل لحظة منها، ولدى كل حركة أو التفاتة، وتكفي حصاة صغيرة تنزلق فوقها القدم لتنتهي حياة المصارع في ومضة، وقبل أن يفيق هو أو يفيق أحد لما حدث.
ويا لغرابة الإنسان! فمجرد انتقال إيماني بجدية ما يدور من طبقة في اقتناعي إلى طبقة أعمق، قلب الصورة في نظري كلية، وتغير معنى كل شيء، وأصبحت لأشياء موجودة معان لم تكن موجودة ولا تصورت وجودها.
مسألة أربكتني وجعلت حمى قلق وانتباه تجتاحني؛ إذ الآن قد أصبح كل شيء أمامي خطرا ومصدر خطر.
حتى راكب الفرس الذي يطعن الثور وهو محتم خلف دروعه يكفي أن ينطح الثور الفرس بطريقة يسقط معها الفارس إلى الداخل بدلا من الخارج لكي يقتله الثور في الحال. يكفي التواء قدم المصارع أو تكفي عثرة، يكفي ألا تواتيه سرعة البديهة في الوقت المناسب كما حدث لذلك المصارع الذي يصدر التلويحة الأولى للثور حين لم يفطن إلى شدة سرعته، فكانت النتيجة أن الثور وصل إليه قبل أن يتمكن من الوصول إلى العارضة الخشبية التي يحتمي بها المصارعون. لم يكن هناك حل للموقف إلا أن يختفي المصارع من أمام الثور بطاقية إخفاء، أو تنشق الأرض وتبتلعه، ولو فكر لجزء من ألف من الثانية في الطريقة التي يختفي بها للقي مصرعه قبل أن يكمل التفكير، ولولا أنه بلا تفكير، وبقوة ورشاقة منقطعة النظير قفز قفزة أوصلته إلى حافة السور، و«ببلانس» آخر كان قد أصبح خارج الحلقة، لولا هذا لمزقته القرون تمزيقا؛ فقد وصلت إلى السور ونطحته تقريبا في نفس اللحظة التي كان جسده يغادر خشب السور. حتى عملية غرس الأعلام، سنتيمتر واحد من الانحراف كفيل بضياع الفارس، وهذه الحركات التي يأتيها المصارع في مرحلة الميوليتا ليثبت بها قدرته وفنه، مثل الركوع على ركبة واحدة وهجوم الثور عليه وهو على هذا الوضع، والأخطر منها النزول بركبتيه، أو ما هو أخطر وأخطر الثبات في مكانه ودورانه حول نفسه فقط ليتفادى من هجوم الثور كلما غير الثور من اتجاهه. أية أعصاب مدربة علمتها الإرادة الحديدية والتمرين على الخوف ألا تفزع أو تأتي بحركة طائشة غير محسوبة، والثور يهجم عليك وقد تكفلت أنت بتحديد مكانك له، وآليت على نفسك ألا تبارحه، وفقط تتفادى من جسده المهاجم بالدوران ربع دائرة لكي يمر الثور من المسافة الكائنة في الفرق بين مواجهتك للثور بعرضك وبصدرك، ومواجهتك له بجانبك، فرق لا يزيد على الخمسة عشر سنتيمترا، بحيث لا بد أن تمسك قرون الثور وأكتافه، وتلوث الدماء الناتجة عن جرح الطعنة والأعلام المغروسة في ظهره، والدماء السائلة على كتفه ثيابك، وتفعل هذا بافتراض أن الثور سيندفع في خط مستقيم وسيبقي رأسه في أثناء المرور في خط مستقيم. ماذا لو كان الرأس معوجا قليلا اعوجاجا يحرك القرن عن موضعه ثلاثة سنتيمترات مثلا؟ ليس هناك سوى احتمال واحد لا احتمال غيره حينذاك؛ أن ينفذ القرن في جسدك بدل أن ينفذ في الفراغ.
تغيرت الصورة أمامي تماما، وتغيرت نظرتي إلى المصارعين والثيران، أما العقاب الرابض فوق «الأرينا» ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن عن وجوده وينقض، لم أعد أحس به كافتراض من خلق الخيال. أصبحت وكأني أراه لم يعد بيني وبين رؤيته منقضا سوى المفاجأة التي تخفيها اللحظة التالية، سوى حصاة تتحرك، أو بقعة أرض تلين، أو قرن يشتبك في قطعة دانتلا تزين ثوبا.
أما الميتادورات الذين كانوا يتحركون وآخذ حركاتهم قضايا مسلما بها، لم أعد آخذها كذلك. أصبحت كل حركة من أيهم لها معنى وفيها صعوبة ومشقة، وليس سهلا على أي إنسان أن يقوم بها حتى لو بدت عادية لا مجهود فيها ولا بطولة أو فن؛ فهي حركات ليست في الهواء الطلق، إنها حركات في قلب الخطر، في فم الأسد، وتحت رقابة عشرات الآلاف من العيون التي لا ترحم، وتحت رحمة كتلة الحياة البدائية المدمرة التي لا تغتفر لحظة ضعف، والتردد أمامها معناه الموت.
Shafi da ba'a sani ba
حتى الجمهور في نظري تغير، لم يعد في رأيي خارج ساحة الصراع، أصبح داخلها وجزءا لا ينفصل عنها، ودوره فيها ليس دور متفرجين آدميين. أصبح وكأنه جماعة شياطين، آلاف الشياطين! دورها في الصراع هو نفس دور إبليس والشيطان! عملها أن تزيد النار اشتعالا فتظل تحتج على طعن الثور وإضعافه حتى تبقي له كل قوته وضراوته، وتظل تموء وتهتف وتهيب بالمصارع وتوسوس له وتحرضه حتى يضع نفسه في أشد المواقف خطورة، محاصرا من كل اتجاه بمأزق الموت والحياة، مأزق الموت الأكيد والحياة شبه المستحيلة، فإذا حدث هذا تركته حينئذ يواجه مصيره وحده؛ فدورها - دور الأبالسة والشياطين - يكون قد أدى مهمته وانتهى؛ ليبدأ دورها كجماهير متفرجة همها الأوحد أن تنهل كل ذرة متعة وكل بادرة نشوة من الموقف الذي خلقته شياطينها وحرضت عليه.
تغيرت نظرتي تماما، وعرفت لماذا اجتاحت «الأرينا» موجة الحماس للمصارعة، وللمصارع الثالث الذي لم يدفعه إلى هذا الموقف الذي واجه فيه الموت مرتين إلا السلبية المطلقة التي استقبله الجمهور بها والتي ظلت هي المسيطرة طول الوقت. سلبية ليست في الواقع إلا تحريضا صامتا يضع شرطا للإيجابية والتشجيع والمشاركة أن يريهم المصارع بسالته، ويقف ولو مرة واحدة يواجه الموت، وجعلته حصاة صغيرة يفعل هذا، والحماس الذي تدفق جعل اقترابه الشديد من الثور يعرضه لموت ثان نجا منه أيضا ونال المكافأة. تلك الأوليهات التي ظلت تجتاح «الأرينا» في نوبات متعاقبة. لكم هي تافهة تلك المكافأة! وكم هو غريب ذلك التكوين الذي ينشأ عليه الميتادور والذي يستعد معه عن طيب خاطر أن يعرض نفسه للموت الأكيد من أجل «أوليهة» إعجاب قد تكون آخر ما يسمعه، بل قد ينتهي قبل سماعها.
ولكنه الإحساس بالأهمية ذلك الذي يدفع الإنسان ليقدم على أكبر حماقة في العالم كي يظفر به. إنها ليست رغبة في البطولة للبطولة ذاتها أو للشخص ذاته، ولكن لإظهارها للآخرين وأمام الآخرين. إنها كالتمثيل وفيها منه الشيء الكثير! الفرق أن الممثل هناك «يمثل» الدور وبمقدار إتقانه ل «التمثيل» وتقمصه لشخصية البطل ينال إعجاب الناس، وهنا الممثل «يقوم» بالدور فعلا، ويقوم به في مسرحية لا يتخيلها أحد، إنما في واقع كأنه مسرح، في حقيقة كأنها خيال، وبمقدار إتقانه للقيام بالدور وجعله الحقيقة تقترب من الخيال يحظى بالإعجاب. أجل! الفرق بين المسرح وحلبة الصراع أنهم في المسرح يحاولون أن يحيلوا الخيال إلى حقيقة يصدقها العقل، بينما في الحلبة يحاولون أن يحيلوا الحقيقة والواقع إلى أعمال خيالية لا يكاد يصدقها العقل! في المسرح يخلقون من الخيال حياة بطلة تدفع إلى كره الحياة الواقعة وتغييرها، وفي الحلبة يخلقون من الحياة العادية الخاملة نفسها حياة بطولة حقيقية تدفع إلى نفس الغرض، ولكنها تدفع إليه بقوة أعظم ومفعول أشد. إن الإنسان في بحثه الدائب عن بطولة الحياة وحياة الأبطال مستعد أن يستخدم أية وسيلة، حتى تلك الملوثة بالدماء المقطرة بالجريمة. إنه بحث أيضا ولكنه يتم بطريقة نيتشوية عارمة القسوة لا يغفر لها إلا أنها عارمة المفعول في نفس الوقت.
ولو أن هذا الميتادور الثالث نفسه حين جاءت ساعة القتل لم يتمكن من صرع الثور بالطعنة الأولى، ولا حتى الثانية، إلا أنه كان قد قدم دليل البطولة وقربانها واضحا لا شك فيه، وكان الجمهور رغم نهمه إلى كل ما يثيره، وضيقه بكل ما لا يؤدي إلى غرضه ويصيب، على استعداد لأن يصفح عنه من أجل هذا الفشل ويغتفره، ولا يموء والمصارع يستخرج السيف أكثر من مرة ليعود يطعن به، ويظل يفعل هذا إلى أن يخر الثور صريعا لا من الإصابات المباشرة، ولكن بحكم النزيف الذي لا بد حدث داخله.
وهكذا انتهى الشوط الأول من المصارعة وبقي جزؤها الثاني الذي كان على المصارعين الثلاثة أنفسهم، وبنفس الترتيب، أن يصرعوا فيه ثلاثة ثيران أخرى.
وفي أثناء الاستراحة التي سويت فيها أرض الساحة ودخلت عربة رش سريعة خاصة انتهت من بخ الأرض بذرات الماء لكي تبلل فقط رمالها التي جفت، في تلك الأثناء وخلال عشرات ومئات وآلاف المناقشات السريعة التي دارت بين جيران وأصدقاء وأناس لا يعرفون بعضهم بعضا، أجمعت التعليقات على أن الثيران ليست بالقوة المفروضة، وكأن هناك مؤامرة من وراء الستار لاختيارهم صغارا ضعافا هكذا ليكونوا للمصارعين غنيمة سهلة.
وأجمعت التعليقات أيضا أنه باستثناء المصارع الأول، صديقي الذي سرني سرورا خفيا هذا الإجماع على استثنائه وتفضيله؛ فالجميع دون المستوى المفروض. وبدأت حناجر إسبانية عجوز معروقة تترحم على كبار المصارعين في الزمن الغابر، وتذكر بالخير بعض الشبان المعاصرين أمثال باكوكا مينو ودييجو بورتا وجواكين برنادو وجيم أوستوس وغيرهم، ولكن الأمر لم يعدم أصواتا أكثر تفاؤلا بدأت ترتفع وتدافع عن المصارعين اللذين كان أحدهما برتغاليا من لشبونة، وكان الآخر من إسبانيا الشمال من برشلونة، وتقول إن ما حدث سببه الوحيد رهبة المواجهة الأولى، رهبة لا بد أنها زالت الآن تماما، وأنهم لا بد بسبيلهم إلى مشاهدة عرض رائع في الجزء الثاني. وما لبثت آراء بقية المعلقين أن انساقت وراء هذه التفسيرات المتفائلة مستسلمة للرأي أو مفضلة في الحقيقة أن تتفاءل وتستسلم، على أن تظل على عنادها متشائمة.
وكان مكان جارتي الفتاة خاويا، وقبل أن تذهب بي الظنون إلى أبعد من الساحة وجدتها قد عادت متأبطة باقة أزهار لا أعرف كيف وجدتها وبمثل تلك السرعة، ولكنها كانت تلهث وفي عينيها ذلك البريق الذي يفضح تصميمها على أمر ما، وكانت منفعلة تبدو كمن فقدت لتوها، وربما لأول مرة في حياتها السيطرة على نفسها، حتى إنها فعلت ما لم أكن أتصور مطلقا أن تفعله، بدأتني بالكلام لا أذكر كيف ولا في أي موضوع، ولكنا في دقائق قليلة قلنا أشياء كثيرة يأخذ الناس في العادة ساعات طويلة ليتمكنوا من قولها، وأغرب شيء أننا تحاشينا تماما ذكر الحادثة التي سببت كل هذا وحيرتني؛ فقد كان شكلها إسبانيا ولكنها كانت تتكلم الإنجليزية بطلاقة وكأنها لغتها الأولى، وتتكلمها بخناقة أمريكية واضحة.
وخمنت أنها ليست أمريكية ولكنها تحيا في أمريكا؛ فغير الأمريكان يبدون أكثر تمسكا ونطقا باللهجة الأمريكية من الأمريكان أنفسهم. والمفاجأة كانت حين أخبرتني أنها من كوبا، ولكيلا تترك ظلا من الشك أردفت أنها ضد كاسترو وأنها لا تتمنى شيئا في الدنيا قدر أن تراه مهزوما، كذلك المصارع الثاني مدحورا.
ورغم أني أحسست أن حاجزا سميكا قد سقط بيننا فجأة، إلا أن الحديث لم ينقطع، وعرفت أنها ابنة أحد كبار مزارعي الدخان الذين طردهم كاسترو، ورغم هذا فهي لم تكن تحيا في كوبا؛ كانت تعيش وتتعلم منذ طفولتها في ميامي حيث كان لأبيها فيلا يأتي إليها مع العائلة بطائرته الخاصة من عاصمة كوبا «هافانا؛ ليقضي معها هو والعائلة نهاية الأسبوع. وقد جاء الأب ليحيا معها بعد أن «ذهب كل شيء»، أما لماذا هي في إسبانيا فالسبب قصة طويلة حول ميراث وقضية وأب أصابته الصدمة بانهيار، وأصبح العبء كله على عاتقها، وليست هذه أول مرة تأتي فيها لمدريد، ولا المرة الأولى التي تشاهد فيها المصارعة، ولم تكن أبدا في حياتها تتوقع أن يحدث لها شيء مثلما حدث.
Shafi da ba'a sani ba
كانت تتكلم بلهجة التي تعرف ما تريد، ولا يمكن أن يثنيها شيء عن تحقيقه. كلام ولهجة وشخصية ما أكثر ما تقابلها في الجيل الأمريكي الجديد! الجيل الذي لم يزجره أب ولا نصحته أم، المدلل الذي عودوه منذ الصغر أن تكون رغباته ونزواته قوانين تتطوع الأسرة بتقديمها وهو طفل، ويفرضها بالقوة وهو كبير. وكانت جميلة جمالا لاتينيا متفجرا وإن كانت الحياة في ميامي قد شذبته وأمركته وصبغت أنوثتها - كمعظم الفتيات الأمريكيات - بعناد الذكور وحقوقهم، وأحيانا بصفاقتهم وخشونتهم. حقيقة تدفعك للعجب أن تكون هي نفسها الفتاة التي تجمدت محمرة خجلا منذ وقت قليل؛ فقد كان باديا عليها أنها من صنف وجيل لم يعرف الخجل ولا جربه، ولا يستحي حتى من رغباته الخاصة جدا؛ إذ هو يعتبر أن كل ما يريده ويحس به قانوني وحلال. ثم لماذا الإحساس بالخجل أمام الناس، ولا أحد يقيم لهؤلاء الناس وزنا أو يعطيهم الحق في الحد من حريته وحرية تعبيره عن رغباته؟ ربما كانت هذه المرة الأولى التي يدهمها فيها إحساس كهذا وعلى تلك الصورة، وربما أيضا، ولأنه الوحيد الذي استطاع أن يجبرها على هذا الموقف الأنثوي الخالص. لن تنسى أبدا لهذا الميتادور فعلته، بل الواضح أنها بدأت، وقد خرجت وعادت تحمل الزهور - تصرف أنثوي آخر - بدأت تنسى كل شيء. مزارع التبغ وميامي والقضية وأباها وحتى كاسترو، ويصبح همها الوحيد في دنياها - هنا - معلقا بهذا المثلث الشاحب الرشيق، بوجه صديقي الذي اخترته أنا الآخر، ولأسباب أخرى كي أغدق عليه اهتمامي وأرعاه رعاية الأب لابن ضال.
الفصل العاشر
ودوت أصوات الأبواق عالية بحيث سمعها الجميع هذه المرة، ولفت أصداؤها أنحاء «الأرينا». ورفع مراقب المصارعة السبورة الخشبية التقليدية التي يكتبون فيها اسم المصارع. كنت أعرف ومتأكدا هذه المرة أنه دور صديقي الميتادور، ولأنني استغربت أن أكن له كل ما أشعر به وأنا لا أعرف مجرد اسمه؛ فقد حاولت أن أدير رأسي مع السبورة كي أقرأ الاسم من مكاني والمراقب يلوح بها في كل اتجاه، ولكني لم أستطع. وعرفت حينئذ أن علي أن أظل أجهل اسم ذلك الصديق حتى وهو يخوض للمرة الثانية مأزق الموت والحياة.
وبينما خلت الساحة تماما من المصارعين الذين اختفى كل منهم وراء أقرب حاجز خشبي، دوت أصوات الأبواق مرة أخرى.
وفتح باب الممر المؤدي إلى الحظيرة.
ودخل الثور هائجا كالعادة، مندفعا متفجرا.
ولكن دخوله قوبل بآخر ما كنت أتوقعه؛ فقد انفجرت في الحال بقع احتجاجات متفرقة، وبدأت الصيحات تنتشر وتشمل مساحات أوسع من الجمهور.
كان واضحا أن الجمهور لا يعجبه الثور، ويرى أنه أصغر سنا مما يجب وأقل قوة.
وكانت الصيحات تطالب بتغييره.
وبدأت معركة خفية بين المشرفين على «الفييستا» وبين الجمهور؛ المشرفون هدفهم الإسراع بالإجراءات التمهيدية لوضع الجمهور أمام الواقع، والجمهور يقاوم هذا بكل قوته ويطالب بتغيير الثور.
Shafi da ba'a sani ba
أما الثور فقد كان أمره يدعو للحيرة؛ فهو في أحيان يبدو قويا يملك طاقة لا حد لها، وفي أحيان أخرى يتوقف فيظهر حجمه وسنه على حقيقتهما. وتتعالى صرخات الجمهور، بل دفعته سرعته الرعناء التي يتحرك بها مرة إلى أن يتعثر ويسقط على أطرافه الأمامية، ولكن الاندفاع الجبار الذي كان قادما به جعله يحمل جسده كله ويقلبه إلى أمام مرتكزا على قرنيه ليعود ينقلب مرة أخرى ليقف معتدلا وينطلق وبنفس السرعة إلى هدفه لا يلوي على شيء.
وبدأ المصارعون يبرزون ويلوحون، والجمهور يزداد تشنجه وصخبه.
وكمحاولة أخيرة من المشرفين دوى صوت الأبواق يأمر راكبي الفرس «البيكادورز» بالدخول، وكأنما كان هذا ليس فقط إشارة البدء لدخولهم، وإنما لاستماتة الجمهور أيضا في رفض الثور؛ فقد شملت المدرجات كلها موجات متعاقبة متزايدة صاخبة من المواء والصفير والهدير الغاضب.
ولكن الباب كان قد فتح ودخل الفارسان وكل منهما قابض على حربته، ولم يلبث كل منهما أن مضى إلى النصف الخاص به من الدائرة الرملية بحيث إذا اختار الثور أن يهاجم أحدهما انسحب الآخر.
وسكب دخولهما وقودا جديدا فوق النار المشتعلة، وازداد الجمهور عنفا، وبدأت القبضات تلوح وألفاظ السباب تسمع واللعنات من كل اتجاه تنصب على الفارسين اللذين تسرب الشحوب إلى وجهيهما، وبدأ أحدهما يلوح بحربته مهددا الجمهور في حركة لا إرادية، ولكنه تهديد الخائف الشاحب. خوف يدعو للتأمل؛ فهذا جمهور لا قرون له ولن يقتل غضبه، ولكن صيحاته، جئيرة. عداءه بعث في قلوب الفارسين رعبا دونه رعبهما من الثور والخطر الداهم بكثير.
ولم يكن هناك وقت لتأمل أكثر، ففي هذه اللحظة دوت أصوات الأبواق مرة أخرى.
حسبتها الغالبية أمرا للفارسين ببدء الهجوم.
ولكنه كان أمرا من رئيس الاحتفال وقاضيه الأعلى يطلب منهما الانسحاب ومغادرة الساحة. وارتجت «الأرينا» بتصفيق كاصطفاق أمواج المحيط.
وفرح الفارسان وقد عادت الدماء إلى وجهيهما بعد طول امتقاع.
وكذلك انسحب المصارعون بعباءاتهم إلى ما وراء العوارض الخشبية.
Shafi da ba'a sani ba
وبقي الثور وحيدا وسط الدائرة الرملية، واقفا وقفة تحفز، ينظر في ريبة إلى السكون المفاجئ الذي شمل الدنيا فجأة من حوله.
ولا بد أن الخطوة التالية كانت إخراجه من الساحة، والمشكلة العويصة التي وجدتها تحتل كل تفكيري هي كيف ومن الذي يجرؤ وأية قوة يمكنها أن تجبر هذا الكائن الجهنمي الطليق أن تجعله بطريقة أو بأخرى يعود إلى دخول الباب الذي خرج منه؟
وكنت على يقين أن التراث الطويل للعبة قد أوجد حلولا لمثل هذه المواقف، ولكن أي حل؟ ذاك ما رحت أفكر فيه، وكأن الموضوع لغز علي أن أخمن له حلا سريعا قبل أن أرى الحل الصحيح أمامي بعد قليل.
وقد فكرت في طرق شتى، ولكني أبدا لم أتصور أن يكون الحل الذي ابتكرته التجربة الطويلة والخبرة سهلا وبسيطا وعبقريا إلى هذه الدرجة.
الطريقة أنهم أدخلوا في الساحة ثلاث أو أربع بقرات من نفس الفصائل، وقد علقوا في رقابها علبا من الصفيح داخلها قطع معدنية تحدث ضجة كلما اهتزت، وقد كنت أحسب إناث هذا النوع لها نفس شراسة الذكر وطبيعته العدوانية، ولكن البقرات دخلت في هدوء وكأنها بقرات مستأنسة. وقد كنت أتصور أيضا أن الثور سينقض عليها لحظة أن يراها مثلما يفعل بالحصان أو بالخشب أو بأي مما تقع عليه عيناه، ولكنه ما كاد يسمع أصوات الخشخشة حتى رفع رأسه مترقبا والأبقار تسرع إلى وسط الحلقة حيث يقف، ليس إسراعا أهوج متفجرا أحمق، ولكنه إسراع الإناث المتأني، إسراع الحياة الحريصة على استمرارها، المعقولة.
وفي ثانية كان الثور قد اختفى بينها وأصبح فردا من قطيعها، يتحرك معه إذا تحرك وبنفس سرعته، ويقف إذا وقف وتنطبق عليه كل قوانينه، وقد زال عنه توتره وتحفزه ورعبه، وأيضا زالت تماما كل رغبة لديه في المهاجمة أو الانقضاض، وأصبح وكأنه الابن الضال الخائف المتوجس وقد عاد لأحضان أمهاته وخالاته وعماته، وزالت عنه صفات الشريد المجرم لتحل محلها وداعة أبناء الأسر.
وكان التغير سريعا وحادا وملحوظا إلى درجة لا بد تصيب المتتبع له بذهول. لكأنما عصا ساحر أشارت فاختفى الثور المرعب في ومضة وحل محله ثور آخر مختلف في كل شيء عنه. أتراها الأمومة؟ أم هي سحر الجماعة والقطيع؟ أم هو الإحساس بالونس؟ أم هذا كله مجتمعا؟ إلى درجة لم أصدق فيها ما أراه حين دخلت إلى الحلقة بعد هذا فرقة من ثلاثة أو أربعة فتيان غير مسلحين إلا بسياط تفرقع في الهواء، وبفرقعتين تحرك القطيع مسرعا ناحية باب الخروج تحركا لا تستطيع أبدا أن تميز فيه الثور المتوحش من البقرات المستأنسات. وهكذا وفي مثل لمح البصر انحلت المشكلة التي خيل إلي أنها ستستغرق أزمنا لحلها.
وأحسست بحاجتي أن يشاركني أحد فيما أفكر فيه وأتصوره، وليأسي من جاري الإسباني وبيننا الخندق اللغوي العميق، التفت إلى جارتي الفاتنة المحتضنة زهورها والسابحة في وديان، ويبدو أني فعلت هذا في وقت مناسب جدا وكأنها هي الأخرى كانت تهفو إلى من تشاركه، حتى خيل إلي أني ألمح ألفاظ الحوار المتزاحمة تكاد تنزلق من تلقاء نفسها وتغادر طرف لسانها. وكادت الإنجليزية التي أتقنها تخونني وأنا أحاول أن أجسد لها الخواطر التي راودتني وأنا أراهم يستعملون سلاح الأمومة للقضاء على وحشية الثور ورغبته في البطش.
ودون أن تعتدل وجدتها تقول في اعتداد كسول وبلهجة من تعودت أن تقول رأيها ليصبح للآخرين منزلا وقانونا: لا أمومة هناك ولا شيء من هذا. المسألة تدريب. لقد دربوا الثور على أن دخول الأبقار وما يصاحبها من ضجة معناه الأمان ومعناه أن عليه أن يترك تحفزه وبطشه. نوع من الانعكاس المشروط، ألا تعرفه؟ ألا تعرف الانعكاس المشروط الذي اكتشفه بافلوف؟
أعرفه؟! لقد كان باستطاعتي أن أقضي اليوم بطوله أناقشها فيه. ولكن ما فائدة أن تناقش إنسانة لا تناقش لتقتنع أو حتى لتظل على الحياد، وإنما هي تناقش فقط لتقنعك. إذا فرض وتنازلت هي وقبلت مبدأ أن يستمر النقاش، هكذا بدت حتى وهي هادئة تائهة سرحانة.
Shafi da ba'a sani ba
وكان غريبا منها، وفي ظرف كالذي كنا فيه، وفي أحرج فترة، تلك الواقعة بين إخراج الثور وإدخال الآخر الذي لا بد أنه أقوى وأكثر وعورة وخطرا، خطورة حتما سيتحمل وزرها وضراوتها صديقها الميتادور الذي خصها بعنايته والذي تحمل له الزهور. غريب منها في لحظات حرجة كتلك أن تستطرد سارحة أيضا وتائهة، لا لتكمل النقاش حول كيفية إخراج الثور، وإنما لكي تسألني عن شيء خاص بي أنا، عن جنسيتي. سؤال لم تصدق أني أقول لها الحقيقة مجيبا عنه. وبعناد غريب يضحك رفضت أن تقتنع أني عربي من مصر، وحمدا لله أنها اكتفت بهذا الرفض ولم تشأ أن تفرض بمنطقها شديد المراس المدلل جنسية أخرى. والظاهر أننا كنا لا بد سنصل عاجلا أو آجلا إلى الموضوع الذي تحاشيت دائما أن نخوض فيه؛ فقد سألتني عن رأيي في كاسترو وثورته. وكأنما كانت تتوقع الإجابة فلم يبد عليها الامتعاض الكثير الذي توقعته، وإن شعرت أن مجرد نطقي بالرأي قد حدد إلى درجة ما علاقتنا إلى الأبد، وجعلها تنزل من ناحيتها حاجزا سميكا لا يمكن اختراقه أو تجاهله. ومن خلال الحاجزين، ذلك الذي أسدلته من ناحيتي والذي أسدلته من ناحيتها، بدا أن لا محل ولا مجال لأية خطوة مقبلة نخطوها معا؛ فالأمر عندها ليس خلافا في الرأي أو سياسة. ليس هناك إلا واحد من اثنين؛ إما أن تكون معها فأنت حينئذ صديقها، أو عليها وضدها لكي تصبح عدوها اللدود الذي لا تتورع عن محاربته بكل سلاح وأي سلاح! والناس بالتالي ليسوا في نظرها بشرا لهم حيواتهم ووجودهم وآراؤهم الخاصة، ولكنهم أيضا إما معها أو ضدها، إما أعداء أو أصدقاء ولا وسط ولا حياد. والعداوة عداوة كاملة! والصداقة أيضا ليس فيها درجات! فهي تبغضك إذا نسيت وتجاهلتها ولم تحبها، تماما مثل بغضها لك إذا قتلت أباها. عداوة وصداقة ليست بالعقل ولا بالمعقول ولا تخضع لمنطق أو حجج؛ فهي لا تستطيع أن تبرر لك عقليا كرهها لكاسترو، وتجد أن من الإهانة لها أن تطلب منها تفسيرا لرأيها؛ إذ يكفي جدا أنها هكذا أرادت وعليك أن تقبل وليس على العالم إلا أن يخضع لتلك الإرادة وإلا عادته وأصبح في نظرها هو ذلك العالم المقيت السخيف الذي لا معنى له.
وكم أحسست بنفسي موزعا مشتتا بين كلامها الذي يكشف عن شخصية جديرة بالدراسة والتفرج، وبين انشغالي الأعظم بالمصارعة وبالثور الذي خرج، وبصديقي الميتادور وغريمه الذي لا ريب سيدخل حالا. أريد أن أترك كل شيء وأسمعها ولا أستطيع إلا أن أهب نفسي تماما للدقائق الرهيبة التي يضمني فيها ذاك العالم الجديد علي تماما.
غير أن الواقع نفسه لم يلبث أن تكفل بضبط اهتمامي؛ فقد تصاعد صوت الأبواق يعلن فتح الباب للثور الجديد.
واندفعت الكتلة السوداء داخله، وأسكت دخول الثور الساحة تماما وقضى على كل ما كان باقيا من همهمات؛ فقد اختير وكأنما ليفحم الجمهور الحاضر ويغلق أفواهه. بدا للأعين أضخم من كل ما سبقه من ثيران وأكثر قوة وشراسة. ولم يندفع إلى الحلقة في جري مراهق مجنون مثل سابقيه، ولا مضى بحمق وإسراف وبذخ يبعثر قواه في سباق موهوم لا طائل من ورائه. بدا وكأنه مدرب محترف لا حد لثقته بنفسه، يدخر قواه كلها إلى اللحظة التي يلمح فيها هدفا أو تتحرك أمامه عباءة. حينئذ وباندفاع ديناميتي صاعق، وفي أقل من غمضة عين يكون قد انطلق ووصل وانقض على الهدف مكتسحا إياه بكل سرعته وكتلته، وما في جسده المحشو من طاقات، وكأنه «بولدوزر» خرافي كفيل بتحريك الجبل إذا اعترضه، بل كفيل بسحقه ونسفه وتحويله إلى هباء . ثور ما كاد يدخل ويلوح له بالعباءة مرة أو مرتين، ويقطع الدائرة الرملية منقضا، ويبدأ الناس يمعنون فيه النظر ويتأملونه حتى تأكدت أن كلا منهم لا بد أصيب بنفس القشعريرة التي أحسستها، حتى وأنت واثق تماما ومتأكد أنك بعيد عنه وأنه لن يقترب منك أبدا ومستحيل أن يهاجمك، لا تملك إلا أن تحس بالخوف، ذلك النوع من الخوف الذي نشعر به تجاه كل شيء مهول مطلق بغير حدود، تجاه كل ما ليس له ند، تجاه كل ما لا يمكن التصدي له أو مقاومته.
ولأول مرة أحسست بالقلق العظيم يتحول إلى خوف حقيقي، خوف على صديقي الميتادور الذي كان عليه أن ينازل هذه القوة الغاشمة المطلقة. صحيح هو قد أثبت لي وللألوف الثلاثين ومنذ وقت قليل أنه بطل وأنه حاذق، وأن باستطاعته أن يصرع الثور في لمح البصر.
ولكن ما رأيناه شيء وما كنا نراه شيء آخر.
رحت أتأمل الثور وأعود أتأمل الجزء الظاهر من جسد صاحبي الدقيق النحيف، وما من مرة أعقد المقارنة إلا وأحس أني على وشك أن أصرخ طالبا منه أن يترك الساحة وينسحب. وكأنه سمع الصرخات التي لم تنطلق؛ ففي تلك المرحلة الأولى حيث يتناوب المصارعون محاورة الثور لدقائق قليلة لاختبار مدى قوته وإدراك نقط ضعفه ومعرفة طريقته في الهجوم ومبلغ تحكمه في جسده وأطرافه، خرج له صاحبنا يتحداه ويستفزه بجسد بدا أنحف وأدق مما كان، ووجه يكاد يتحول إلى مستطيل.
وانقض الثور بكل عنفه وقواه، وببساطة غريبة تحاشى الميتادور هجمته، وانقض ثانية وتحاشاه، ومرة ثالثة استجمع كل البدائية والتوحش وانقض وتحاشاه، وتصاعد من «الأرينا» تصفيق كأنه علامة اطمئنان كبرى.
واسترجعت بعض أنفاسي، وتضاءل خوفي ولكنه ظل هناك.
وبدأت مرحلة البيكادورز راكبي الأحصنة. مرحلة الطعن للإضعاف. ولم يقدر للفارس الأول أن يفعل شيئا؛ فبضربة واحدة من قرنيه أطاح الثور بالفرس وألقاه كتلة لا تتحرك في ناحية، وسقط الفارس في ناحية أخرى. ضربة من القوة بحيث اعتقد الناس أن الفارس والفرس قضيا، ولكن كان لا يزال في عمرهما بقية، وتكفل ثمانية مصارعين بشغل الثور وقتا أمكن فيه إيقاف الفرس المكوم وإخراجه، وكذلك فعلوا بالفارس.
Shafi da ba'a sani ba