وكأنما الخاطر كان يدور في العقول كلها في آن واحد؛ إذ بلا مناسبة ومن غير داع ودون أن يحدث في المعركة ما يستحق، دوت «الأرينا» كلها وفي وقت واحد بموجة تصفيق مرتفعة مدوية تحس أنها ليست موجهة إلى طرف دون طرف، إنها موجهة للاثنين معا تحييهما وتحيي معهما البطولة التي جاوزا بها الحد المتعارف عليه؛ إذ لولا صمود كل منهما ما ظفر الآخر. موجة تصفيق ما لبث أن انحسرت وانتهت.
ففي تلك اللحظة انزلقت قدم الميتادور وسقط على الأرض، في نفس الوقت الذي كان الثور فيه يستدير ليواجهه.
وكعربات النجدة السريعة اندفع المصارعون المختبئون خلف العوارض الخشبية.
وتحرك الفرسان نحو باب الدخول، وطار إلى جزء السور القريب من المعركة صبيان الملعب بالحراب الطويلة.
وكانت قلوبنا - نحن الملاصقين للمعركة - تقفز من صدورنا إلى الساحة حيث تمنع الكارثة.
ولكن صاحبنا كفى الجميع مئونة أية خطوة أو إجراء آخر؛ فما كاد يسقط ويلامس جسده الأرض حتى كان قد اعتدل، والوقت كان كافيا أمامه ليقف ويواجه الثور المقبل على قدميه، ولكنه شاء لست أدري لم، ربما ليزيل من النفوس لمحة الإشفاق التي صاحبت سقوطه، وربما ليستأنف المصارعة لا على نفس المستوى الذي سقط عنده، وإنما على مستوى أعلى وكأنما ليجعل من السقطة إلى أسفل سقطة إلى أعلى؛ ليمضي صاعدا باستمرار في أعين جمهوره.
شاء أن يواجه الثور وهو على ركبتيه نصف واقف.
ولكنه لم يجلب لنفسه سوى اللعنات، وما أغرب هذا الجمهور الذي يظل يطالب ويلح في المطالبة بالمواقف الخطرة! الجمهور الذي يحرض على اقتحام الخطر هو نفسه الذي يستنكر أن يقوم صاحبنا بحركة خطرة كهذه، ولكن يبدو أن الفترة التي قضاها صاحبنا يصارع ذلك الثور الجهنمي، ويبدي في صراعه آيات بطولة حقيقية دون أن ينتظر أحدا ليحرضه على اقتحام المخاطر إنما هو من تلقاء نفسه يقتحمها ليخرج منها سليما ظافرا، هذا كله جعل الجمهور يؤمن أنه أمام بطل حقيقي من أبطال المصارعة، أمام بطل نادر، بطل لم يحظ بإعجابه فقط، ولكن ها هي ذي اللعنات التي ننصب عليه تثبت أنه ظفر أيضا بما هو أصعب من الإعجاب بكثير، بالحب؛ حب الجمهور له، الحب الذي وصل إلى درجة الإحساس بالتملك والحرص؛ فها هو الجمهور الذي يحرض المصارعين الذين لا يعرفهم على تعريض أنفسهم للخطر مع احتمال أن يذهبوا ضحية سهلة للتحريض، ها هو نفسه أصبح يحافظ على صاحبنا ويقلق على مصيره ويحرضه هذه المرة على المحافظة على نفسه.
استنتاج دفعني بنوع من الزهو؛ فها هو الشيء الذي قدرته من أول رؤية لصاحبي، هذا الشيء الذي ربطني به من أول دقيقة ودفعني من أول دقيقة أيضا كي أتابعه وأقلق عليه وعلى مصيره، ها هو ذا تثبت صحته ويثبت أني كنت على حق. ها هي الخيوط، ثلاثون ألف خيط تمتد من ثلاثين ألف نفس وتربطهم به، ها هو الإحساس الذي كنت أحسه وحدي يشاركني فيه آلاف، آلافهم جميعا، حتى الفتاة الكوبية التي سود دماءها منذ هنيهة، ها هي ذي تبدو وكأنها نسيت كل شيء أو غفرت وراحت باهتمام يكاد يعدل اهتمام كافة البشر تتابعه وتجن قلقا عليه.
كانت مواجهة الثور على تلك الصورة عملا بطوليا حقيقة، ولكنه يتطرف ليصبح نوعا من البطولة المبالغ فيها التي هي والحمق سواء بسواء. فالثور لم يكن منهكا أو فاقدا الكثير من طاقته، والصراع كان يدور سجالا بينهما بحيث يبدو ألا حل للموقف إلا أن ينتهز أيهما أية فرصة أو ثغرة يقدمها الآخر، والركوع على الركب يعطي الفرصة كاملة للثور، ويهبط بقدرة المصارع إلى ما دون النصف بكثير، وهي حركة لا يجرؤ المصارعون على القيام بها إلا قرب نهاية النهاية، وحين يكون الثور قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت تعبا وإجهادا.
Shafi da ba'a sani ba