الشيء نفسه يحدث في المصارعة، وتتكفل أبواقها وموكبها وإجراءاتها الأولى بنقلك أنت والساحة وكل ما عليها من الحاضر الواقع بكل قيمه وأنواع بطولاته إلى عالم مضى تحياه وكأنه حاضر، وكأنهم يحضرونه لك لتحياه على أنه ماض حاضر، ولكن ليس في الأمر خدعة متفق عليها. الصحيح أنها حقيقة متفق عليها، صراع حقيقي يدور أمامك، من فرط صدقه واندماج أطرافه تندمج أنت الآخر وتتبنى الأسس التي يدور حولها الصراع، وتتحمس للقيم التي تحدد أحكامك له أو عليه.
اندماج لا يحدث في العادة بسهولة ولا يتم فجأة أو ببساطة؛ فهو يستغرق زمنا وشدا وجذبا بين أن تسلم وتصدق وبين أن تستسخف وتكذب. اندماج في الحقيقة لا يتم بإرادتك أبدا وإنما أنت تجبر عليه، تجبرك عليه الحراب والمآزق والدم النازف والخطورة التي تحدق بالمصارع لدى كل خطوة، وأن ينادي شخص بمبدأ ما بمجرد كلام ربما لا يدفعك هذا للاقتناع به، ولكنك لا بد تغير من رأيك حين تراه يخوض المعارك الدامية من أجل هذا المبدأ فيعرض نفسه لخطورة الموت ببساطة دفاعا عنه.
وهكذا بنفس منطق اللعبة، بالقوة، تجد نفسك في ردة حضارية تحياها كاملة وتقتنع بها تماما حتى لتبدأ تتحمس وتنفعل لما كان يتحمس له وينفعل الأجداد الأول، وتشمئز مما كانوا منه يشمئزون، وتمنح البطولة أو تقبضها على نفس الأسس والقيم التي كانوا بها يمنحون أو يقبضون.
ومعظم الناس تنتهي ردتهم بانتهاء المصارعة، وحين يعودون إلى حياتهم الطبيعية يزاولونها كما كانوا قبلا يفعلون بقوانين العصر وتقاليده، بمقاييس الناس الكثيرين الصغار في عالم يومهم المزدحم. معظمهم يعرفون كيف يفرقون بين الساحة والحياة فينسون حماسهم الشديد للبطولة من أجل البطولة على باب «الأرينا»، وهم أنفسهم الذين بحت أصواتهم هتافا للمصارع وهو يضحي بحياته من أجل أن يمجد قيمة أو يقوم بعمل من أعمال البطولة، هم أنفسهم الذين لا يتورعون عن الكذب في اليوم التالي والخداع واستجداء الشفقة وإزجاء الملق للرؤساء. هذه مسألة وتلك مسألة أخرى. هذه ساحة بطولة وأبطال، وتلك ساحة حياة لا بطولة فيها ولا أبطال.
وهناك قلة من الناس تفشل في الاندماج والتصديق، يأبى خيالها الضيق أن يرتد وأن يتصور شيئا آخر غير ما يزاوله في حياته ويؤمن به ويراه. من أجل هذا تغادر «الأرينا» كما دخلتها ساخرة من كل ما رأت ومن الدم الذي سال، بينما تعليقاتها لا تتعدى الحاضرين والحاضرات، وعدد الفاتنات، وهل رأيت فلانة نجمة هوليوود، والشيء الوحيد الذي يؤلمها هو ثمن الدخول؛ إذ بنفس قيمته كان من الممكن للواحد منهم أن يحتسي بضع زجاجات بيرة تعود عليه بالانبساط، أو يأكل أكلة ساخنة تغذي جسده غذاء حقيقيا مضمون الفائدة.
أما أقل القليل فهم أولئك الذين تتأخر عودتهم من تلك الردة التاريخية بعض الوقت؛ إذ تكون التجربة التي خاضوها شديدة الوقع عليهم وعلى تفكيرهم إلى درجة ليس من السهل أبدا التخلص منها.
أولئك الذين يغادرون «الأرينا» وثمة زلزال قد حدث لعقولهم، تحطمت على أثره أشياء في تفكيرهم وارتبكت أشياء. يخرجون وليسوا هم نفس الأشخاص الذين دخلوا! لقد دخلوا مجرد قادمين من عالم الناس الكثيرين الصغار حاملين قيمه ومواصفاته للبطولة، وها هم قد خرجوا وقد أتيح لهم أن يحيوا في عالم آخر ملك عليهم تفكيرهم بحيث لا يستطيعون التخلص من أثره، وبحيث يقضون أياما كثيرة بعدها طلاب بطولة على نسق التي رأوها، وباحثين عن أبطال ومخاطر وأعمال مجيدة تشيب لهولها الولدان، وكأن «الأرينا» بالنسبة إليهم اكتشاف في عالم هم يحتقرونه ويشمئزون من علاقاته البشرية ومخازيه الكثيرة وضعف الرجال فيه. ها هم يساقون إلى حيث يجدون في تلك الواحة التاريخية نموذجا حيا صادقا لعصر بطل، فتسكرهم النفحات ويتمنون أن يبقوا إلى الأبد هنا، أو حين يضطرون إلى مغادرة الساحة إلى إحالة عالمهم الحاضر كله ليصبح على شاكلة تلك الواحة .
ولكنها دفقات الانفعال الأولى والحماس؛ فما هو إلا يوم أو يومان وتبتلعهم الدوامة مرة أخرى وإذا بهم يعودون آحادا من ملايين الصغار الكثيرين الذين يزدحم بهم عالم اليوم الصغير. كل المجهود الإيجابي الذي تقوم به إراداتهم تمسكا بهذا العالم وحبا فيه أن نفوسهم بعد حين تبدأ تهفو وتلح مطالبة بعودة أخرى إلى عالم الساحة والبطولة، وشيئا فشيئا يصبحون زبائن المصارعة المستديمين.
غير أنه كما هي الحال في كل أمر مشابه، تجد هناك دائما أشخاصا نادرين أندر من أن تصدق وجودهم، لا يفعلون كهؤلاء أو كأولئك. هذه القلة النادرة يبهرها عالم «الأرينا» ويستبد بها، وتجتمع عوامل كثيرة أولها إرادة وطبيعة ثورية غير مدربة على الخضوع، بل متعتها الكبرى أن تعارض وتعير وتخرج عن الحد المرسوم. وثانيها علاقات واهية بالعالم المزدحم الصغير، علاقات ليست من القوة بحيث تجذب وترغم وتكبح جماح الإرادة وتظل وراء الثوري حتى يقنع نفسه أن قمة الثورية هي الخضوع. وثالثها استعداد طبيعي يأخذ شكل الرغبة الجامحة. هذه القلة النادرة تشاهد المصارعة مرة لتظل إلى الأبد تحياها وتحيا عالمها البطل بكل ما فيه من سحر وقيم، وسرعان ما تجدها قد انضمت إلى هذا المجتمع المحدود الضيق، مجتمع المصارعين الذي لا يرحب كثيرا بالغرباء، والذي تجد كل من فيه، أو بالأصح تجد معظمهم ونوابغهم متصوفين في محراب هذه الردة التاريخية، ومنتهى أملهم في الوصول أن يكافحوا أنفسهم ونزواتهم والمغريات الصغيرة الكثيرة من حولهم لتتشابه حياتهم داخل الدائرة الزمنية مع حياتهم خارجها؛ لتكون حياتهم سلسلة متصلة الحلقات من اقتحام المخاطر وخوض الأهوال، من النخوة والشجاعة والمواجهة والإصرار على الانتصار.
وكثيرون منهم يفشلون. إنهم جميعا أبناء فقراء وأحيانا بلا آباء، خرجتهم طفولة محرومة وصدهم وعاداهم المجتمع صبية وشبابا، وفي المصارعة عثروا على أنفسهم، على الوسيلة التي يستطيع بها الشاب النكرة اليتيم أو ابن الحرام الجائع العاطل أن يفرض نفسه على المجتمع بكل ملايينه وثرائه وطبقاته، وكما يأتي الانتصار، ومن ثمة البطولة في المصارعة باختيار الموقف الأخطر ووضع النفس فيه، ثم التغلب عليه بعد هذا واقتحامه؛ فهم أيضا في سبيل فرض أنفسهم على المجتمع الذي حرمهم كل شيء يختارون الطريقة الأخطر، أخطر طريقة؛ العمل كمصارعي ثيران، ذلك الذي يعرضون أنفسهم فيه للموت الأكيد كل لحظة، ثم لا يموتون، يقهرون الموت وينتصرون، وينحني لهم المجتمع معترفا ومتحمسا ومصفقا.
Shafi da ba'a sani ba